الحسيب
(الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - التوحيد |
وعلى الرغم من ورود هذا الاسم مرة واحدة فقط في القرآن إلا إنه يحمل من الدلالات العظيمة والآثار الكبيرة في حياة المسلمين ما ينبغي معه على كل طالب هدى أن يتعرف عليها، فهو يدل باللزوم على الحياة والقيومية, ويدل أيضا على تقدمه -سبحانه- على غيره تقدما مطلقا في كل وصف كمال...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أدى الأمانة ونشر الديانة، ونصح الأمة وكشف تعالى به الغمة وجاهد في الله حق جهاده، حتى تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جزا نبينا عن أمته وداعيا عن دعوته، فصلى اللهم عليه وعلى آله وصحبه وتابعيه إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر فألهى، وإن ما توعدون لصادق وإن الدين لواقع، وما أنتم بمعجزين.
أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فهي وصية الله للأولين والآخرين، فهي الزاد يوم الحاجة، والأمن يوم الفزع، والفوز يوم التغابن، وما من نبي إلا وأوصى قومه بتقوى الله (فاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) [الشعراء 108].
عباد الله: لقد كان من دعائه -صلى الله عليه وسلم- كما ورد في المسند من حديث أبي هريرة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَدْعُو عِنْدَ النَّوْمِ: "اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ مُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ أَنْتَ الْأَوَّلُ ليسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ ليسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ ليسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ ليسَ دُونَكَ شَيْءٌ اقْضِ عَنا الدَّيْنَ وَأَغْنِينا مِنْ الْفَقْرِ" [احمد (9247) الأرناؤوط صحيح].
وبنظرة فاحصة على هذا الدعاء النبوي قبل أن يسلم العبد نفسه لخالقه ويموت موتته الصغرى، نجد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أثنى على ربه بمحامد فريدة الخصوصية في هذا المقام الذي يستسلم فيه العبد لربه -جل وعلا- القادر على قبض روحه أو إرسالها، وقد دعاه بأسماء خاصة لم تتكرر في كتاب الله سوى مرة واحدة، وهي اسمه الأول والآخر والظاهر والباطن, سبحانه وتعالى عن الشبيه والند والنظير.
وأما عن ذكر هذا الاسم في كتاب الله فقد ورد مطلع سورة الحديد في قوله تعالى (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَليمٌ)[الحديد:3]. أي: هو -سبحانه- الأول والسابق على جميع الموجودات، إذ هو موجدها ومحدثها ابتداء، فهو موجود قبل كل شيء وجودا لا حد ولا وقت لبدايته.
يقول ابن عاشور فيما معناه: فأما وصف الأول فهو الذي حصل قبل غيره، ومنه قوله تعالى: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) [الأنعام: 14]، أي: أولهم في إتباع الإسلام، وقوله: (وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) [البقرة: 41] أي: أولهم كفرا. فوصْفُ الله بأنه الأول يعني: أنه السابق وجوده على كل موجود وجد، ووصف الله بالأول يستلزم صفة الغنى المطلق؛ لأن الأول معناه الموجود لذاته دون سبق عدم, وهذا يستلزم انفراده تعالى بصفة الوجود، لأنه لو كان غير الله واجبا وجوده لما كان الله موصوفا بالأولية، فالموجودات غير الله ممكنة، والممكن لا يتصف بالأولية المطلقة، فلذلك تثبت له الوحدانية".
وفي حديث عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ دليل على أن الله الأول حيث كان ولم يكن قبله، حيث روى -رضي الله عنه- قائلاً: إِنِّي عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ قَوْمٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: "اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ, قَالُوا بَشَّرْتَنا فَأَعْطِنَا, فَدَخَلَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ اليمَنِ فَقَالَ: اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ اليمَنِ إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ, قَالُوا: قَبِلْنا جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ, وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ مَا كَانَ؟ قَالَ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ, وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ.." [البخاري(6868)].
وإذا قلنا عن الله أنه الأول فلهذا معنى آخر، وهو أن الله -سبحانه وتعالى- لم يسبقه في الوجود شيء، ولا ينبغي أن تقول: زمان ولا مكان لأن الزمن من خلق الله، لم يسبقه في الوجود شيء، الأول -سبحانه- هو الذي لم يسبقه في الوجود شيء, وهو الذي علا بذاته وشأنه فوق كل شيء, وهو الذي لا يحتاج إلى غيره في شيء, وهو المستغنى بنفسه عن كل شيء, فالأول اسم دل على وصف الأولية, وأولية الله تقدمه على كل من سواه في الزمان.
ومن الأولية أيضا تقدمه -سبحانه- على غيره تقدما مطلق في كل وصف كمال وهذا معنى الكمال في الذات والصفات في مقابل العجز والقصور لغيره من المخلوقات فلا يدنيه ولا يساويه أحد من خلقه لأنه -سبحانه- منفرد بذاته ووصفه وفعله.
وربما يستشكل البعض وصف الله -عز وجل- بالأولية مع وصفه بدوام القدرة على الخلق والفاعلية, فإذا كان الله هو الأول الذي ليس قبله شيء, فهل يعنى ذلك أنه كان معطلا عن الفعل ثم أصبح خالقا فاعلا قادرا بعد أن لم يكن ؟
والجواب عن ذلك يقال: إن الله -عز وجل- موصوف بأنه مريد فعال لما يشاء وقت ما يشاء, كما قال تعالى: ( ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ) البروج [ 15 - 16 ]، وقد بين الله -عز وجل- أنه قبل وجود السماوات والأرض لم يكن سوى العرش والماء, كما جاء في قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء ) [ هود:7 ].
وربما يسأل سائل: وماذا قبل العرش والماء ؟ والجواب أن الله قد شاء أن يوقف علمنا عن بداية المخلوقات عند العرش والماء, فالله أخبرنا أنه يخلق ما يشاء, ويفعل ما يشاء وهو على ما يشاء قدير, وجهلنا بما خلق الله قبل العرش والماء لا يؤثر فيما يخصنا, أو يتعلق بحياتنا من معلومات ضرورية لتحقيق الكمال في حياة الإنسان.
فالله -تبارك وتعالى- هو الأول قبل كل شيء، والآخر بعد كل شيء، السابق للمخلوقات كلها، الكائن الذي لم يزل قبل وجود الخلق، فاستحق الأولية إذ كان موجوداً ولا شيء قبله ولا معه.
والله -عز وجل- هو الأول في كل شيء، وكل نعمة في الكون هو الذي ابتدأها، وبفضله ورحمته خلق الإنسان وهداه، ووفقه وأعانه، وبفضله ورحمته وصل إلى رضاه ورحمته، وقربه وكرامته, ومنه -سبحانه- الإيجاد، والإعداد، والإمداد، والهداية، له المنة والفضل، وله العزة والكبرياء، وهو أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين، لا إله غيره، ولا رب سواه, وفضله سابق على الوسائل والأسباب، والوسائل من مجرد فضله وجوده، لم تكن بوسائل أخرى.
عباد الله: وعلى الرغم من ورود هذا الاسم مرة واحدة فقط في القرآن إلا إنه يحمل من الدلالات العظيمة والآثار الكبيرة في حياة المسلمين ما ينبغي معه على كل طالب هدى أن يتعرف عليها، فهو يدل باللزوم على الحياة والقيومية, ويدل أيضا على تقدمه -سبحانه- على غيره تقدما مطلقا في كل وصف كمال, في مقابل العجز والقصور لغيره من المخلوقات فلا يدانيه ولا يساويه أحد من خلقه؛ لأنه -سبحانه- منفرد بذاته ووصفه وفعله. والأولية وصف لله وليست لأحد سواه، الأولية في الأشياء مرجعيتها إلى الله خلقا وإيجادا وعطاء وإمدادا، قال تعالى (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) [الأنبياء: 104], وقوله: (قُل يُحْيِيهَا الذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلقٍ عَليمٌ) [يس:79].
ومهما أوغلت في اسمه الأول ستصل في النهاية إلى الله، إذا تحركت نحو الوراء في سلسلة يجب قطعاً أن تنتهي إلى الله الأول.
ولو أن زلزالا حدث في بلد معين, ستجيبك الدراسات والأبحاث أنه نتيجة اضطراب القشرة الأرضية واحتكاكها، والأهم من جعلها تضطرب؟ إنه الله إذاً هو الأول, فيد الله فوق كل شيء ومسيّرة لكل شيء قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح: 10]، فحتما أن كل شيء حادث له محدِث وكل شيء موجود له موجد، فمن بديهيات العقل: أن الموجد قبل الموجود، وأن المحدث قبل الحادث وأن الخالق قبل الخلق، وأن المدبِّر قبل المدبَّر, وأن الرازق قبل الرزق, وأن الصانع قبل المصنوع, والمعلم قبل المتعلم.
وإيماننا باسمه الأول يجعلنا نؤمن أن كل شيء بيده، ومن هنا لن تحقد على أحد، ولن تأسى ولن تحزن على شيء, لأنه لا يخرج عن أمر الله وعلمه وإرادته شيء من خير أو شر, إذ هو آخذ بناصيته ومتحكم فيه, قال -سبحانه- على لسان نبيه هود: (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) [هود: 55- 56]. وفي قوله تعالى: (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) [الواقعة: 60], ما يشير إلى نفس المعنى، فهي تعني: أنه لم يسبقنا في الوجود أحد، وما نحن بمسبوقين، كان الله ولم يكن معه شيء، وأمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- سئل مرةً: "متى كان الله؟" فأجاب إجابةً موفقة كادت أن تكون وحيا إلهيا فقال: "ومتى لم يكن"؛ يعني بذلك أن الله موجود في وقت لم يخلق فيه (متى) التي يسأل بها عن الزمان والوقت.
ومن دلالات اسم الله الأول: وصفه بالأزلية, والأزلي هو الذي لا ابتداء له، فهو الأول بكل ما سواه، المتقدم على كل ما عداه, وهذه الأولوية ليست بالمكان ولا بالزمان، ولا بأي شيء في حدود العقل أو العلم, والآخر في وصفه بمعنى لا انتهاء له، ولا انقضاء لوجوده هو الأول بإحسانه، والآخر بغفرانه، الأول بالهداية، والآخر بالرعاية. يقول الإمام الرازي: "الله الأول بلا ابتداء والآخر بلا انتهاء، الأول لعرفان القلوب، والآخر لستر العيوب، الأول قبل كل شيء، والآخر بعد كل شيء، الأول قبل كل شيء بالقدم والأزلية، والآخر بعد كل شيء بالأبدية والسرمدية، الأول مبدي كل أول، والآخر مؤخر كل آخر، الأول بالوجود والقدم، والآخر للتوجيه عن الفناء والعدم".
فالله -سبحانه- الأول بالخلق، والآخر للرزق، الأول بلا مطلع، والآخر بلا مقطع، الأول هو الذي ابتدأ بالإحسان، والآخر هو الذي تفضل بالغفران، هذه كلها معان فرعية مستفادة من فقه اسمي الأول والآخر.
عباد الله: هذا عن دلالات اسم الله الأول ومعانيه، أما ما يجب على المسلم من آداب وسلوكيات وطاعات ناجمة بعد فقهه وعلمه بهذا الاسم؛ فهي كثيرة ومنها:
أولاً: أن يظهر أثر الاسم على سلوك العبد فيظهر من محبة الأولية في طلب الخير، وطلب الأسبقية في التزام الأمر، وحرصه على المزيد من الأجر، وأن يكون أول الناس سبقاً بالخير، وأول الناس معرفة بالله، وأولهم في طاعته، وأولهم بخدمة عباده وآخرهم تعلقاً بهم؛ قال تعالى في وصف من طلب الأولية وسعى لها سعيها: (أُولئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون:61]، وقال -سبحانه- عن آل زكريّا: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء: 90]، كما أمر بطلب الأولية في الخير والصدارة فيه: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَليهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) [البقرة:148], وقال: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) [المائدة:48].
فتجد توحيد الله في اسمه الأول باديا على العبد عند مداومته على الصلاة في أول الوقت، عملا بما ورد أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ قَالَ: "الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا" [البخاري(6980)].
وكذلك حرصه على الصف الأول ومجاهدة الآخرين في استباقهم إليه: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَليهِ لَاسْتَهَمُوا وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِليهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا" [البخاري (580) ومسلم (661)]. وهكذا كل ما من خير دعت إليه الشريعة إلا وجدت العبد يسابق ويسارع إلى ذلك تعبدا لله باسمه الأول, وتبركا به.
ثانياً: عبوديته باسمه الأول تقتضي التجرد من مطالعة الأسباب، والوقوف معها، والالتفات إليها، وتجريد النظر إلى مجرد سبق فضله ورحمته، وأنه -عز وجل- هو المبتدئ بالإحسان من غير وسيلة من العبد.
ثالثاً: أن يتعبد الله باسمه الأول بأن يدعو به كما ورد في حديث ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، وفيه ضعف, قَالَ: كَانَ مِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَسَلَّمَ: "يَا كَائِنا قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ, وَالْمُكَوِّنُ لِكُلِّ شَيْءٍ, وَالْكَائِنُ بَعْدَمَا لا يَكُونُ شَيْءٌ, أَسْأَلُكُ بِلَحْظَةٍ مِنْ لَحَظَاتِكَ الْحَافِظَاتِ الْغَافِرَاتِ الْوَاجِبَاتِ الْمُنْجِيَاتِ" [ الأسماء والصفات للبيهقي (1/ 43)]، فإِنْ صَحَّ هَذَا، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِاللَّحْظَةِ النَّظْرَةَ وَنَظَرُهُ فِي أُمُورِ عِبَادِهِ رَحْمَتُهُ إِيَّاهُمْ.
اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله من علمنا منه وما لا نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله من علمنا منه وما لم نعلم، واغفر لنا وارحمنا وخذ بنواصينا إلى البر والتقوى، ومن العمل ما تحب وترضى، قلت ما تسمعون وأستغفر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله معين المحتاجين، ومجيب السائلين، وملاذ الخائفين، وعصمة التوابين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، وإمام النبيين، وقدوة السالكين.
أما بعد:
عباد الله: إن السعادة كل السعادة في فهم مراد الله، وفقه السبل المؤدية لنيل مرضاته، ومعرفة محبوباته، وهذا لا يكون إلا بالاعتقاد الصحيح، وفقه أسمائه الحسنى وصفاته العلا، ومعرفة الآثار الإيمانية المترتبة على هذا الفقه والفهم في حياة وسلوكيات وأخلاقيات العبد المسلم، وإن من الآثار الإيمانية لفقه معنى اسم المولى "الأول":
أولاً: الإخلاص والإقبال, فإذا علم المسلم أن أصله من طين وله بداية ونهاية وحياة إلى حين، أيقن أن ما قام به من الحسن مرجعه إلى رب العالمين، وأن الفرع لا محالة سيرجع إلى أصله, وأن كل بداية لها نهاية, وأن لكل أول آخر, وأن الدنيا يتبعها آخرة, كما ذكر الله تعالى في قوله: (إِليهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدأُ الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) [يونس:4]، وقال تعالى: (وَهُوَ الذِي يَبْدأُ الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَليهِ) [الروم:27], فيجعل عمله كله خالصا لمن كان منه المبدأ، إليه المرجع والمصير، وعنده الأصول والمقادير، العزيز الكبير.
ثانياً: اليقين والتوحيد, فإن معرفة العبد غنى ربه من كل وجه بذاته وصفاته، وأن كمال أوصافه أيضا أوَّلنا بأولية ذاته, فلم يكتسب وصفا كان مفقودا أو كمالا لم يكن موجودا، كما هو الحال بين المخلوقات في اكتساب أوصاف الكمال، هذه المعرفة تورثه يقينا وتوحيدا خالصا لله -عز وجل-، يقينا بعظمة الخالق وأوليته وتفرده وحكمته وقدرته، ومن ثم توحيد خالصا لوجه المنعم الكريم الذي بيده ملكوت كل شيء وعنده خزائن كل شيء.
ثالثاً: الشكر والتقدير, فإن اعتراف العبد أن الفضل كله من الأول -سبحانه-, وليس من نفسه ولا أحد سواه, وأن ما ينعم به هو من سابق الفضل وموجد النعم -سبحانه-، يجعله يلهج بذكره وشكره والثناء على آلائه ونعمه، ولا يتسخط على شيء من أمر الله وقدره. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَسَلَّمَ: "..احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ"[مسلم:4816].
رابعا: التوكل والاعتماد عليه, قال ابن القيم: "فعبوديته باسمه الأول تقتضي التجرد من مطالعة الأسباب أو الالتفات إليها, وتجريد النظر إلى مجرد سبق فضله ورحمته, وأنه هو المبتدئ بالإحسان من غير وسيلة من العبد إذ لا وسيلة له في العدم قبل وجوده، فأي وسيلة كانت هناك وإنما هو عدم محض وقد أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا, ووسمك بسمة الإيمان وجعلك من أهل قبضة اليمين فعصمك عن العبادة للعبيد".
فتوكل عليه وحده، وعامله وحده واقصر حبك على من سبق فضله وإحسانه إليك كل سبب منك: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَليهِ تَوَكَّلْتُ وَإِليهِ أُنِيبُ * فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ ليسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَهُ مَقَاليدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَليمٌ) [الشورى: 10-12].
اللهم إنا نسألك علما نافعا ورزقا واسعا وعملا متقبلا ويقينا راسخا، وإيمانا يزداد يوما بعد يوم، اللَّهُمَّ ارزقني من طاعتك ما تحول بيني وبين معصيتك وارزقني من خشيتك ما تبلغني به رحمتك وارزقني من اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا وبارك ليفي سمعي وبصري واجعلهما الوارث مني.