الرحيم
كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...
العربية
المؤلف | محمد ابراهيم السبر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | السيرة النبوية - |
وأيُّ معيّةٍ تعدِل معيةَ الله؟ إنّها الحِصن الحَصين من كلِّ الغوائِل، والعُدَّة في كلِّ شدةٍ، والدّرع الواقي من سهام البوائِق والشّرور، لكنَّ هذه المعيَّةَ الخاصّة التي تكون بالتّأييد والتّوفيق والحِفظ والمعونةِ والنّصر إنّما جعلها الله -تعالى- لأوليائِه المتّقين المحسِنين الذين بذلوا حقَّ الله عليهم في توحِيده وإفرادِه بالعبادةِ وتركِ الإشراكِ به، ثمََّ بامتثال أوامرِه والانتهاء عمَّا نهاهم عنه.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر المؤمنين والمؤمنات: إن استقبال عام هجري جديد يذكرنا بهجرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يوم أن بعثه الله والضلال قد خيَّم على أهل الأرض، وقد مَقَتَهُم الله عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، بعَثَه والناس يعبدون الحجارة والأوثان والأولياء من دون الله، ويعيشون على السلب والنهب والقتل؛ فبعث الله محمداً رسولاً منهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، فهدى به من الضلالة، وعلَّم به من الجهالة، وبصَّر به من العمى، وقام بأداء رسالة ربه خير قيام، فبشَّر وأنذَر.
وصدَع بأمر الله -تعالى- وجهر؛ وجعل المشركون يسخرون منه ويستهزئون به، ويؤذونه أشد الأذى، ويعذِّبون من آمن به ليردوهم عن دينهم، وكان عمه أبو طالب يحميه من أذى قومه، وكانت زوجته خديجة -رضي الله عنها- تؤنسه وتعينه.
واشتد أذى قومه له، ولمن آمن به؛ لما مات عمه أبو طالب وزوجه خديجة -رضي الله عنها-؛ فاشتد حزنه، وتطاول عليه المشركون، وقويت عليه الكربة، وضاق به الحال، فقيَّض الله له الأنصار من أهل المدينة، والتقوا به في موسم الحج، وآمنوا به، وبايعوه على أن يمنعوه إذا قَدِمَ إليهم في المدينة مما يمنعون منه نساءَهم وأولادهم.
وبعد البيعة أذِن الله له بالهجرة؛ فهاجر إلى المدينة في شهر ربيع الأول بعد ثلاث عشرة سنة من بعثته، وبصحبته أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-؛ فاستقبله الأنصار، ومنعه الله بهم من أذى الكفرة والمشركين، وأسَّس الدولة الإسلامية، وما هي إلا أعوام قليلة حتى فتح الله له مكة، فدخلها فاتحاً منصوراً تحيط به جيوش التوحيد وكتائب الإسلام، ثم دانت له عرب الجزيرة، وتوطَّد فيها حكم الإسلام، وعُبِدَ الله وحده لا شريك له.
هذه الحادثة العظيمة تمد المسلمين بالعبر والعظات والدروس والتوجيهات، وقد شاء الله -تعالى- أن تكون بأسباب مألوفة للبشر، فقد تزوَّد فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- للسفر وركب الناقة، واستأجر الدليل الخريت، واتخذ صاحباً، وتخفَّى، وجعل علياً في فراشه، ولو شاء الله لحملَه على البراق، ولكن ليكون قدوة لأمته من بعده في فعل الأسباب والأخذ بها مع التوكل على الله.
إن حال المسلمين اليوم يوجب الاستفادة من معاني الهجرة النبوية؛ فلن يصلح حال المسلمين في هذا العصر إلا بما صلح به أولها.
إن من أهم دروس الهجرة: أن المسلم مأمور بعبادة ربه كل وقت وحين ولو حِيلَ بينه وبين ذلك في مكان إقامته وجب عليه الخروج إلى أرض الله الواسعة ليعبد ربه؛ قال –تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء: 97]، واستثنى الله -عز وجل- الذين لا يستطيعون الخروج من النساء والأطفال فقال سبحانه: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) [النساء: 98- 99].
ومن دروس الهجرة: الثقة بنصر الله ووعده عند الشدائد وكمَال اليقينِ بمعيّة الله -تعالى- لعبادِه المؤمنين يقيناً راسخاً لا تزعزِعُه عواصِف الباطل، ولا يُزلزِله إرعادُ أهلِه ولا إبراقهم، ولا يهزّه تهديدُهم ولا وعيدهم، فحين عظُم الخَطب وأحدَق الخطرُ ببلوغ المشركين بابَ الغارِ الذِي كان فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه، قال أبو بكر -رضي الله عنه-: "والله يا رسول الله، لو أنَّ أحدَهم نظر إلى موضعِ قدمَيه لرآنا"؛ فقال رسول الله: "يَا أبَا بَكر، مَا ظنُّكَ باثنَين اللهُ ثالثُهما"؛ فأنزَلَ -سبحانه- مصداقَ ذلك في كتابه: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 40].
وأيُّ معيّةٍ تعدِل معيةَ الله؟ إنّها الحِصن الحَصين من كلِّ الغوائِل، والعُدَّة في كلِّ شدةٍ، والدّرع الواقي من سهام البوائِق والشّرور، لكنَّ هذه المعيَّةَ الخاصّة التي تكون بالتّأييد والتّوفيق والحِفظ والمعونةِ والنّصر إنّما جعلها الله -تعالى- لأوليائِه المتّقين المحسِنين الذين بذلوا حقَّ الله عليهم في توحِيده وإفرادِه بالعبادةِ وتركِ الإشراكِ به، ثمََّ بامتثال أوامرِه والانتهاء عمَّا نهاهم عنه.
ومن دروس الهجرة: حفظ الله لرسوله ونصرته لدينه وإعلاء كلمته مع محاولة الكفار قتله والقضاء على دينه. وما يحدث هذه الأيام من محاولات جبارة ماكرة للقضاء على هذا الدين وحفظ الله له رغم الكيد الكبار لأكبر شاهد على تكفل الرب -عز وجل- بحفظ دينه وإعلاء كلمته: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) [الأنفال: 36].
ومن دروس الهجرة: حب المؤمنين لنبيهم -صلى الله عليه وسلم- فقد رُوي في قصة الهجرة أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- كان يمشي تارة أمام النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتارة خلفه، وتارة عن يمينه، وتارة عن شماله؛ خوفاً من أن يأتيه مكروه فيفديه بنفسه -رضي الله عنه-. وهكذا كان بقية أصحاب رسول الله، كانوا يفدونه بأموالهم وأبنائهم وأنفسهم، وهذا هو حال المؤمنين في كل زمان.
ومن علامات محبة النبي متابعته فيما يأمر به، وعدم تقديم أيِّ أمر على أمره. وتلك هي المحبة الحقيقية (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [آل عمران: 31].
ومن معاني الهجرة: وجوب هجرة القلب إلى الله بمحبته وعبوديته، والتوكل عليه وهجر ما يكرهه وفعل ما يحبه. وهناك هجرة القلب والبدن للسيئات والمعاصي. عن عبدالله بن عمروٍ -رضي الله عنهما- مرفوعاً: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه". وروى البخاري تعليقاً وابن حبان عنه أيضاً: "المهاجر من هجر السيئات".
ومن دروس الهجرة: أن رابطة العقيدة هي الرابطة التي الحقيقية بين المؤمنين؛ حيث تتضاءل أمامها الانتماءات القومية والقبلية والعلاقات الحزبية، فعندما قدَّم النبي المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار، وقضَى على العداوة التي كانت مستحكمة بين الأوس والخزرج فانصهر الجميع في بوتقة الإيمان، وذابت بينهم العداوات والإحن وتلاشت العصبيات والأعراق.
ومن دروس الهجرة: أثر الشباب ودورهم العظيم في نصرة الدين، ففي موقف عبد الله بن أبي بكر -رضي الله عنهما-، ذلك الشاب الثقف اللقِن؛ حيث كان يدلج من عند النبي وصاحبه -رضي الله عنه- بسَحَر فيصبح مع قريش بمكة كبائت فيها, فلا يسمع أمرًا تكيده قريش للنبي إلا وعاه، حتى يأتيهما حين يختلط الظلام فينقل لهما الأخبار، وهذا يجلِّي أثر الشباب في الدعوة إلى الله ودورهم في الأمة ونصرة الدين والملة، والحفاظ على مقدرات أوطانهم ومجتمعاتهم.
فليحذر شبابنا من الدعوات التي تدعوهم إلى الشبهات والفرقة والاختلاف وشقّ الصف، أو تلك الدعوات إلى تدعو إلى تخديرهم بالشهوات والملهيات، وتغييبهم عن ساحات التأثير في الوقت الذي نرجو فيه أن يضطلعوا بمهمات الحفاظ على الدين والقيم، والرباط على ثغور الأخلاق والمبادئ أمام المتغيرات المتسارعة ودعاوَى العولمة والعلمنة.
وفي موقف أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- ما يجلِّي دور المرأة والفتاة المسلمة في خدمتها لدينها ودعوتها، فعندما كان الصديق -رضي الله عنه- يحزم الأمتعة ويعدها للسفر لم يجد حبلاً ليربط به زاد الطعام والسقاء، فأخذت أسماء -رضي الله عنها- نطاقها الذي كانت تربطه في وسطها فشقته نصفين وربطت به الزاد، فسميت ذات النطاقين -رضي الله عنها-.
هذا هو دور المرأة المسلمة تجاه دينها: النصرة والدعوة، وإرضاع الأجيال دينهم مع لبنها. لا كما يريد دعاة المدنية الزائفة أهل الشهوات والمآرب الفاسدة الذين أجلبوا على المرأة بَخَيْلِهم ورَجْلهم زاعمين زورًا وبهتانًا أن تمسكها بثوابتها وقيمها واعتزازها بحجابها وعفافها تقييد لحريتها ومصادرة لشخصيتها.
وقد انطلت هذه الخدعة على بعضٍ من النساء؛ فخرجن من بيوتهن يبحثن عن سعادة موهومة، وراحة مزعومة في التبرج والسفور، ونزع حجاب الحياء، فكانت النتيجة تلوث الشرف، وذهاب الحياء، وانتشار المنكرات والزنا والخنا.
ما أحوجنا إلى ترجمة هذه المعاني إلى واقع تعيشه الأمة وتترسم معالمه، سيما في هذا الزمان الذي تعاني فيه ألوان الظلم والعَسَف والكيد والمكر والاستضعاف؛ احتلال وتخريب وتدمير، وقتل وتشريد وتهجير، وإبعاد وسفك للدماء، وغير ذلك...
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
عباد الله: من فاته ثواب الهجرة إلى الله ورسوله زمن النبوة؛ فقد شرع الله له هجرة من نوع آخر، فيها ثواب عظيم وأجر جزيل؛ إنها هجرة الذنوب والمعاصي، فاهجر المعصية وهاجر إلى الطاعة، واهجر التفريط، وهاجر إلى الاستقامة، واهجر التمرد والآثام إلى الانقياد والاستسلام، وهاجر بقلبك من الركون إلى الدنيا والاطمئنان إليها إلى الدار الآخرة والرغبة فيها، قال -صلى الله عليه وسلم-: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر مَن هجَر ما نهى الله عنه".
واهجر الكسل وطول الأمل إلى الجد والاجتهاد في طاعة الله، وخاصة في هذه الأيام التي كثرت فيها الفتن والمِحَن، قال -صلى الله عليه وسلم-: "العبادة في الهرج -أي زمن الفتن- كهجرة إليَّ" (رواه مسلم).
وصلوا وسلموا...