الظاهر
هو اسمُ فاعل من (الظهور)، وهو اسمٌ ذاتي من أسماء الربِّ تبارك...
العربية
المؤلف | خالد بن علي أبا الخيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أهل السنة والجماعة |
إن السَّعيد الذي يحفظه الله من الفتن، ويتحصن بالسُّنن، روى أبو داود عن المقداد بن الأسود قال: "أيم الله! لقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَن، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَن، وَلَمَنْ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ فَوَاهًا!".
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله المحمود في السراء والضراء، الحمد لله المحمود في الأرض والسماء، وأشهد أن لا إله إلا الله يبتلي عباده في الضراء والسراء، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المُحذِّر عباد الله فتناً كقطع الليلة الظلماء، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه ما دامت الأرض والسماء.
أما بعد: فاتقوا المولى حق التقوى، وكفى بها وقايةً وحمايةً من فتنٍ تُحير العقول وأهل الحجج.
أيها المسلمون: إن الله ابتلى عباده بفتنة السراء والضراء، والشِّدة والرخاء، (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء:35].
الفتن -أيها الإخوة- إذا وقعت أكلت الرطب واليابس، وعمَّت القائم والجالس، والفتن كلما جاءت واحدة نادت أختها على إثرها، تموج موج البحار والغدران، وتدع الحليم العاقل حيران؛ ففي مسلمٍ، عنه -عليه الصلاة والسلام-: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا".
الفتن مزلَقٌ وخيم، ومنعطفٌ خطير، وبلاءٌ وشرٌّ مستطير، الفتن سيلٌ جارف، وداءٌ مهلكٌ قاصف، تضطرب عندها المواقف، وتندهش لها العقول، وتطيش لها القلوب، تُشتت وتُزعزع، وتُفرق وتُروِّع، عند أحمد في مسنده: "إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ".
والفتن يُرقّق بعضها بعضًا، ويُمهد بعضها لبعض، فعند مسلم، أيها الأخ المبارك المسلم: "وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاءٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ الفِتْنَة فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ هَذِهِ! فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ".
إن قِلة العلم، وانتشار الجهل، واتباع الهوى، وضعف الدِّين؛ يُورث الشرور والبليات، والفتن المتواليات؛ في الصحيحين، عنه -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ أَيَّامًا يَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ وَيُرْفَعُ الْعِلْمُ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ، وَالْهَرْجُ الْقَتْلُ".
الفتن تسلب العقول... ويختلط فيها الصالح بالفاسد، والصديق بالعدو، والصادق بالكاذب... يدخل من خلالها أعداء الدِّين، ويبثون سُمهم الدفين، ويشعلون الفتن، ويُوقدون أوارها، ويزكون لهبها؛ حتى لا يدري القاتل ولا المقتول حالهما.
روى مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعاً: "والذي نفسي بيده! لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ، وَلَا الْمَقْتُولُ فِيمَا قُتِلَ"، فَقِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟ قَالَ: "الْهَرْجُ، الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ".
ومن شدة وقوع الفتن يبلغ بالمرء تمنّي الموت من شدة ما يرى ويسمع، وفي الصحيحين: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ فَيَقُولَ: يَا لَيْتَنِي مَكَانَهُ!". وقال ابن مسعودٍ -رضي الله عنه-: "سيأتي عليكم زمان لو وجد أحدكم الموت يُباع لاشتراه".
ومن جميل الكلام كلام شيخ الإسلام: الفتنة إذا وقعت عجز العقلاء عن دفع السُّفهاء، وهذا شأن الفتن، قال -تعالى-: (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً) [الأنفال:25]. وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله.
وفي البخاري، عن خلف بن حوشب: كانوا يستحبون أن يتمثلوا بهذه الأبيات عند الفتن. قال امرؤ القيس:
الْحَرْبُ أَوَّلُ مَا تَكُونُ فَتِيَّة | تَسْعَى بِزِينَتِهَا لِكُلِّ جَهُولِ |
حَتَّى إِذَا اشْتَعَلَتْ وَشَبَّ ضِرَامُهَا | وَلدتْ عَجُوزًا غَيْرَ ذَاتِ حَلِيل |
شَمْطَاءَ يُنْكَرُ لَوْنُهَا وَتَغَيَّرَتْ | مَكْرُوهَةً لِلشَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ |
ويقول معاوية: "إياكم والفتنة! فلا تهموا بها؛ فإنها تُفسد المعيشة، وتُكدر النِّعمة، وتُورِث الاستئصال".
إن السَّعيد الذي يحفظه الله من الفتن، ويتحصن بالسُّنن، روى أبو داود عن المقداد بن الأسود قال: "أيم الله! لقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَن، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَن، وَلَمَنْ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ فَوَاهًا!".
ومن العواصم من هذه القواصم الاجتماع والائتلاف، والترابط والائتلاف، حول العلماء الراسخين، وولاة أمور المسلمين، ونحن نعيش فتناً متلاطمات، واضطراباتٍ وأزمات، في أنحاء متفرقة، وأمصارٍ متعددة، فلنأخذ العبرة والعظة من بلادٍ مجاورة، وأمصارٍ متفرقة، فالاعتصام من أصول أهل الإسلام وأمن البلاد والأنام، قال الواحد القدوس السلام: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ) [آل عمران:103]. وحذَّر -سبحانه- من الافتراق: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم) [آل عمران:105]. وبيَّن حال أهل الافتراق، وأن مآلهم إلى النَّزاع والشِّقاق: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) [الأنعام:159].
فالجماعة رحمةٌ وهناء، أمنٌ ورخاء، ويد الله مع الجماعة؛ ولهذا جاء الوعيد الشَّديد فيمن نزع يد الطاعة.
ثلاثةٌ يُجهل مقدارها | الأمن والصحة والقوت |
فلا تثق بالمال من غيرها | لو أنه درٌّ وياقوت |
وفي مسلم، أيها الأخ المُكرَّم: "مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ ميتَةً جَاهِلِيَّةً". وفيه أيضًا: "إِنَّهُ سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ، فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ، كَائِنًا مَنْ كَانَ".
التَّفرق يُفرِح الأعداء، ويسر أهل الكفر والإباء، يُؤنِّس كل حسودٍ وحقود، فالأعداء داخلًا وخارجًا يزرعون التَّفرقة، ويندسون بين صفوف المسلمين، ويفكون الصَّف، ويظهرون ذلك على جهة الإصلاح والمناصحة.
والشريعة جمعت بين النُّصح الصحيح، والاجتماع الصريح، فعند أحمد: "إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا"، وفيه: "وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا، وَلَا تَفَرَّقُوا، وأن تُناصِحوا من ولاه الله أمركم"، فلا تعارض بين ذلك، ولا ينفك أحدهما عن الآخر، يصحب ذلك الحكمة والموعظة الحسنة.
فعلينا توحيد صفوفنا مع علمائنا وولاتنا.
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرًا | وإذا افترقن تكسرت وحدانًا |
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على نعمة الإيمان، والحمد لله على نعمة الأمان، والحمد لله على النِّعمة في الصِّحة في الأبدان، والحمد لله على نعمة الاجتماع صمام الأمان.
وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد المنان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد ولد عدنان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه على السُّنَّة والقرآن، لاسيما الأئمة الأربعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعلي، المشهود لهم بالجنان.
أما بعد: فاتقوا الله حق التقوى، واعتصموا وتمسكوا بالعروة الوثقى، فهي الوقاية الأقوى، والذخر الأبقى.
أيها المسلمون: من الفتن المدلهمة، والمحن الغاشية، ما تُسمى بالمظاهرات والمسيرات، فهناكم من يُنادي لها، ولرفع شعارها، والاعتصامات والنداءات، وتلكم فتنةٌ تُورث الشر والدمار، والتفكك وهدم الدار، وزعزعة الأمن، وزرع الفساد والأحقاد، وإتلاف الممتلكات، والسرقة والمعاكسات.
المظاهرات تُورث الفُرقة، وتجلب كل نِقمة، المظاهرات تُزعزع أمتنا، وتخرق صفوفنا، وتُحرق مجتمعنا، وتُفسد عقيدتنا، وراءها أصابع خفية، وشرذمة مدسوسة ينفثون من ورائها السموم، فالحذر الحذر من المشاركة في المظاهرات ورفع الشعارات! والحث، والتأييد، والتحريض، والمسيرات! فالمؤمن لا يُلدغ من جحرٍ مرتين، وما البلاد المجاورة عنا ببعيد، وما تعيشه من فوضى وسلبٍ ونهبٍ وقتلٍ وتشريد.
المظاهرات تجر الويلات، وتُورث الحسرات، وليست علاجًا لحل المشكلات والمعضلات، فلنحذر من إزكائها وإشعالها، فمعظم النار من مستصغر الشرر. يقول العلامة ابن عثيمين عليه رحمة رب العالمين: "واعلم أن المصالح والمفاسد تُعرف بالنظر إلى النتيجة"، إلى أن قال: "ائتوني بأي ثورةٍ من الثورات صار الناس فيها أصلح مما كانوا عليها قبلها! لن تستطيعوا ذلك".
وقال ابن باز -رحمة الله عليه-: "فالمسيرات في الشوارع، والهتافات، والمظاهرات ليست هي الطريق للإصلاح والدعوى، فالطريق الصحيح بالزيارة والمكاتبات بالتي هي أحسن، فننصح الرئيس، والأمير، وشيخ القبيلة بهذه الطريقة".
المظاهرات –أيها الإخوة والأخوات- تُعارض مبادئ الشريعة من الاجتماع والاتفاق، تُعارض القيم في بلادنا وأعراف مجتمعنا، يترتب عليها الأضرار والمفاسد التي لا تُحمد عاقبتُها، فهي تعدٍّ على حقوق الآخرين، وفيها إشاعة الفوضى التي تؤدي إلى انتهاك الأعراض وسفك الدماء، وسلب الأموال، والقتل والتشريد والشقاء.
فالواجب أن يكسر المرء سيفه، ويلزم بيته، ويُمسك لسانه، ويعتصم بكتاب ربه وسُنَّة نبيه، والحرص على العلم الشرعي الصحيح؛ ليعبد المرء ربه على بصيرة، وكذا البعد عن مواطن الفتن، وعدم الاستشراف للمحن، "مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ"، والفتن من يستشرف لها تستشرف له.
وكذا الحذر من مواقع مغلَّفة، ومنتدياتٍ فاسدة، وقنواتٍ كاسدة، تنشر الشُّبهات والشَّهوات والأفكار المنحرفة.
أيها المسلمون: من القواعد المقررة أن الدفع أسهل من الرفع، فلندفع المصائب قبل حلول المعايب، ولندفع الضرر قبل حصول الكدر، فلا نبتدئ من حيث انتهى الآخرون، ولنأخذ العِبر والدروس قبل أن يقع على الرأس الفؤوس، فالعاقل الحصيف "من سلِم المسلمون من لسانه ويده"، كما في صحيح السُّنَّة المُطهَّرة.
قدِّرْ لرجلك قبل الخطو موضعهَا | فَمن علا زلقًا عَن غرِّةٍ زلجا |
والعاقل من يُفكر قبل أن يُقدم؛ حتى لا يتحسر ويندم.
وَأَعْقَلُ النَّاسِ مَنْ لَمْ يَرْتَكِبْ عملًا | حَتَّى يُفَكِّرَ مَا تَجْنِي عَوَاقِبُهُ |
آفة العقل اتباع الهوى. وآفة العقل الهوى، فمن علا على هواه عقله فقد نجا.
ولنعلم أن ما يقع هو بسبب الذنوب والمعاصي: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) [الروم:41]، (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد:11].
فعلينا التوبة والرجوع إلى الله، وإصلاح الحال، والاستقامة على طاعة الكبير المتعال، فالله الله بالتلاحم والترابط والتراحم، وأن نكون صفًا واحدًا مع علمائنا وولاتنا ضد أعدائنا! فهناك من يتربص بنا وبأمننا، وبشبابنا وديننا.
فعلينا جمع الكلمة والحذر من دُعاة الفُرقة، والاجتماع على الكتاب والسُّنَّة، ومعتقد أهل السُّنَّة والجماعة، ولنُحافظ على إيماننا وأمننا فهما متلازمان، فالأمن نعمةٌ عظيمة، وراحةٌ كبيرةٌ كريمة، بالأمن يأمن الإنسان على دينه وماله، وعرضه وولده، وعمله وتجارته، ومنافعه ومصالحه. والله أعلم.