المليك
كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
حاجةُ الإنسانيَّةِ إلى السلام غرِيزةٌ فِطريَّة، وضرورةٌ بشريَّة، ومصلَحةٌ شرعيَّة؛ إذ لا بِناءَ ولا إعمار، ولا رُقِيَّ ولا ازدِهار، ولا تنمِيةَ ولا ابتِكارَ إلا به، وبضِدِّه الدَّمارُ والتَّبارُ والبَوَارُ. لقد كان العالَمُ قبل الإسلام تحكُمُه العصبيَّةُ القَبَليَّة، يُشعِلُون الحُروبَ لقُرونٍ طويلةٍ مِن أجلِ سَبقٍ أو نَيل ثَأرٍ، ويُهدِرُون في ذلك الدِّماءَ ويُقيمُون العدَاوات. فجاء الإسلام وعُنِيَ عنايةً فائِقةً بالدعوةِ إلى السلام، ونَبذِ الحُروبِ والنِّزاعات، والقَتلِ والصِّراعات، ورتَّبَ على ذلك عظيمَ الأجر والجزاء.
الخطبة الأولى:
إن الحمدَ لله نحمدُك ربَّنا ونستعينُك ونستغفِرُك ونتوبُ إليك، ونُثنِي عليك الخيرَ كلَّه، اللهم لك الحمدُ ربَّنا أنت السلام، ومنك السلام، تبارَكتَ يا ذا الجلال والإكرام.
الحَمدُ لله في سِرِّي وفي عَلَنِي | والحَمدُ لله في حُزنِي وفي سَعَدِي |
الحَمدُ لله عما كنتُ أعلَمُهُ | والحَمدُ لله عمَّا غابَ عن خَلَدِي |
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملِكُ القُدُّوسُ السلام، وأشهدُ أن نبيَّنا وسيِّدَنا مُحمدًا عبدُ الله ورسولُه المبعُوثُ بأزكَى القِيَم للأنام، صلَّى الله عليه وعلى آله البَرَرة الكرام، وصحبِه الأئمة الأعلام، والتابعِين أهلِ الوُدِّ والوِئام، ومن تبِعَهم بإحسانٍ يرجُو مِن المَولَى الجِنان، وسلَّم تسليمًا كثيرًا يبقَى على الدَّوام.
أما بعد: فاتَّقُوا الله -عباد الله-؛ فبتَقوَاه تتحقَّقُ المطالِب، وتُبلَغُ المراتِب، وتَنجَابُ الغياهِب، وتُحازُ المَواهِب، وتُحمَدُ العواقِب، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].
عليكَ بتَقوَى اللهِ في كل مشهَدِ | فللهِ ما أزكَى نسِيمًا ولا أبقَى! |
إذا ما رَكِبتَ التُّقَى مُستمسِكًا بِهَا | سبَقتَ بِها مَن لا يظُنُّ له سَبقَا |
معاشِر المسلمين: تفيَّأَت الأمةُ الإسلاميَّةُ أيامًا فاضِلة، وأزمِنةً مُبارَكة، تخلَّلَها موسِمٌ مِن أعظم المواسِمِ، ألا وهو: الحجُّ إلى بيتِ الله الحرام، تجلَّت فيه قضيَّةٌ مِن أهم القضايَا، وسِمَةٌ مِن أبرَزِ المزايَا، تحتاجُها الأمةُ بل الإنسانيَّةُ كلُّها، ويَطِيبُ لها أن تتنسَّمَ نفَحَات المُوادَعةِ والمُسالَمَةِ، وتتبصَّرَ أنوارَ المُهادَنَة والمُلايَنَة. وأنَّى لها ذلك في مَهيَعِ الحقِّ لنشرِها؟!
إنها قضيَّةُ "السِّلم والسلام"، ونَمِيرُ الأمنِ والأمانِ بين الأنام التي جلَّاها دينُ الإسلام في وَرِيفِ أحكامِه ومقاصِدِه العِظام، التي شمِلَت المعانِيَ الإنسانيَّةَ الرائِقة، والخُلُقيَّة الرائِعة، لاسيَّما في زمنٍ رفَعَت فيه الفِتنُ أجيادَها، وجمَعَت للشرِّ أجنادَها، وتنامَى الغلُوُّ والإرهابُ، والقتلُ والطائفيَّةُ والإرعابُ.
دِينِي هو الإسلامُ دينُ محبَّةٍ | دِينُ السلامَةِ سَالِمُ البُنيَانِ |
دِينُ المَودَّةِ والتسامُحِ والهُدَى | شَتَّانَ بين الحَقِّ والبُهتَانِ |
معاشِر المُؤمنين: حاجةُ الإنسانيَّةِ إلى السلام غرِيزةٌ فِطريَّة، وضرورةٌ بشريَّة، ومصلَحةٌ شرعيَّة؛ إذ لا بِناءَ ولا إعمار، ولا رُقِيَّ ولا ازدِهار، ولا تنمِيةَ ولا ابتِكارَ إلا به، وبضِدِّه الدَّمارُ والتَّبارُ والبَوَارُ.
لقد كان العالَمُ قبل الإسلام تحكُمُه العصبيَّةُ القَبَليَّة، يُشعِلُون الحُروبَ لقُرونٍ طويلةٍ مِن أجلِ سَبقٍ أو نَيل ثَأرٍ، ويُهدِرُون في ذلك الدِّماءَ ويُقيمُون العدَاوات. فجاء الإسلام وعُنِيَ عنايةً فائِقةً بالدعوةِ إلى السلام، ونَبذِ الحُروبِ والنِّزاعات، والقَتلِ والصِّراعات، ورتَّبَ على ذلك عظيمَ الأجر والجزاء.
فالإسلامُ - ولا غيرُ الإسلام - الذي حسَمَ شِرَّةَ الخُطُوب والكُروب، وانتَشَلَ الإنسانيَّةَ مِن أوهاقِ البَغضاءِ والشَّحناء إلى مراسِي التوافُقِ والصَّفاء، والسِّلمِ والوَفاء.
هو البَلسَمُ الشَّافِي لكلِّ عوِيصَةٍ | أعيَتْ مخاطِرُها عُقُولَ أُباتِها |
اللهُ قد فَطَرَ النُّفُوسَ على الهُدَى | وأنَارَ بالإسلامِ دَربَ هُداتِهَا |
إنه دينُ السِّلم والسلام، والوِفاقِ والوِئام، وما شُرِعَت أحكامُ الشريعة إلا لمصالِحِ العباد في أُمورِ المعاشِ والمعادِ، وحيثُما وُجِدَت المصلَحةُ المُتيقَّنة فثَمَّ شرعُ الله.
وليس مُصادفةً أن تكون كلمةُ "السلام" مُشتقَّةً مِن الإسلام؛ فلم يعرِف العالَمُ الإسلامَ إلا بعد بِعثةِ سيِّد الأنام - عليه الصلاة والسلام -، وفي ظلِّ شريعة الإسلام.
ولقد جاءَت لفظةُ "السلام" في كِتابِ الله في أربعةٍ وأربعين موضِعًا، بينما ل تَأتِ مُفردةُ "الحرب والقتال" إلا في ستة مواضِع فقط.
الله هو السلام.
وهو السَّلامُ على الحَقيقَةِ سَالِمٌ | مِن كلِّ تَمثِيلٍ ومِن نُقصَانِ |
وتحيَّةُ الإسلام السلام، والجنةُ دارُ السلام، (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ) [يونس: 25]، (لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [الأنعام: 127].
أمة الإسلام والسلام: لقد دلَّت وقائِعُ السيرة النبوية والفُتُوحات الإسلاميَّة على أن الدِّعامةَ الأُولى والأساسَ لانتِشار الإسلام: الدعوةُ بالحُسنَى، والموعِظة البلِيغَة، والكلمةِ الطيِّبة، والمُعاملةِ الحسنة حتى في أوقاتِ الحربِ والقتالِ.
روى الإمامُ مُسلمٌ في "صحيحه" مِن حديثِ بُريدة بن الحُصَيب - رضي الله عنه - قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمَّرَ أميرًا على جيشٍ أو سرِيَّة، أوصَاه في خاصَّتِه بتقوَى الله ومَن معَه مِن المُسلمين خيرًا، ثم قال: "اغزُوا ولا تغُلُّوا، ولا تَغدِرُوا، ولا تُمثِّلُوا، ولا تَقتُلُوا وَلِيدًا ولا امرأة".
وفِي رِوايةٍ: "ولا تُحرِقُوا كَنِيسةً، ولا تَعقِرُوا نَخلًا".
الله أكبر! بهذه الألفاظ مِن دُرر الخُلُود، وهذه الحَبَّات مِن نفَحَات القُدس الشُّهُود، فاضَت الوصايَا المُحمديَّة العِظام بمجامِعِ الرحمة، وزخِرَت بمعاطِف الرَّأفَة. فأيُّ سلامٍ أعَمُّ وأشمَلُ وأجمَلُ، وأروَعُ وأبهَى وأكمَلُ مِن هذا السلام الذي يعُمُّ الكَونَ بكائِناتِه وجَماداتِه ونباتاتِه؟!
فهل رأَت الدنيا، وسمِعَ التأريخُ بمبادِئ ومُثُلٍ أخلاقيَّةٍ وسُلوكيَّةٍ أشمَلَ وأكمَلَ مِمَّا جاءَ به الإسلام؟! فهل يعِي ذلك دُعاةُ العُنف والإرهاب؟!
لقد جاءَت الشريعةُ العادِلة بحِرصِها على الأمنِ والسلامِ دُون إفساد أو تدميرِ مُمتلَكات العدُوِّ، فكيف بالأخ والصَّدِيق؟! وما تقومُ به منافِعُ العِباد، ويُصلِحُ عَمارَ الأوطان والبلاد.
قال الإمامُ عليُّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - لقائِدِ جيشِه: "ولا تَدفعَنَّ صُلحًا دعاكَ إليه عدُوُّك ولله فيه رِضا؛ فإن في الصُّلحِ دَعَةً لجُنودِك، وراحَةً مِن هُمُومِك، وأمنًا لبلادِك".
أنا مُسلمٌ والسِّلمُ فِي وِجْدَانِي | سِلْمًا مِن الإرهابِ والعُدْوَانِ |
رَبِّي السَّلامُ تقَدَّسَتْ أسمَاؤُهُ | ذُو الفَضلِ والإكرامِ والإحسَانِ |
أيها المُؤمنون: إن مِن الفِرَى التي أُلصِقَت بالإسلام دُون إرواءٍ أو إحجامٍ، وكانت مَثارَ التوجُّسِ والخَوفِ مِنه: اتِّهامَه بالإرهابِ والسَّيف، والعُنفِ والظُّلم والحَيف. وتلك أُكذوبةٌ ظاهِرٌ عَوَارُها، ويُفنِّدُها أُوَارُها.
فالإسلامُ كان ولا يزالُ وسيظلُّ - بإذن الله - في علُوٍّ وانتِشارٍ، وانتِصارٍ وازدِهارٍ؛ لأنه دلَفَ إلى القُلُوبِ بالحِكمةِ والمَوعِظةِ الحسَنَة والمعروفِ، لا بالغِلظةِ والحُتُوف. وأيُّ نِعمةٍ تُزجَى، أو ثَمَرةٍ تُرجَى مِمَّن أُكرِهَ على الإيمانِ بالهُندوانيِّ والسِّنان؟! وقَد قال ربُّ العالَمين: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) [البقرة: 256]، (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل: 125].
بل إنَّ دَعوَتَهُ السَّلامُ ودِينُهُ | رِفقٌ ولَمْ يَثلِمْ تُقَاهُ خِصَامُ |
فوُعُودُه دارُ السَّلامِ، وربُّه | مِنهُ السَّلامُ، ودِينُهُ الإسلامُ |
فالإسلامُ - ولا غَير - هو المِلَّةُ التي لا تقُومُ الدنيا إلا على ضِيائِها، ولن ترشُدَ إلا بهَديِهَا وسَنائِها.
وألِيَّةٌ لا حِنثَ فيها أن العالَمَ قد خسِرَ الخُسرانَ المُبين بتأخُّر المُسلمين عن منازِلِ السِّيادة والرِّيادة، ومرافِئِ السَّعادةِ والقِيادة، لما أوصَدَت كثيرٌ مِن المُجتمعات دُون تشريعاتِهِ أبوابَها، وأرصَدَت دُون إنسانيَّةِ تعالِيمِه أبوابَها.
لكنه التفاؤُلُ يتملَّكُنا بشَبابِ الأمةِ الواعِي في هذا العصرِ، عصر التِّقانات والتحديات.
إخوة الإيمان:
ولقَد أصبَحَ الأمانُ لدَى كثيرٍ مِن المُجتمعات اليوم كسَرابٍ بِقِيعَةٍ يحسبُه الظَّمآنُ مَاءً، وإن السَّلامَ الحقيقيَّ والأمنَ المُجتمعيَّ لا يكونُ بانعِدامِ التوتُّر بين الأفرادِ والبُلدان، بل بتحقيقِ العدالَةِ فيما بينَهم، فلن يسُودَ السَّلامُ هذا العالَم إلا بإقامةِ الحقِّ والعَدلِ، وإعطاءِ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه.
اللهُ قد خَلَقَ الشُّعُوبَ سَواسِيَة | لا ربَّ بينَهُمُ ولا مربُوبَا |
لَن يَستَقِيمَ لكُمْ سَلامٌ ما شَكَا | شَعبٌ ضَعِيفٌ حَقَّهُ المغْصُوبَا |
ولا يتجسَّدُ هذا العدلُ إلا في ظلِّ الإسلامِ الوَرِيفِ.
وشَعِيرةُ الحجِّ يا عباد الله، يا حُجَّاج بيت الله - خَيرُ مِثالٍ، وأصدَقُ مَقالٍ على هذا العَدلِ المُنِيفِ، فالكلُّ فِيه سَواسِية لا يتميَّزُ فِيه أحَدٌ عن أحَدٍ، الكبيرُ والصَّغيرُ، الغنيُّ والفقيرُ يجتمِعُون في مكانٍ واحدٍ، بلباسٍ واحدٍ، يرفَعُون أكُفَّ الضَّراعةِ، ويبتَهِلُون إلى الرَّحِيمِ الرَّحمن بالقَبُول والغُفرَان.
فيا أحبَّتنَا الأكارِم في سَائِرِ الأقطارِ والدِّيار! اللهَ اللهَ في تحقيقِ الأمنِ والسَّلامِ، والمحبَّةِ والمَودَّةِ والوِئام. تسامَحُوا .. تراحَمُوا .. تآلَفُوا .. اتَّحِدُوا ولا تَخالَفُوا، (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103].
وصُونُوا أوطانَكم عن أوابِدِ العُنف والتخريبِ، وانأَوا عن مغَبَّات التلاوُمِ والتثرِيبِ، والتخذِيلِ والإرجافِ؛ فإنهما مِن أنكَرِ الأوصافِ.
كُونُوا المِرآةَ العاكِسةَ لجَمالِ الشريعةِ ومبادِئِها العِظام، وخَيريَّتها على سَائِرِ الأنام، وتلك هي المَدامِيكُ التي تُحقِّقُ الطُّمُوحات ذاتِ العَزِيمة، وتشمَخِرُّ عنها المُجتمعاتُ المُتراصَّةُ الكريمة، المُتعانِقةُ الرَّحيمة. وبذلك تُفوِّتُون الفُرصَ على اتِّهام الإسلام بالعُرَر اللَّئِيمة، والهُراءات السَّقِيمَة، وتُرِكُون أنَّ الإسلام ليس مُجرَّد رسالة سَلامٍ، بل هو السَّلامُ الحقيقيُّ ذاتُه والوِئامُ.
فالإسلامُ وبكلِّ فَخرٍ واعتِزازٍ قدَّمَ للعالَم أعظمَ حضارةٍ عرفَها التأريخ، وهو - بفضلِ اللهِ - عصِيٌّ على الغُلُوِّ أو الانهِزاميَّة والذَّوَبان.
وإن سَلامَ وأمنَ الدَّولة واستِقرارَها وهيبَتَها خطٌّ أحمرُ لا يُمكنُ تجاوُزُه، وهو مسؤوليَّةُ الجميعِ، يجِبُ عليهم المُحافظةُ عليه، والالتِفافُ حول القِيادة الرَّشِيدة، والتلاحُم مع وُلاةِ الأمرِ ضِدَّ كل مَن أرادَ بأمنِها سُوءً، مِن دُعاة الشرِّ والفِتنة، ومَن يُريدُ المِساسَ بالوَحدةِ الدينيَّة، واللُّحمةِ الوطنيَّة، والخُروجَ على الأئمة، ونَزعَ يَدِ الطاعةِ مِنهم.
هذا وإنا لنَسألُ المَولَى - سبحانه - أن يحفَظَ بِلادَنا وأمَّتَنا الإسلاميَّةَ، وسائِرَ بِلادِ المُسلمين مِن كَيدِ المُتربِّصِين الأعداء، والخائِنِين الدُّخَلاء، وأن يحفَظَ بِلادَ الحرمَين الشريفَين مِن كل سُوءٍ ومكرُوهٍ منارَةً للحقِّ والسَّلام، عزيزةً شامِخةً، ثابِتةً على الحقِّ راسِخةً، وأن يُدِيمَ عليها الأمنَ والأمانَ، إن ربِّي سمِيعُ الدُّعاء، مُجِيبُ الرَّجاء.
أعوذُ بالله مِن الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [البقرة: 208].
بارَكَ الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعَنا بما فيهما مِن الآيات والحِكمة، أقولُ قولِي هذا، وأستغفِرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولكافَّة المُسلمين والمُسلمات مِن كل الذُّنوبِ والخَطِيئات؛ فاستغفِرُوه وتوبُوا إليه، إنه كان عفُوًّا غفُورًا.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله تتِمُّ الصَّالِحاتُ بنِعمتِه، وتتحقَّقُ الخَيراتُ بمِنَّتِه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له لا خَيرَ إلا مِنه، ولا فضلَ إلا مِن لدُنْه، وأشهدُ أن نبيِّنا مُحمدًا عبدُ الله ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِه وصحبِه والتابِعِين، ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد .. فيا عباد الله: اتَّقُوا الله حقَّ التَّقوَى، واسعَوا لكلِّ صَلاحٍ وإعمارٍ؛ تُدرِكُوا - بإذنِ الله - أسمَى المنازِلِ والأقدارِ.
إخوة الإيمان: إنَّ مِن فضلِ الله - سبحانه - وعظيمِ آلائِه التي تَلهَجُ بها الألسُنُ ابتِهالًا ودُعاءً وشُكرًا وثَناءً: ما مَنَّ الله به على المُسلمين في خِتامِ هذا العامِ مِن حجِّ بيتِ الحرام، والذي كان شِعارُه ودِثارُه: الحجُّ رسالةُ سَلامٍ.
فلتَكُن رِسالتُنا مِن بلدِ الله الحرام للعالَمِ أجمَع في العام الهِجريِّ الجدِيدِ، الراسِمِ في الأُفُق إشراقَةَ التفاؤُلِ المبثُوثِ بلآلِئِ الأملِ المبعُوثِ: أن هلُمُّوا إلى السلامِ في ظلِّ الإسلام، وسُنَّة سيِّد الأنام، والحَذَرَ مِن مُهدِّداتِه ومُعوِّقاتِه.
ألا إن مِمَّا يُقَوِّضُ عمليَّةَ السَّلام أفعالَ الصَّهايِنةِ المُعتَدين ضِدَّ المسجِدِ الأقصَى المُبارَك، وما يعِيشُه إخوانُنا في بِلادِ الشَّام والعِراقِ واليمَن، وإخوانُنا في بُورما وأراكان ومُسلِمُو الرُّوهِينجَا مِن اضطِهادٍ وتقتيلٍ وتشريدٍ، في فاجِعةٍ إسلاميَّةٍ كُبرَى، وكارِثةٍ إنسانيَّةٍ عُظمَى.
وكذا رَواجُ الأفكار المُتطرِّفة، والتنظيمات الإرهابيَّة، ودَعمُ الأموال وتموِيلُه، وتشجِيعُ المسِيرَات والمُظاهَرات، وبَثُّ الشَّائِعات المُغرِضَة مِن قَنَواتِ الفِتنةِ وأبواقِها.
يجِبُ العملُ على شرِ ثَقافَةِ السَّلام، لاسيَّما في مناهِجِ التعليمِ، ووسائلِ الإعلام، ومواقِعِ التواصُل الاجتماعيِّ، خاصَّةً بين فِئاتِ الشَّبابِ، وأهميةِ ترسِيخِ آلِيَّات الحِوار، في برامِج تَوعَوِيَّة لمُكافَحةِ التطرُّف، وتَعزِيزِ قِيَم التسامُحِ والتعايُشِ، وإحلالِ الأمنِ والسِّلمِ الدوليَّين، ورَفضِ أعمالِ العُنفِ والصِّراعات الدمويَّة، وخِطابِ التحريضِ والكراهِيَة، ودعَوَات العصبِيَّة والطائِفِيَّة، وما يبُثُّ الفِتنةَ، ويهُزُّ اللُّحمةَ الوطنيَّة.
وهذا - ولله الحمدُ والمِنَّة - هو دَأبُ هذه البِلاد المُبارَكة - حرَسَها الله - بلدِ الإسلام، ورَمزِ السَّلام، (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [التوبة: 32].
وإنَّ مِن النِّعمِ الفرائِدِ التي أنعمَ المَولَى - جلَّ وعلا - بها على بِلادِنا السَّنِيَّة: أن جعَلَها مَهدًا للإسلام، ورائِدةً للسَّلام، ورَاعِيةً للحرمَين الشريفَين وقاصِدِيهما مِن الحُجَّاج والمُعتمِرين والزُّوَّار.
فلله الشُّكرُ على جزيلِ إحسانِه، وعظيمِ امتِنانِه.
وإنَّ مِن المحامِدِ والمآثِرِ التي شهِدَت بها الدنيا مِن المُنصِفِين، وأطبَقَ عليها الأنامُ خلَا المُزايِدِين والمُغرِضِين، والحاقِدِين والحاسِدِين والشَّانِئِين: ذلك الجُهدُ المشكُور، والسَّعيُ المبرُور لخادِمِ الحرمَين الشريفَين - لا يَزالُ مُسدَّدًا مُوفَّقًا -، ووليِّ عَهدِه الأمين، وكلِّ العامِلِين في خِدمةِ الحرمَين الشريفَين وقاصِدِيهما مِن مسؤُولِين، وعامِلِين، ورِجالِ أمنٍ، وكلِّ مَن أسهَمَ في تيسيرِ أداءِ مناسِكِ الحجِّ للحُجَّاج، والقِيامِ على خِدمتِهم وراحتِهم وأمنِهم وسَلامَتِهم.
شكَرَ الله سعيَهم، وبارَكَ جُهودَهم، وأجزَلَ عطاءَهم، وضاعَفَ مثُوبَتَهم، وجعلَ حجَّنا مبرُورًا، وسعيَنا مشكُورًا، وذَنبَنا مغفُورًا، وأعادَ الحُجَّاجَ إلى بِلادِهم سالِمِين غانِمِين، مأجُورِين غيرَ مأزُورِين.
هذا وصلُّوا وسلِّمُوا - رحِمَكم الله - سِرًّا وجَهرًا على خَيرِ الورَى طُرًّا، وأفضَلِهم شَرَفًا وقَدرًا نبيِّنا مُحمدِ بن عبدِ الله القُرشيِّ الهاشِميِّ، كما أمرَكم بذلك المَولَى الكريمُ العلِيُّ، فقال - جلَّ جلالُه -: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَن صلَّى علَيَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عَشرًا".
مِنِّي علَيه سَلامٌ نَشرُهُ عَطِرُ | ما سَارَ بَدرُ الدُّجَى في الأُفْقِ مُنتَقِلَا |
وارضَ اللهم عن الخُلفاء الراشِدين، والأئمةِ المهديِّين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائِرِ الصحابةِ والتابِعِين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّ معَهم برحمتِك يا أرحم الراحِمِين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وسلِّم الحُجَّاج والمُعتمِرين والزَّائِرِين، وحْمِ حَوزَةَ الدين، واجعَل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا وسائِرَ بلادِ المُسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا ووُلاةَ أمورِنا، وأيِّد بالحقِّ إمامَنا وولِيَّ أمرِنا، اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانَه وأعوانَه إلى ما فِيه صَلاحُ البِلاد والعِباد، اللهم اجزِهم خيرَ الجزاء وأوفَرَه جزاءَ ما قدَّموا ويُقدِّمُون لحُجَّاج بيتِك الحرام، وللمُعتمِرين والزَّائِرين، اللهم اجعَل ذلك في موازِين أعمالِهم الصالِحة يا سميعَ الدُّعاء، يا مُجيبَ الرَّجاء.
اللهم انصُر إخوانَنا المُستضعَفين في دينِهم في كل مكان، اللهم كُن لهم ولا تكُن عليهم، اللهم عجِّل بنَصرِهم يا قويُّ يا عزيزُ، اللهم كُن لإخوانِنا في فلسطين، اللهم أنقِذِ المسجِدَ الأقصَى مِن براثِنِ الصهايِنة المُعتَدِين المُحتلِّين، اللهم اجعَله شامِخًا عزيزًا إلى يومِ الدِّين.
اللهم أصلِح حالَ إخوانِنا في العِراق، وفي اليمَن، اللهم كُن لإخوانِنا في بِلادِ الشَّام يا ذا الجَلالِ والإكرامِ، اللهم انصُر إخوانَنا في ميانمار، وفي أراكان ومُسلمِي الرُّوهِينجَا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ارحَم ضعفَهم، واجبُر كَسرَهم، وتولَّ أمرَهم يا حيُّ يا قيُّوم.
يا حيُّ يا قيُّوم برحمتِك نستغِيثُ، فلا تكِلنا إلى أنفُسِنا طرفةَ عينٍ، وأصلِح لنا شأنَنا كلَّه يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم احفَظ بِلادَنا، واحفَظ أمنَنا واستِقرارَنا ورخاءَنا، اللهم مَن أرادَنا وأرادَ أمنَنا بسُوءٍ فرُدَّ كَيدَه في نَحرِه، واجعَل تدبِيرَه تدمِيرَه يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم رُدَّ عن بِلادِنا وعن سَائِرِ بِلادِ المُسلمين كَيدَ الكائِدِين، وعُدوانَ المُعتَدين، وحِقدَ الحاقِدِين، وحسَدَ الحاسِدِين، ومُزايَدَة الشَّانِئين يا رب العالمين.
اللهم اغفِر للمُسلمين والمُسلمات، والمُؤمنين والمُؤمنات، الأحياء مِنهم والأموات.
اللهم فرِّج همَّ المهمُومين مِن المُسلمين، ونفِّس كَربَ المكرُوبين، واقضِ الدَّينَ عن المَدِينين، واشفِ مرضانَا ومرضَى المُسلمين.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
ربَّنا تقبَّل منَّا إنك أنت السَّميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوَّابُ الرحيم، واغفِر لنا ولوالدِينا ووالدِيهم ولجميعِ المُسلمين الأحياء منهم والميِّتين، برحمتِك يا أرحم الراحمين.
سُبحان ربِّك ربِّ العزَّة عما يصِفُون، وسلامٌ على المُرسَلين، والحمدُ لله رب العالمين.