العربية
المؤلف | صالح بن عبد الرحمن الخضيري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
لنكن على حَذَر من العقوبات العاجلة والآجلة إذا بدَّلنا نِعَم الله كفرًا، وبارزناه بالمحاربة، وضيَّعنا فرائضه، ولنتذكر أن العقوبات تختلف فتارة تُعَجَّل وتارة يجمع الله على العاصي بينهما، وأشد العقوبات العقوبة بسلب الإيمان، والعقوبة بموت القلب، ومحو لذة الذكر والقراءة والدعاء والمناجاة، وربما دبَّت عقوبة القلب فيه دبيب الظلمة إلى أن يمتلأ القلب فتعمى البصيرة، وأهون العقوبة ما كان واقعًا بالبدن في الدنيا، وأهون منها ما وقع بالمال..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]،
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله ودوام شكره؛ فبذلك تدوم النعم، ويهدى العبد للصراط المستقيم، وبالإعراض والكفر تنزل النقم، ويشقى العبد في الدنيا والآخرة؛ (وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النمل:40].
عباد الله : لقد أخبرنا الله -جل وعز- في كتابه العظيم عن قصة قوم بَدَّلوا نعمة الله كفرًا وغيَّروا فغيَّر الله عليهم (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11].
ذكر الله -جل ثناؤه- هذه القصة لنعتبر ونتعظ (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى) [يوسف: 111]؛ تلكم يا عباد الله هي قصة بلدة سبأ؛ فقد رزقهم الله من الطيبات، وآمنهم في بلادهم، ووعدهم بالمغفرة إن شكروا فماذا كانت النتيجة؟
أقاموا في نعم الله إلى مدة من الزمن، ثم أعرضوا عن طاعة الله وفرائضه، فعاقبهم الله بإرسال السيل عليهم، وبُدِّلوا بما هم فيه من نِعَم بنِقَم، هذه النِّقَم فرقتهم وأفقرتهم وذلك بما كسبت أيديهم (فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [التوبة:70].
أيها المعتبرون: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [سبأ: 15- 19].
في هذه القصة عبرة لأولى الألباب، كان مسكن سبأ في بلاد اليمن؛ فأعطاهم الله من صنوف النعم والخيرات شيئًا عظيمًا، والآية في مسكنهم هي الجنتان اللتان عن يمين الوادي وشماله، وكلتاهما ذات أشجار وثمار ونعم غزار؛ كانت المرأة تمشي فيهما وعلى رأسها مكتل فيمتلأ من أنواع الفاكهة والثمرات من غير أن تمسَّها بيدها، وذلك لكثرتها ونضجها فقيل لهم: (كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ).
كلوا من الطيبات وما أباح لكم من الخيرات واعبدوه واتبعوا الحق وأطيعوا أمره (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)؛ كثيرة الثمار طيبة الهوى، قليلة الآفات والأمراض، فلم يكن فيها شيء من الهوام المؤذية؛ قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كانت أطيب البلاد هواءً، وأخصبها، ورب غفور يستر الذنوب فجمع لهم –سبحانه- بين مغفرة الذنب وطيب البلاد، ولكنهم أعرضوا عن أمر الله واتباع رسله، فكفروا بالله، وأعرضوا عن دينه، واتباع رسله، وبغوا، فصار بغيهم على أنفسهم.
إن بسط الرزق -يا عباد الله- قد يكون من نتائجه البغي، قال -جل ذكره-: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) [الشورى: 27].
فالعاقل لا يضيق صدره على الرزق الكفاف؛ فإن الغنى غنى النفس والقناعة كنز، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قد أفلح من أسلم، وكان رزقه كفافًا، وقنَّعه الله بما آتاه" (رواه مسلم).
قال بعض السلف: "كان يقال: خير العيش ما لا يلهيك ولا يطغيك".
أيها المسلمون: لما أعرض قوم سبأ عن شكر نعم الله والعمل الصالح؛ سُلِبُوا ما هم فيه من الرخاء الجميل الذي يعيشون فيه، وأرسل الله عليهم السيل الجارف العظيم، فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم، وتبدلت تلك الجنان بصحراء تتناثر فيها الأشجار البرية الخشنة (وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ) [سبأ:16].
والخمط هو شجر الأراك، ولما كان السدر وهو أنفعها في الأكل قال الله: (وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ)، لكنه لا يُسمِن ولا يُغني من جوع؛ (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ) [سبأ: 17- 18].
والقرى التي بارك الله فيها هي قرى الشام، وقوله: (ظَاهِرَةٌ) أي: متصلة على طريق يغدون فيقيلون في قرية، ويروحون فيبتون في قرية. (وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ)؛ حيث جعل بمقدار نصف يوم تقريبًا بين كل قريتين حتى يكون المقيل في قرية والمبيت في قرية أخرى.
لقد كان المسافر يخرج من قرية فيدخل الأخرى قبل دخول الظلام فكان السفر فيها محدود المسافات مأمونًا على المسافرين؛ كما كانت الراحة موفورة لتقارب المنازل وتقارب محطات الطريق (سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ)؛ لكن غلبت عليهم الشقوة فدعوا بجهل وحمق (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) تطلبوا الأسفار بعيدة المدى، وسئموا طيب العيش وملوا العافية، وطلبوا الكدر والتعب والمسافات البعيدة، وكان هذا من بطر القلب وظلم النفس، و(ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ)، واستجيبت دعوتهم، ولكن كما ينبغي أن تستجاب دعوة البطر عاقبهم الله بأن جعلهم أحاديث للناس بعد أن مزَّقهم كل ممزق، فصاروا أخبارًا يتمثل بهم في ذلك فيقال لكل قوم تمزقوا وتفرقوا، تفرق أيدي سبأ.
لقد شتَّت الله شملهم، وأذاقهم لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، وهذه سنته -جل وعلا-.
إن السنن الكونية والعقوبات الإلهية قد مرت، وتمر على أعداد من الأمم والناس لكن قليل من يعتبر (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت:40].
فيا أهل الإيمان! خذوا حذركم، واعتبروا بمن حولكم؛ فإن الله -جل وعلا- يقول: (وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا) [الإسراء:59].
اللهم اجعلنا ممن ينظر فيعتبر، اللهم يا حي يا قيوم نعوذ بك أن تأخذنا بغتة، وأن تبدل نعمنا عذابًا، اللهم اجعلنا من الشاكرين لنعمائك يا ذا الجلال والإكرام.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبدُ الله ورسوله وخليله وأمينه على وحيه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون: لنكن على حَذَر من العقوبات العاجلة والآجلة إذا بدَّلنا نِعَم الله كفرًا، وبارزناه بالمحاربة، وضيَّعنا فرائضه، ولنتذكر أن العقوبات تختلف فتارة تُعَجَّل وتارة يجمع الله على العاصي بينهما، وأشد العقوبات العقوبة بسلب الإيمان، والعقوبة بموت القلب، ومحو لذة الذكر والقراءة والدعاء والمناجاة، وربما دبَّت عقوبة القلب فيه دبيب الظلمة إلى أن يمتلأ القلب فتعمى البصيرة، وأهون العقوبة ما كان واقعًا بالبدن في الدنيا، وأهون منها ما وقع بالمال؛ كما قال العلماء.
قال الفضيل: "يقول الله –تعالى-: ابن آدم إذا كنت أقلِّبك في نعمتي، وأنت تتقلب في معصيتي؛ فاحذر لئلا أصرعك بين معاصيك، ابن آدم اتقني ونم حيث شئت. إنك إن ذكرتني ذكرتك، وإن نسيتني نسيتك، والساعة التي لا تذكرني فيها عليك لا لك".
وقال الفضيل: "ما يأمنك أن تكون بارزت الله –تعالى- بعملٍ مَقَتَكَ عليه، فأغلق أبواب المغفرة وأنت تضحك".
ألا فاتقوا الله؛ رحمكم الله، وتذكَّروا أن الجزاء من جنس العمل، فمن صفَّى صُفِّيَ له، ومن كَدَّرَ كُدِّرَ عليه، ومن أحسن في ليله كُوفئ فِي نهاره، ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله، ومن ترك لله شهوة من قلبه؛ فالله أكرم من أن يُعذِّب بها قلبه.
إن من عمل بالمعصية، واستخف بحقوق ربه وفرائضه عاد حامده من الناس له ذامًّا؛ (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) [الجاثية:15]، ومن حاسب نفسه على الفرائض ربح وأفلح.
اللهم أعذنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء والفسقة منا.