الصمد
كلمة (الصمد) في اللغة صفة من الفعل (صَمَدَ يصمُدُ) والمصدر منها:...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التوحيد |
وَمَنْ تَابَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتُوبُ عَلَيْهِ، وَيُبَدِّلُ حَالَهُ السَّيِّئَةَ إِلَى حَالٍ حَسَنَةٍ، وَيَنْقُلُهُ مِنَ الذُّلِّ إِلَى الْعِزِّ، وَمِنَ الضَّعْفِ إِلَى الْقُوَّةِ؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِي التَّائِبِينَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ: (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْكَرِيمِ الْمَنَّانِ، الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ؛ يَهَبُ هِدَايَتَهُ وَرَحْمَتَهُ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، وَيَصْرِفُ عَنْهَا مَنْ (ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الْكَهْفِ: 104].
نَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا وَأَوْلَانَا، وَنَشْكُرُهُ عَلَى وَمَا وَهَبَنَا وَأَعْطَانَا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ يُنْعِمُ عَلَى عِبَادِهِ بِالسَّرَّاءِ لِيَسْتَخْرِجَ حَمْدَهُمْ وَشُكْرَهُمْ، وَيَبْتَلِيهُمْ بِالضَّرَّاءِ لِيَسْتَخْرِجَ صَبْرَهُمْ وَتَضَرُّعَهُمْ، فَمَنْ كَانَ شَكُورًا فِي السَّرَّاءِ صَبُورًا فِي الضَّرَّاءِ فَقَدْ جَازَ الْبَلَاءَ بِأَحْسَنِ اخْتِيَارٍ، وَمَنْ كَانَ كُفُورًا فِي السَّرَّاءِ جَزِعًا فِي الضَّرَّاءِ أَوَبْقَ دِينَهُ وَلَمْ يَهْنَأْ بِدُنْيَاهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ تَحَلَّى بِالصَّبْرِ وَالشُّكْرِ، وَأَمَر أُمَّتَهُ بِهِمَا، وَقَصَّ عَلَيْنَا أَخْبَارَ الصَّابِرِينَ الشَّاكِرِينَ، مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَعِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ؛ لِنَتَأَسَّى بِهِمْ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَقِيمُوا لَهُ دِينَكُمْ، وَأَسْلِمُوا لَهُ وُجُوهَكُمْ، وَأَحْسِنُوا فِي أَعْمَالِكُمْ؛ (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [هُودٍ: 115]، وَ (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الْأَعْرَافِ: 56]، (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [الْمَائِدَةِ: 93].
أَيُّهَا النَّاسُ: أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ (هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [الْبَقَرَةِ: 185]، وَقَصَّ فِيهِ أَخْبَارَ السَّابِقِينَ لِلْعِظَةِ وَالِاعْتِبَارِ.
وَأَكْثَرُ الْقَصَصِ وُرُودًا فِي الْقُرْآنِ قِصَّةُ الْكَلِيمِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي مُعَالَجَتِهِ لِكُفْرِ فِرْعَوْنَ وَعِنَادِهِ، ثُمَّ مُعَالَجَتِهِ لِعَنَتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقِلَّةِ صَبْرِهِمْ، وَضَعْفِ شُكْرِهِمْ.
وَمِنْ مَوَاطِنِ الْعِظَةِ فِي تَارِيخِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: اتِّخَاذُهُمُ الْعِجْلَ، وَافْتِتَانُهُمْ بِهِ، وَعُقُوبَةُ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ كُرِّرَ هَذَا الْخَبَرُ فِي الْقُرْآنِ؛ لِيَحْذَرَ قَارِئُ الْقُرْآنِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ. وَذَلِكَ أَنَّ فِتْنَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ كَانَتْ بَعْدَ نَجَاةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ مِنْ بَطْشِ فِرْعَوْنَ وَظُلْمِهِ، وَكَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ أَنْ يَشْكُرُوا اللَّهَ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ، وَيَتَّبِعُوا نَبِيَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ ظُهُورِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ لَهُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَلِذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ) [الْبَقَرَةِ: 92].
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَجُ وَالْبَيِّنَاتُ، وَظَهَرَتْ لَهُ الْأَدِلَّةُ وَالْآيَاتُ فَلَيْسَ بِمَعْذُورٍ إِنْ مَالَ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَفُتِنَ بِشَيْءٍ مِنَ الْبَاطِلِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَمَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالظُّلْمِ لِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ.
وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنَ الْقُرْآنِ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى الْعُقُوبَةَ الَّتِي نَالَتْهُمْ بِاتِّخَاذِهِمُ الْعِجْلَ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [الْبَقَرَةِ: 51 - 54].
وَهَذِهِ الْآيَاتُ فِيهَا تَعْدَادُ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ أَنْ يَشْكُرُوهَا، وَالْمَعْنَى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَنَا عَلَيْكُمْ: حِينَ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً لِإِنْزَالِ التَّوْرَاةِ هِدَايَةً وَنُورًا لَكُمْ، فَإِذَا بِكُمْ تَنْتَهِزُونَ فُرْصَةَ غِيَابِهِ هَذِهِ الْمَدَّةَ الْقَلِيلَةَ، وَتَجْعَلُونَ الْعِجْلَ الَّذِي صَنَعْتُمُوهُ بِأَيْدِيكُمْ مَعْبُودًا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى -وَهَذَا أَشْنَعُ الْكُفْرِ بِاللَّهِ تَعَالَى- وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ إِلَهًا. ثُمَّ تَجَاوَزْنَا عَنْ هَذِهِ الْفِعْلَةِ الْمُنْكَرَةِ، وَقَبِلْنَا تَوْبَتَكُمْ بَعْدَ عَوْدَةِ مُوسَى؛ رَجَاءَ أَنْ تَشْكُرُوا اللَّهَ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ وَأَفْضَالِهِ، وَلَا تَتَمَادَوْا فِي الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ. وَاذْكُرُوا نِعْمَتَنَا عَلَيْكُمْ حِينَ أَعْطَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ الْفَارِقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ -وَهُوَ التَّوْرَاةُ-؛ لِكَيْ تَهْتَدُوا مِنَ الضَّلَالَةِ. وَاذْكُرُوا نِعْمَتَنَا عَلَيْكُمْ حِينَ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ: إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ إِلَهًا، فَتُوبُوا إِلَى خَالِقِكُمْ: بِأَنْ يَقْتُلَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَهَذَا خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ خَالِقِكُمْ مِنَ الْخُلُودِ الْأَبَدِيِّ فِي النَّارِ، فَامْتَثَلْتُمْ ذَلِكَ، فَمَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْكُمْ بِقَبُولِ تَوْبَتِكُمْ.
قَالَ الْإِمَامَانِ الزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: قَامُوا صَفَّيْنِ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَتَّى قِيلَ لَهُمْ: كُفُّوا! قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ شَهَادَةً لِلْمَقْتُولِ وَتَوْبَةً لِلْحَيِّ.
وَمَا رُفِعَ عَذَابُ قَتْلِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا إِلَّا بِتَوْبَةِ بَعْضِهِمْ كَمَا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الْأَعْرَافِ: 149]، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ سَبَبٌ لِدَفْعِ الْعَذَابِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، فَإِنْ كَانَتِ التَّوْبَةُ بَعْدَ وُقُوعِ الْعَذَابِ فَقَدْ يُنَجَّى مَنْ لَمْ يَمَسَّهُ الْعَذَابُ، وَكَانَ كَفَّارَةً لِمَنْ أَصَابَهُ الْعَذَابُ، فَلَا يُعَذَّبُ فِي الْآخِرَةِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِعِبَادِهِ، وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ مِنْهُمْ أَنْ يَتُوبُوا مِنْ ذُنُوبِهِمْ؛ لِئَلَّا يَقَعَ عَذَابُهُ عَلَيْهِمْ. وَمَا أَحْوَجَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى فَهْمِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ فِي زَمَنٍ كَثُرَتْ فِيهِ الْفِتَنُ وَالْمُنْكَرَاتُ، وَتَوَالَتْ فِيهِ الْمِحَنُ وَالْمُوبِقَاتُ، وَتَكَالَبَ الْأَعْدَاءُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ.
وَكَانَ يَهُودُ الْمَدِينَةِ يَرُدُّونَ رِسَالَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُكَذِّبُونَهُ وَيُعَانِدُونَهُ، وَيَتَعَنَّتُونَ فِي السُّؤَالِ، فَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا جَرَى لِأَسْلَافِهِمْ لَمَّا اتَّخَذُوا الْعِجْلَ بَعْدَ نَجَاتِهِمْ مِنْ فِرْعَوْنَ وَبَطْشِهِ؛ لِيَأْخُذُوا الْعِبْرَةَ مِنْ ذَلِكَ؛ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ مُحَمَّدًا مُرْسَلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا) [النِّسَاءِ: 153].
فَوَاجِبٌ عَلَى أَهْلِ الْقُرْآنِ أَنْ يَأْخُذُوا الْعِظَةَ وَالْعِبْرَةَ مِنْ هَذِهِ الْحَادِثَةِ الْعَظِيمَةِ، وَأَنْ يُوَطِّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الشُّكْرِ فِي السَّرَّاءِ، وَالصَّبْرِ فِي الضَّرَّاءِ، وَاجْتِنَابِ أَسْبَابِ الْفِتَنِ، وَكَثْرَةِ حَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى النِّعَمِ؛ فَإِنَّنَا نَرْفُلُ فِي نِعَمٍ عَظِيمَةٍ أَعْظَمُهَا الْإِيمَانُ ثُمَّ الْأَمْنُ وَالرِّزْقُ وَالْعَافِيَةُ، وَقَدْ تَخَطَّفَتِ الْفِتَنُ وَالْمِحَنُ كَثِيرًا مِنَ الدُّوَلِ وَالشُّعُوبِ. كَمَا يَجِبُ عَلَيْنَا تَرْبِيَةُ أَوْلَادِنَا عَلَى التَّمَسُّكِ بِالدِّينِ الْحَقِّ، وَالْتِزَامِ شَرِيعَتِهِ، وَمُجَانَبَةِ أَسْبَابِ الْفِتَنِ، وَتَنْشِئَتُهُمْ عَلَى كَثْرَةِ حَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَشُكْرِهِ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ دَيْدَنَهُمْ؛ فَإِنَّ أُمَّةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا فَقَدَتْ مَكَانَتَهَا، وَلَا سُلِبَتْ نِعَمَهَا إِلَّا بِعَدَمِ شُكْرِهَا نِعْمَةَ رَبِّهَا سُبْحَانَهُ رَغْمَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَذَّرَهَا مِنْ هَذَا الْمَسْلَكِ الْخَاطِئِ (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إِبْرَاهِيمَ: 6 - 7].
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ...
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِمْ وَاقْتَفَى أَثَرَهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [آلِ عِمْرَانَ: 131 - 132].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مِنْ أَعْظَمِ مَوَاطِنِ الْعِبْرَةِ فِي قِصَّةِ عَابِدِي الْعِجْلِ مَا نَالَهُمْ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الذِّلَّةِ بِسَبَبِ عِجْلِهِمْ (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) [الْأَعْرَافِ: 152].
وَمَنْ غَضِبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَكَتَبَ عَلَيْهِ الذِّلَّةَ أَحَاطَ بِهِ الشَّقَاءُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهُوَ حَالُ عَابِدِي الْعِجْلِ وَخُلُوفِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا -وَلَا يَزَالُونَ- فِي ذِلَّةٍ وَاسْتِكَانَةٍ وَخَوْفٍ وَرُعْبٍ وَقَلَقٍ، فَلَمْ يَهْنَئُوا بِدُنْيَاهُمْ، وَلَمْ يَعْتَزُّوا إِلَّا بِغَيْرِهِ، وَمَنِ اعْتَزَّ بِغَيْرِهِ فَهُوَ ذَلِيلٌ (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) [آلِ عِمْرَانَ: 112]، فَهَذَا حِكَايَةً عَمَّا أَصَابَهُمْ، وَهُوَ عِبْرَةٌ لِغَيْرِهِمْ، وَسُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى مَاضِيَةٌ فِي أَهْلِ الْعِنَادِ وَالِاسْتِكْبَارِ، وَأَرْبَابِ الْمُنْكَرَاتِ وَالْمُوبِقَاتِ أَنْ يَنَالَهُمْ غَضَبُ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ تُضْرَبَ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ فَلَا يَعْتَزُّوا أَبَدًا.
وَمَنْ تَابَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتُوبُ عَلَيْهِ، وَيُبَدِّلُ حَالَهُ السَّيِّئَةَ إِلَى حَالٍ حَسَنَةٍ، وَيَنْقُلُهُ مِنَ الذُّلِّ إِلَى الْعِزِّ، وَمِنَ الضَّعْفِ إِلَى الْقُوَّةِ؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِي التَّائِبِينَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ: (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [الْأَعْرَافِ: 153].
وَمَنْ عَمَّرَ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ فَقَدَّمَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَلَنْ يُخْذَلَ، بَلْ سَيُوَفَّقُ لِلثَّبَاتِ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا يُخْذَلُ مَنْ دَاخَلَ قَلْبَهُ حُبُّ شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا فَقَدَّمَهُ عَلَى دِينِهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ فِتْنَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْعِجْلِ كَانَ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى مَعْصِيَتِهِمْ حِينَ أَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ يَأْخُذُوا شَرَائِعَ التَّوْرَاةِ بِقُوَّةٍ، وَأَخْذُ الشَّرِيعَةِ بِقُوَّةٍ يَسْتَلْزِمُ التَّمَسُّكَ بِهَا، وَعَدَمُ تَرْكِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَلَكِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا أَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا) رَدُّوا ذَلِكَ بِالْعِصْيَانِ: (قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) فَكَانَتِ النَّتِيجَةُ: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) [الْبَقَرَةِ: 93]؛ أَيْ: بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَمَعْصِيَتِهِمْ أُشْرِبَتْ قُلُوبُهُمْ حُبَّ الْعِجْلِ وَعِبَادَتَهُ، وَهَذَا حَالُ كَثِيرٍ مِنَ الضَّالِّينَ الَّذِينَ عَرَفُوا الْحَقَّ فَتَرَكُوهُ وَحَارَبُوهُ.
فَمَنْ نُجِّيَ مِنَ الْفِتَنِ وَالْمِحَنِ، وَجَانَبَ الْكَبَائِرَ وَالْمُوبِقَاتِ فَلْيَلْهَجْ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَشُكْرِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ؛ لِيَزْدَادَ ثَبَاتًا عَلَى ثَبَاتِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمُوبِقَاتِ فَلْيُبَادِرْ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ أَنْ يَحُلَّ بِهِ عَذَابُ اللَّهِ تَعَالَى.
هَذَا؛ وَقَدْ نَدَبَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى صِيَامِ عَاشُورَاءَ وَقَالَ: «صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ» وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ» فَلَا تَحْرِمُوا أَنْفُسَكُمْ صِيَامَ عَاشُورَاءَ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...