الرحيم
كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...
العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
مما أكثر الله تعالى ذكره في كتابه الكريم خبرَ موسى -عليه السلام- وفرعونَ فقد ذكره الله تعالى في مواضع متعددة مطولة ومختصرة، ولعلنا اليوم ونحن نقترب من ذكرى نجاته -عليه السلام- وهلاك فرعون نشير إلى شيء من هذه القصة العظيمة، والتي تحتاج إلى وقت طويل لسردها وبيان دروسها وعبرها، لكننا سنقتصر اليوم على شيء منها له علاقة بشهر الله المحرم.
أيها الإخوة: اتقوا الله تعالى واذكروا أيام الله لعلكم تذكرون، اذكروا أيام الله بنصره أنبياءَه وأتباعهم لعلكم تشكرون.
واذكروا أيام الله بخذلان أعدائه ومن والاهم لعلكم تتقون، واذكروا نصره لأوليائه لعلكم تشكرون، ولقد قصّ الله تعالى علينا في كتابه الكريم ما فيه عبرةٌ وعظةٌ للمعتبرين والمتعظين، فقال سبحانه: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف:111].
أحبتي: مما أكثر الله تعالى ذكره في كتابه الكريم خبرَ موسى -عليه السلام- وفرعونَ فقد ذكره الله تعالى في مواضع متعددة مطولة ومختصرة، ولعلنا اليوم ونحن نقترب من ذكرى نجاته -عليه السلام- وهلاك فرعون نشير إلى شيء من هذه القصة العظيمة، والتي تحتاج إلى وقت طويل لسردها وبيان دروسها وعبرها، لكننا سنقتصر اليوم على شيء منها له علاقة بشهر الله المحرم.
قال ابن كثير -رحمه الله- عند قوله تعالى: (إِن فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا) [القصص: 4]، أي تجبر وعتا وطغى وبغى وآثر الحياة الدنيا، وأعرض عن طاعة الرب الأعلى، (وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا) أي قسم رعيته إلى أقسام وفرق وأنواع، يستضعف طائفة منهم، وهم شعب بني إسرائيل الذين هم من سلالة نبي الله يعقوب بن إسحق بن إبراهيم خليل الله -عليه السلام-، وكانوا إذ ذاك خيار أهلِ الأرض، وقد سلط عليهم هذا الملك الظالم الغاشم الكافر الفاجر يستعبدهم ويستخدمهم في أخس الصنائع والحرف وأردئها وأدناها، ومع هذا: (يُذَبّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [القصص:4]، وكان الحاملُ له على هذا الصنيع القبيح أن بني إسرائيل كانوا يتدارسون فيما بينهم، ما توارثوه عن إبراهيمَ -عليه السلام- من أنه سيخرجُ من ذريته غلامٌ يكون هلاكُ ملكِ مصر على يديه، وكانت هذه البشارة مشهورة في بني إسرائيل فتحدث بها القبط فيما بينهم، ووصلت إلى فرعون، فأمر بعد ذلك بقتل أبناء بني إسرائيل، حذرًا من وجود هذا الغلام.
ثم قال ابن كثير -رحمه الله-: "ولن يغني حذرٌ من قدر... فقد احترز فرعون كل الاحتراز أن لا يوجد موسى -عليه السلام-، حتى جعل رجالاً وقوابل يدورون على الحبالى ويعلمون ميقات وضعهن، فلا تلد امرأة ذكرًا إلا ذبحه أولئك الذبَّاحون من ساعته".
والقدر يقول: يا أيها الملك الجبار، المغرور بكثرة جنوده وسلطة بأسه، واتساع سلطانه، قد حكم العظيم الذي لا يغالب ولا يمانع ولا تخَالَفُ أقداره أن هذا المولود الذي تحترز منه، وقد قتلت بسببه من النفوس ما لا يعد ولا يحصى، لا يكون مرباه إلا في دارك! وعلى فراشك! ولا يغذى إلا بطعامك وشرابك في منزلك! وأنت الذي تتبناه وتربيه وتتعناه، ولا تطلع على سر معناه، ثم يكون هلاكك في دنياك وأخراك على يديه لمخالفتك ما جاءك به من الحق المبين، وتكذيبك ما أوحي إليه؛ لتعلم أنت وسائرُ الخلق أن رب السماوات والأرض هو الفعالُ لما يريد، وأنه هو القوي الشديد ذو البأسِ العظيمِ والحولِ والقوةِ والمشيئةِ التي لا مرد لها.
أيها الإخوة: وتمر السنين وما فيها من أحداث ودروس عظام، ونصل إلى ذكرى يوم عاشوراء، وذلك أن قبط مصر تمادوا في كفرهم وعتوهم وعنادهم، متابعة لملكهم فرعون، ومخالفة لنبي الله ورسوله وكليمه موسى بن عمران -عليه السلام-، وأقام الله على أهل مصر الحجج العظيمة القاهرة، وأراهم من خوارق العادات ما بهر الأبصار وحيّر العقول، وهم مع ذلك لا يرعوون ولا ينتهون ولا يرجعون، ولم يؤمن منهم إلا القليل، قال تعالى: (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) [يونس: 83].
ولما رأى موسى كليمُ الله -عليه السلام- تكبُّر فرعون وعدم قبوله للحق مع ما رأى من آيات الله الباهرة التي يؤمن على مثلها البشر، دعا عليه غضبًا لله لتكبرِه عن اتباع الحق وصده عن سبيل الله ومعاندته وعتوه وتمرده واستمراره على الباطل ومكابرته للحق الواضح الجلي الحسي والمعنوي، وعدم قبوله للبرهان القطعي، فقال موسى -عليه السلام-: (رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ)، وهذا يَغْترُ به من يُعَظم أمر الدنيا، فيحسب الجاهل أن فرعون وقومه على شيء وهم على ضلال، ثم قال -عليه السلام-: (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) [يونس: 88].
فاستجاب الله دعاءه، وأمر موسى -عليه السلام- بني إسرائيل بالاستعداد والخروج من مصر إلى بلاد الشام، واجتمعوا وخرجوا، فعلم عدو الله بذهابهم، فحنق كل الحنق واشتد غضبه عليهم، وشرع في استحثاث جيشه وجمع جنوده ليلحقهم ويمحقهم.
ولحقهم فرعون بالجنود فأدركهم عند شروق الشمس، وتراءى الجمعان، ولم يبق ثَمَّ ريب ولا لبس، وعاين كلٌّ من الفريقين صاحبَه وتحققه ورآه، ولم يبق إلا المقاتلة والمجاولة والمحاماة، فعندها قال أصحاب موسى -عليه السلام- وهم خائفون: إنا لمدركون، وذلك لأنهم اضطروا في طريقهم إلى البحر، فصار البحرُ أمامهم، وأغلقت الجبال الشاهقة المنيفة عليهم يمينًا وشمالاً كالجدران؛ فليس لهم طريقٌ ولا محيدٌ إلا سلوك البحر وخوضه؛ وهذا ما لا يستطيعه أحدٌ ولا يقدر عليه!
وفرعون قد واجههم وعاينوه في جنودِه وجيوشِه وعَدَدِه وعُدَدِه، وهم منه في غاية الخوف والذعر لما قاسوا في سلطانه من الإهانة والمكر، فشكوا إلى نبي لله ما هم فيه مما قد شاهدوه وعاينوه، فقال لهم الرسول الصادق المصدوق: (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء: 62]، وكان في الساقة: -أي مؤخرة الجيش- فتقدم إلى المقدمة، ونظر إلى البحر وهو يتلاطم بأمواجه ويتزايد زبد أجاجه وهو يقول: ها هنا أمرت، ومعه أخوه هارون ويوشع بن نون، وهو يومئذ من سادات بني إسرائيل، وعلمائهم وعبادهم الكبار، ومعهم أيضًا مؤمن آل فرعون، وهم جمعيًا وقوف، وبنو إسرائيل بكمالهم عليهم عكوف.
وتفاقم الأمر، وضاق الحال، واشتد الكرب، واقترب فرعونُ وجنودُه في جِدهم وحَدِهم وحَدِيْدِهم وغضبهم وحنقهم، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوبُ الحناجرَ، فعند ذلك أوحى الحليمُ العظيمُ القديرُ ربُ العرشِ الكريمِ إلى موسى الكليم (أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ)، فلما ضربه بعصاه (انْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) [الشعراء: 63].
وهكذا كان ماء البحر السائل قائمًا مثل الجبالِ مكفوفًا بالقدرة العظيمة الصادرة من الذي يقول للشيء: كن فيكون، وصار في عرضه طريق يابس لا يعلق في سنابك الخيول والدواب.
ولما آل أمرُ البحرِ إلى هذه الحال بإذن الرب العظيم، الشديد المِحال، أُمِرَ موسى -عليه السلام- أن يجاوزه ببني إسرائيل فانحدروا فيه مسرعين، مستبشرين مبادرين، وقد شاهدوا من الأمر العظيم ما يحير الناظرين، ويهدي قلوب المؤمنين، فلما جاوزوه وخرج آخرهم منه، وانفصلوا عنه، أراد موسى –عليه السلام- أن يضرب البحر بعصاه ليرجع كما كان عليه؛ لئلا يكون لفرعون وجنوده وصولٌ إليه. أمره الله أن يصبر حتى يلج فرعونُ وجنودُه، فلما استتموا داخلين ضربه فانطبق عليهم فأغرقهم وزعيمهم، وجعلت الأمواج ترفعه تارة وتخفضه أخرى، وبنو إسرائيل ينظرون إليه وإلى جنوده، ماذا أحلَّ اللهُ بهم من البأسِ العظيم والخطب الجسيم ليكون أقر لأعينهم وأشفى لنفوسهم، فلما عاين فرعون الهلكة وأحيط به وباشر سكرات الموت أناب حينئذ وتاب وآمن حين لا ينفع نفسًا إيمانها، كما قال سبحانه: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) [يونس:90 – 92].
اللهم إننا نعوذ بك من الغفلة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
أما بعد:
أيها الإخوة: دروس هذه القصة كثيرة جدًّا، لكنني سأقتصر على بعضها.
من ذلك نعلم أن الله تعالى ينصر الحق بما يقيضه له من ظروف، مع ضرورة الحذر والعمل الجاد، ولا يجوز للأمة أن تتكل على نصر الله وتترك عمل الأسباب.
ومن ذلك نعلم أن الله تعالى يُنَزِّلُ نصره على عباده مهما اشتد الخطب وقوي العدو إذا ما التجؤوا إليه سبحانه، وهذا درس عظيم للأمة الإسلامية؛ قال تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر: 51].
أيها الإخوة: لقد كان هلاك فرعونَ وجنودِه في يوم عاشوراء، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ، فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟! قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ؛ فَصَامَهُ مُوسَى، فقَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ"، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. رواه البخاري.
ومن هذا التوجيه النبوي الكريم يعلم أن النعم تقابل بالشكر، وأن أعظم الشكر العبادةُ لله تعالى والقربُ إليه، لا بالفرح المصحوب بالأشر والبطر وكفر النعمة.
ومنه يعلم أن انتصار المؤمنين في أي ملة قبل ملة الإسلام هو نصر لنا يستحق الحمد والشكر.
أيها الإخوة: صوموا العاشر وقبله يوم أو بعده يوم، ومن صامها جميعًا أفضل، ولا حرج بإفراد العاشر، قال شيخنا محمد بن عثيمين -رحمه الله-: "والراجح أنه لا يكره إفراد عاشوراء". نسأل الله للجميع القبول، ومن فضله قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وَصَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ إِنِّي أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ".