العزيز
كلمة (عزيز) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وهو من العزّة،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
وجميع الذنوب والمعاصي التي اقترفها الإنسان تحتاج إلى توبة, والتوبة لازمة لكل أحد وإلا هلك كما قال ربنا: (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات: 11]، ومن أضل غيره ثم تاب فإن الله يقبل توبته، ويمحو وزره، ووزر من أضله، لكن عليه أن يدعو إلى الهدى كما دعا إلى الضلالة، فإن الحسنات يذهبن السيئات...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، كتب الفلاح لعباده المؤمنين، وحكم بالفوز لحزبه المتقين، وضمن السعادة لأوليائه المخلصين، أحمده -تعالى- وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه، اللهم صلِّ وسلم على نبينا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره، واتبع سنته، ودعا بدعوته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله -تعالى-؛ فإن تقوى الله خير لباسٍ وزاد، وأفضل وسيلة إلى رضا رب العباد.
عباد الله: التوبة من أحب الأعمال إلى الله -تعالى-، وهي سبب للفلاح في الدنيا والآخرة، أمر الله بها المؤمنين ورغّبهم فيها لسعة فضله وحلمه ورحمته، ويفرح بها مع غناه عنهم، ويقبلها منهم من جميع الذنوب مهما عظمت.
إن التوبة فريضةُ كلِ مسلم، لا يخاطب بها أصحاب الكبائر والموبقات، تاركو الصلوات، متعاطو الجرائم والفواحش والمخدرات فقط، بل الصالحون والمهتدون مطالَبُون دائماً بتجديد التوبة إلى ربهم.
والتوبة من أحب الأشياء إلى الله، ولذلك ابتلى بالذنب أكرم المخلوقات عليه، وهو آدم –عليه السلام- وذريته, فالتوبة هي غاية كمال الآدمي، فكمال الآدمي في هذه الدنيا بالتوبة النصوح، وفي الآخرة بالنجاة من النار، ودخول الجنة.
والله -عزَّ وجلَّ- يحب التوابين، ويفرح بتوبة عباده، ولفرحه بها يقضي على عبده بالذنب، فإن كان ممن سبقت له الحسنى قضى له بالتوبة، وإن كان ممن غلبت عليه شقاوته، أقام عليه حجة عدله، وعاقبه بذنبه قال -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة: 222].
أيها الإخوة: إن الله -جل جلاله- له الأسماء الحسنى، والصفات العلا، ولكل اسم من أسمائه أثر من الآثار في الخلق والأمر, فالخالق يقتضي مخلوقاً, والرازق يقتضي مرزوقاً, والغفار يقتضي مغفوراً له, والتواب يقتضي مذنباً يتوب عليه, والحليم يقتضي سفيهاً يحلم عليه, وهكذا, وليس في الوجود شر إلا الذنوب وموجباتها، فإذا عُوفي العبد من الذنوب عُوفي من موجباتها, فليس للعبد إذا بُغي عليه وأوذي وتسلط عليه خصومه شيء أنفع له من التوبة النصوح.
وعلامة سعادة العبد أن يركز فكره ونظره على نفسه وذنوبه وعيوبه، فيشتغل بها وبإصلاحها، وبالتوبة منها، والله يتولى حفظه ونصرته والدفع عنه, وما يحتاج العبد إلى الاستغفار منه مما لا يعلمه أضعاف أضعاف ما يعلمه، فما سلط عليه مؤذ إلا بذنب منه، فقد كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ! اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي، وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي، فِي أمْرِي وَمَا أنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ! اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي، وَخَطَئِي وَعَمْدِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي" (البخاري ومسلم).
عباد الله: والتوبة من الذنوب واجبة على كل مسلم ومسلمة، كما قال -سبحانه-: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31], ومن تاب إلى الله توبة نصوحاً فإن الله يتوب عليه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
وكل إنسان على خطر عظيم، فهو مع كونه ظلوماً جهولاً، كفوراً قتوراً، ضعيفاً عجولاً، تصيبه آفات أخرى كالعجز والكسل، والغفلة والنسيان، والإسراف والتبذير، والحرص والشره, فعليه أن يستدرك ما فرط فيه بالعلم والعمل, وما سلف منه من الإساءة بالإحسان, وأن يتخلص من رق الجناية بالاستغفار والندم, ويخلص إيمانه وأعماله من خبث الجناية، فالجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب القلب والبدن والعمل, فلا يمكن للعبد من دخول الجنة إلا بعد هذا التمحيص، ولهذا تقول الملائكة لأهل الجنة: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الزمر: 73].
أيها الإخوة: والناس قسمان: تائب, وظالم قال -سبحانه-: (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات: 11], والتوبة معناها الرجوع، فالتائب هو الراجع إلى الله -تعالى- من المعصية إلى الطاعة, ومما نهى الله عنه إلى ما أمر الله به, فمن رجع عن المعاصي خوفاً من عذاب الله فهو تائب, ومن رجع عنها حياءً من الله فهو منيب, ومن رجع عنها تعظيماً لجلال الله -سبحانه- فهو أواب، كما وصف الله خليله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) [هود: 75]، لذا علينا أن نطهّر ظواهرنا وبواطننا من الذنوب والمعاصي، فإن ذنوبنا من أكبر عيوبنا، وهي أوساخ تدنس قلوبنا وجوارحنا.
أيها المسلمون: لقد دعا الله عباده إلى التوبة من كل الذنوب صغيرها وكبيرها، والاستغفار من جميع الذنوب، ووعدهم على ذلك القبول والمغفرة قال الله: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53]، وبشرَ التائبين بتوبة الله عليهم، فقال -تعالى-: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة: 39]، فلا يأس من رحمة الله، فالله يقبل توبة كل مذنب مهما عظمت ذنوبه، وفي الحديث قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتعالى-: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً" (أخرجه الترمذي وصححه الألباني)، اللهم تب علينا واغفر لنا وارحمنا.
أيها الإخوة: والمعصية أو الذنب عبارة عن كل ما هو مخالف لأوامر الله ورسوله في ترك، أو فعل. والذنوب والمعاصي نوعان:
أحدها: ذنوب بين العبد وربه كترك الصلاة والصوم، والواجبات الخاصة به من فعل محذور، وترك مأمور ونحو ذلك.
والثاني: ذنوب بين العبد والخلق كمنع الزكاة، وقتل النفس المعصومة، وغصب الأموال، وشتم الأعراض، وكل متناول من حق الغير.
وجميع الذنوب والمعاصي التي اقترفها الإنسان تحتاج إلى توبة, والتوبة لازمة لكل أحد وإلا هلك كما قال ربنا: (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات: 11]، ومن أضل غيره ثم تاب فإن الله يقبل توبته، ويمحو وزره، ووزر من أضله، لكن عليه أن يدعو إلى الهدى كما دعا إلى الضلالة، فإن الحسنات يذهبن السيئات, قال -سبحانه-: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) [هود: 114]، وجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل فقال: يَا رَسُولَ الله! إِنِّي أصَبْتُ حَدّاً، فَأقِمْ فِيَّ كتاب الله، قَالَ: "ألَيْسَ قَدْ صَلَّيْتَ مَعَنَا؟", قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَإِنَّ الله قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ، أوْ قَالَ: "حَدَّكَ" (أخرجه البخاري ومسلم).
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه-: "أنَّ رَجُلاً أصَابَ مِنِ امْرَأةٍ قُبْلَةً، فَأتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَأخْبَرَهُ فَأنْزَلَ اللهُ: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ الله، ألِي هَذَا؟ قال: "لِجَمِيعِ أمَّتِي كُلِّهِمْ" (مسلم), فمن هذه النصوص يتبين لنا أهمية الحسنة في دفع السيئة ومغفرتها، نسأل الله أن يمن علينا بمغفرة منه ورحمات منه وبركات.
أيها الإخوة: إن كل ما يصيب العبد من المصائب فهو بسبب جنايته, والذنوب كلها يتعجل في الدنيا شؤمها في غالب الأمر، قال الله: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) [النساء: 123]، وعلى المسلم أن يتوب إلى الله من جميع الذنوب والمعاصي، ويهجر ما نهى الله عنه من الأقوال والأعمال، والمعاصي والسيئات, وعليه أن يهجر ما نهاه الله عنه من المعاصي والفواحش والفسوق، وسائر الذنوب.
أيها المسلمون: وتخلّص العبد من الذنوب في الدنيا يكون بأربعة أشياء: بالتوبة النصوح, والاستغفار, والحسنات الماحية, والمصائب المكفرة. فإن محصته هذه الأربعة كان من الذين تتوفاهم الملائكة طيبين، ومن الذين تتنزل عليهم الملائكة عند الموت قال ربنا: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت: 30-32].
وإن لم تف هذه الأربعة بتمحيصه وتخليصه مُحِّص في البرزخ بثلاثة أشياء: أحدها: صلاة المؤمنين عليه، واستغفارهم له، وشفاعتهم فيه. الثاني: تمحيصه بفتنة القبر، وروعة الفتًّان، والعصرة والانتهار. الثالث: ما يهدي إليه إخوانه المسلمون من هدايا الأعمال من الصدقة عنه، والدعاء له، والصيام عنه، والحج عنه، وجعل ثواب ذلك له.
فإن لم تفِ هذه الثلاثة بتمحيصه مُحِّصَ بين يدي ربه في الموقف بأربعة أشياء: أهوال القيامة, وشدة الموقف, وشفاعة الشفعاء, وعفو الله -عزَّ وجلَّ-.
فإن لم تفِ هذه الأربعة بتمحيصه، فلا بدَّ له من دخول الكير (النار) رحمةً في حقه؛ ليتخلص ويتمحص ويتطهر في النار، ويكون مكثه فيها على حسب كثرة الخبث وقلته، وشدته وضعفه وتراكمه, فإذا خرج خبثه، وصفا ذهبه، وصار طيباً خالصاً، أُخرج من النار وأدخل الجنة.
عباد الله: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وأوجبت هذه المحبة فرحاً عظيماً كأعظم ما يقدر من الفرح, كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لَلَّهُ أشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ، حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ أحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأرْضِ فَلاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأيِسَ مِنْهَا، فَأتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ! أنْتَ عَبْدِي وَأنَا رَبُّكَ أخْطَأ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ" (البخاري ومسلم).
أيها الإخوة: ومن مكفرات الذنوب: التوحيد فإنه يكفر الذنوب، فلو لقي العبد المسلم ربه بقراب الأرض خطايا للقيه بقرابها مغفرة, ومتى قوي التوحيد على محو آثار الذنوب بالكلية، وإلا فما معهم من التوحيد يخرجهم من النار إذا نُقُّوا من ذنوبهم، فعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "أتَانِي جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلام-، فَبَشَّرَنِي أنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لا يُشْرِكُ بِالله شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ" قُلْتُ: وَإنْ زَنَى وَإنْ سَرَقَ؟ قَالَ: "وَإنْ زَنَى وَإنْ سَرَقَ" (البخاري).
وأما الكفار والمشركون فإن كفرهم وشركهم يحبط حسناتهم، فلا يلقون ربهم بحسنة يرجون بها النجاة، ولا يغفر لهم شيء من ذنوبهم قال -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا) [النساء: 116]، وقال -سبحانه- في أعمال الكفار والمشركين: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) [الفرقان: 23], فالذنوب والمعاصي تزول آثارها بالتوبة النصوح، والتوحيد الخالص، والحسنات الماحية، والاستغفار، والمصائب المكفرة لها وشفاعة الشافعين في الموحدين، ورحمة أرحم الراحمين.
أيها الإخوة: وتوبة العبد إلى الله محفوفة بتوبة من الله عليه قبلها، وتوبة من الله عليه بعدها، قال -تعالى-: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 117]، فتوبته بين توبتين من ربه، فإنه -سبحانه- تاب عليه أولاً إذناً وتوفيقاً؛ فتاب العبد، فتاب الله عليه ثانياً حين قبلها منه وأثابه عليها, فالله تواب، والعبد تواب، وتوبة العبد رجوعه إلى سيده ومولاه ومن لا غنى له عنه طرفة عين.
أيها المسلمون: والتوبة إلى الله واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله -تعالى- لا تتعلق بحق آدمي فلها خمسة شروط: أحدها: أن تكون خالصة لله -تعالى-. الثاني: أن تكون التوبة في وقتها. الثالث: أن يقلع عن المعصية. الرابع: أن يندم على فعلها. الخامس: أن يعزم على أن لا يعود إليها أبداً. فإن فقد أحد الخمسة لم تصح توبته.
وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فشروطها ستة، هذه الخمسة، والسادس أن يبرأ من حق صاحبها؛ فإن كانت مالاً أو نحوه رده إليه، وإن كانت حد قذف ونحوه مكنه منه، أو طلب عفوه، وإن كانت غيبة استحله منها.
والتوبة النصوح تتضمن ثلاثة أشياء: أحدها: التوبة من جميع الذنوب والمعاصي. الثاني: إجماع العزم على التوبة بحيث لا يكون عنده تردد فيها. الثالث: إخلاص التوبة لله. فالأول يتعلق بما يتوب منه، والثاني يتعلق بذات التائب، والثالث يتعلق بمن يتوب إليه. قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التحريم: 8].
عباد الله: والأنبياء والرسل أعظم الخلق معرفة بالله، وأشدهم اجتهاداً في العبادة؛ لما أعطاهم الله من فضله، وحباهم به من نعمه، فهم دائبون في شكره، معترفون له بالتقصير، لكمال معرفتهم به، وبما يجب له -سبحانه-، فهم أكثر الناس استغفاراً، وأحسنهم عملاً، وأكثرهم توبة. وحث النبي -صلى الله عليه وسلم- على التوبة، فقال -صلى الله عليه وسلم- : "يَا أيُّهَا النَّاسُ! تُوبُوا إِلَى الله، فَإِنِّي أتُوبُ، فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّة" (أخرجه مسلم), وأرشد -صلى الله عليه وسلم- إلى كثرة الاستغفار، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "والله إِنِّي لأسْتَغْفِرُ الله وَأتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً" (أخرجه البخاري), ونبّه -صلى الله عليه وسلم- إلى أهمية التوبة والاستغفار للتخلص من هموم النفس وآلام القلب، فقال: "إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لأسْتَغْفِرُ اللهَ، فِي الْيَوْمِ، مِائَةَ مَرَّةٍ" (أخرجه مسلم).
عباد الله: كما أن التوبة التي تكرَّم الله بقبولها من عبده هي ما كان قبل معاينة الموت والعذاب المهلك, كما قال -سبحانه-: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) [النساء: 17]، وأما بعد حضور الموت فلا يقبل من الكفار رجوع، ولا من العاصين توبة، قال -سبحانه-: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [النساء: 18]، فالتوبة في هذه الحال توبة اضطرار لا تنفع صاحبها، إنما تنفع توبة الاختيار قبل معاينة الهلاك، قال -تعالى-: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ) [غافر: 85].
أيها الإخوة: ليس للعبد إلا الاستغفار المستمر على ما سلف من الذنوب والمعاصي، أو التقصير والتفريط، ولهذا أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- بكثرة الاستغفار في ختام دعوته قال -سبحانه-: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النصر: 1-3], والنبي -صلى الله عليه وسلم- أكمل الخلق، وأكرمهم على الله، وأعرفهم به، والمقدم على الخلق كلهم في جميع أنواع الطاعات، وكان أصحابه -رضي الله عنهم- يعدون له في المجلس الواحد قبل أن يقوم: "رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ مِائَةَ مَرَّةٍ" (أخرجه أحمد وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة]، فكيف بحالنا نحن المقصرين المفرطين؟ كم نحتاج إلى الاستغفار والتوبة من الذنوب والمعاصي كل يوم، بل كل لحظة؟ ألا ما أجهل البشر بربهم حين يقصرون في طاعته، ويقترفون معصيته، وينتهكون محارمه، ويخالفون أوامره: (أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة: 74].
اللهم اشملنا بعفوك ومغفرتك وسترك في الدنيا والآخرة ونسألك يا الله العفو والعافية والمعافاة في الدين والدنيا والآخرة، وأن يجنبنا سُبُل الغواية، وأن يتم علينا إيماننا، ويصلح لنا أحوالنا، ويحسن لنا الختام أجمعين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أكرم أولياءه بطاعته، والصدق في معاملته، وأنزل في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه، وعمر أوقاتهم بالبذل لخدمة الدين، وإعزاز المؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المؤمنون: اتقوا الله ربكم، وآمنوا به، وأخلصوا له العمل، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزِنُوا أعمالكم قبل أن تُوزَن عليكم، واعلموا أن العبد لا يستحق اسم التائب حتى يتخلص من أجناس المحرمات المذكورة في كتاب الله -عزَّ وجلَّ-، وهي: الكفر والشرك, والرياء والنفاق, والفسوق والعصيان, والإثم والعدوان, والفحشاء والمنكر, والظلم والبغي, والقول على الله بلا علم, واتباع غير سبيل المؤمنين, ونحو ذلك، وقد أوضح الله لعباده أجناس المحرمات ليجتنبوها، قال -تعالى-: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [الأعراف: 33]، وقال -تعالى-: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الأنعام: 151].
والتوبة ثلاثة أنواع: أحدها: التوبة الصحيحة، وهي أن يقترف العبد ذنباً ويتوب عنه بصدق في الحال. والثاني: التوبة الأصح، وهي التوبة النصوح، وعلامتها أن يكره العبد المعصية ويستقبحها فلا تخطر له على بال، ولا ترد في خاطره أصلاً, وهي من أعمال القلب، وهي تعني تنزيه القلب عن الذنوب. والثالث: التوبة الفاسدة، وهي التوبة باللسان مع بقاء لذة المعصية في الخاطر.
أيها المسلمون: إن التوبة واجبة على كل مسلم في كل حال؛ لأنه دائماً يظهر له ما فرط فيه من ترك مأمور، أو ما اعتدى فيه من فعل محظور، فعليه أن يتوب إلى الله دائماً, والله يحب من عباده أن يتوبوا إليه، وقد أخبر -سبحانه- أنه يريد أن يتوب على كل من تاب قال -سبحانه-: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) [النساء: 27، 28]، والله رؤوف بالعباد، واسع الرحمة لهم، يقبل التوبة من عباده التائبين من أي ذنب، بل يفرح -تعالى- بتوبة عبده إذا تاب أعظم فرح، فمن تاب إليه تاب عليه ولو تكررت منه المعصية مراراً؛ لأنه -سبحانه- التواب الرحيم, فليعلم العصاة ذلك ليقبلوا عليه وينيبوا إليه: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 104].
والله -تعالى- قد دعا عباده إلى الإنابة إليه والتوبة من التقصير فانقسموا إلى قسمين: المستجيبون الذين استجابوا لربهم لِمَا دعاهم إليه لما معهم من الإيمان والعمل الصالح، فإذا استجابوا له شكر الله لهم, وأما غير المستجيبين له وهم المعاندون الذين كفروا به وبرسله، فهؤلاء لهم عذاب شديد في الدنيا والآخرة.
أيها الأحبة: ووقت التوبة مفتوح للعباد حتى تطلع الشمس من مغربها, كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ -عزَّ وجلَّ- يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ؛ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ؛ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا" (أخرجه مسلم), وقال -صلى الله عليه وسلم- : "مَنْ تَابَ قَبْلَ أنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، تَابَ اللهُ عَلَيْهِ" (أخرجه مسلم).
وقد شرع الله التوبة والاستغفار في خواتيم الأعمال الصالحة: فشرعها في خاتمة الحج, وفي آخر قيام الليل في السحر, وبعد السلام من الصلوات الخمس, وبعد كمال الوضوء, فالتوبة مشروعة عقيب الأعمال الصالحة.
فمن أذنب سراً فليتب سراً، وليس عليه أن يظهر ذنبه، ويكشف ما ستره الله عليه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ الله، فَيَقُولَ: يَا فُلانُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ الله عَنْهُ" (البخاري ومسلم), ومن أذنب جهاراً فليتب جهراً، فمن أظهر بدعة أو فجوراً فلا بد من توبته علناً، ليفرح به المؤمن الصادق، ويقتدي به من كان على مثل بدعته أو فجوره.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنها سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم وفقنا لفعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم إنا نسألك حبك، وحب من أحبك وحب عمل يقربنا إلى حبك.