الطيب
كلمة الطيب في اللغة صيغة مبالغة من الطيب الذي هو عكس الخبث، واسم...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | السيرة النبوية - أركان الإيمان |
وَحِينَ نَرَى مُسَارَعَةَ كَثِيرٍ مِنَ الشَّبَابِ فِي إِيقَاعِ الْكُفْرِ عَلَى مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ، وَاسْتِحْلَالِ دَمِهِ؛ نُدْرِكُ أَنَّ فِي الشَّبَابِ عَجَلَةً تَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَزُمُّهَا بِالْإِيمَانِ، وَيُوثِقُهَا بِالْعِلْمِ؛ لِئَلَّا تَطِيشَ فَتُودِيَ بِصَاحِبِهَا وَبِالنَّاسِ مَعَهُ. وَهَكَذَا زَجَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُسَامَةَ فِي فِعْلَتِهِ...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْوَلِيِّ الْحَمِيدِ، الْعَزِيزِ الْمَجِيدِ، جَعَلَ الْإِيمَانَ شَرْطًا لِدُخُولِ الْجِنَانِ، وَحُلُولِ الرِّضْوَانِ، وَالنَّجَاةِ مِنَ النِّيرَانِ، وَجَعَلَهُ رَاحَةً وَطُمَأْنِينَةً فِي الدُّنْيَا، وَفَوْزًا أَكْبَرَ فِي الْآخِرَةِ، نَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا، فَلَوْلَاهُ –سُبْحَانَهُ- مَا اهْتَدَيْنَا وَلَا صَلَّيْنَا، وَنَشْكُرُهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْنَا؛ فَكُلُّ نِعْمَةٍ وَعَافِيَةٍ مِنْهُ، وَلَا حَوْلَ لِلْعَبْدِ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِهِ (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)[النَّحْلِ: 53]، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ عَظِيمٌ فِي ذَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، حَكِيمٌ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْدَارِهِ، غَنِيٌّ عَنْ عِبَادِهِ، حَلِيمٌ فِي إِمْهَالِهِ، شَدِيدٌ فِي عِقَابِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ دَلَّنَا عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَهُوَ أَعْظَمُ النَّفْعِ، وَحَذَّرَنَا مِنَ الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ وَهُوَ أَضَرُّ شَيْءٍ عَلَى الْعَبْدِ، فَمَنْ حَقَّقَ الْإِيمَانَ نُجِّيَ وَفَازَ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ عُذِّبَ وَخَابَ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَاسْتَمْسِكُوا بِدِينِكُمْ؛ فَإِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، وَزِيدُوا إِيمَانَكُمْ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ فَإِنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ أَجْزَاءُ الْإِيمَانِ، وَبِهَا يَزِيدُ وَيَثْبُتُ وَيَتَمَكَّنُ مِنَ الْقَلْبِ، وَيَا سَعَادَةَ قَلْبٍ عَمُرَ بِالْإِيمَانِ، وَيَا شَقَاءَ قَلْبٍ خَلَا مِنَ الْإِيمَانِ (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)[الْأَنْعَامِ: 82].
أَيُّهَا النَّاسُ: الْإِيمَانُ أَعْظَمُ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ إِنْسَانٌ غَيْرَهُ، وَهُوَ أَنْفَعُ شَيْءٍ يُقَدِّمُهُ الْآبَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ وَالْمُرَبُّونَ لِأَوْلَادِهِمْ وَلِمَنْ يُرَبُّونَهُمْ؛ لِأَنَّ جَزَاءَ الْإِيمَانِ وَجَزَاءَ أَجْزَائِهِ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ يَبْقَى وَلَا يَفْنَى، وَكُلُّ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا يَفْنَى (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[الْأَعْلَى: 17]، وَكَمْ مِنْ أَبٍ يَغْضَبُ إِنْ غَابَ وَلَدُهُ عَنِ الْمَدْرَسَةِ، وَلَا تَتَحَرَّكُ فِيهِ شَعْرَةٌ إِنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْمَسْجِدِ؟! وَكَمْ مِنْ أُمٍّ تُعَاتِبُ ابْنَتَهَا عَلَى إِخْفَاقِهَا فِي دِرَاسَتِهَا، وَلَكِنَّهَا لَا تَأْبَهُ إِنْ تَرَكَتْ طَاعَةَ رَبِّهَا فِي صَلَاتِهَا أَوْ حِجَابِهَا أَوْ لِبَاسِهَا؟ وَكَمْ مِنْ مُرَبٍّ يَزْرَعُ فِي قُلُوبِ مَنْ يُرَبِّيهِمْ أَهَمِّيَّةَ الدِّرَاسَةِ وَالْوَظِيفَةِ وَالْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ، وَلَا يَزْرَعُ فِيهِمْ أُصُولَ الْإِيمَانِ، وَمَا يُزَكِّيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَمَا أَشَدَّ رَغْبَةَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَمَتَاعِهَا، وَمَا أَقْبَحَ نِسْيَانَهُمُ الْآخِرَةَ وَنَعِيمَهَا!! وَنَعُوذُ بِاللَّهِ -تَعَالَى- مِنْ أَنْ نَكُونَ مِمَّنْ (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ)[التَّوْبَةِ: 67]، أَوْ مِمَّنْ (نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ)[الْحَشْرِ: 19].
وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَغْرِسُ فِي قُلُوبِ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- وَهُمْ أَطْفَالٌ وَشَبَابٌ حُبَّ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَالرَّغْبَةَ فِيمَا عِنْدَهُ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْإِيمَانَ، وَيُبَشِّرُهُمْ بِجَزَائِهِ، وَيَدُلُّهُمْ عَلَى أَجْزَائِهِ، وَيُحَذِّرُهُمْ مِنْ نَوَاقِصِهِ وَنَوَاقِضِهِ. كُلُّ ذَلِكَ لِأَجْلِ أَنْ يَغْرِسَ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ.
وَذَاتَ مَرَّةٍ أَرْدَفَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَهُوَ شَابٌّ لَمْ يَبْلُغِ الثَّلَاثِينَ مِنْ عُمْرِهِ، فَقَالَ: "يَا مُعَاذُ، تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟ قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا" (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ).
فَعَلَّمَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التَّوْحِيدَ وَهُوَ أَعْلَى الْإِيمَانِ، وَبَيَّنَ لَهُ جَزَاءَهُ وَهُوَ أَكْبَرُ الْجَزَاءِ؛ لِيَحْمِيَ تَوْحِيدَهُ مِنَ الشِّرْكِ، وَيُنَمِّيَ إِيمَانَهُ بِالْعَمَلِ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ يُحَفِّزُ عَلَى الْعَمَلِ، وَأَيُّ جَزَاءٍ أَعْظَمُ مِنْ حَقٍّ يَجْعَلُهُ الْخَالِقُ عَلَى نَفْسِهِ لِلْمَخْلُوقِ بِأَنْ يَنْجُوَ مِنَ الْعَذَابِ إِذَا حَقَّقَ أَصْلَ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ، وَالنَّجَاةُ تَقْتَضِي الْفَوْزَ بِالْجِنَانِ وَالرِّضْوَانِ وَرُؤْيَةِ الرَّحْمَنِ سُبْحَانَهُ؛ لِأَنَّ مَنْ نُجِّيَ مِنَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَازَ بِالْجِنَانِ (وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) [آلِ عِمْرَانَ: 185].
وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَى مُعَاذًا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ بِهَذِهِ الْبِشَارَةِ الْعَظِيمَةِ فِي جَزَاءِ التَّوْحِيدِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنْ لَا يَتَّكِلُوا فَيَتْرُكُوا الْعَمَلَ، وَالْعَمَلُ هُوَ أَجْزَاءُ الْإِيمَانِ الَّتِي تُنَمِّيهِ وَتُزَكِّيهِ. وَأَخْبَرَ مُعَاذًا بِذَلِكَ وَهُوَ شَابٌّ لِعِلْمِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِفِقْهِ مُعَاذٍ وَوَرَعِهِ وَتَقْوَاهُ، وَحِرْصِهِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ فَالْبِشَارَةُ تَدْفَعُهُ لِلْعَمَلِ وَلَا تُقْعِدُهُ عَنْهُ، وَهَكَذَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَبٍ وَمُرَبٍّ أَنْ يَهْتَبِلَ الْفُرْصَةَ الْمُنَاسِبَةَ لِغَرْسِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِ مَنْ يُرَبِّيهِمْ بِالتَّبْشِيرِ وَالتَّرْغِيبِ إِذَا رَأَى مِنْهُمْ جِدًّا فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَحِرْصًا عَلَيْهِ، وَبِالتَّرْهِيبِ وَالتَّخْوِيفِ إِنْ رَأَى مِنْهُمُ اتِّكَالًا عَلَى الْإِيمَانِ، وَكَسَلًا فِي الْعَمَلِ، كَمَا بَشَّرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُعَاذًا، وَنَهَاهُ أَنْ يُخْبِرَ غَيْرَهُ بِالْبِشَارَةِ.
وَلِأَنَّ فِي الشَّبَابِ عَجَلَةً وَتَهَوُّرًا، وَسُرْعَةً فِي اتِّخَاذِ الْقَرَارَاتِ، وَمُجَازَفَةً فِي إِطْلَاقِ الْأَحْكَامِ؛ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْشَى عَلَى إِيمَانِ الشَّبَابِ مِنْ صَبْوَةِ الشَّبَابِ وَتَهَوُّرِهِ، وَيَزْجُرُهُمْ عَمَّا يُخِلُّ بِإِيمَانِهِمْ، وَلَا يَتَهَاوَنُ فِي ذَلِكَ، كَمَا زَجَرَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- حِينَ قَتَلَ الرَّجُلَ الَّذِي شَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ، مَعَ أَنَّ أُسَامَةَ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَكَانَ حِينَ فِعْلَتِهِ تِلْكَ شَابًّا لَمْ يَتَجَاوَزِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمْرِهِ، وَلَكِنَّ شَأْنَ الْإِيمَانِ عَظِيمٌ، وَالْمُحَافَظَةَ عَلَيْهِ مِنْ أَوْجَبِ الْوَاجِبَاتِ، وَأَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ.
رَوَى أُسَامَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَقَالَ: "بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْحُرَقَةِ، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ، قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَكَفَّ الْأَنْصَارِيُّ فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قُلْتُ: كَانَ مُتَعَوِّذًا، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا..." (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ). وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلَاحِ، قَالَ: أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟".
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: قَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْجَعَ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَقَتَلَ فُلَانًا وَفُلَانًا، وَسَمَّى لَهُ نَفَرًا، وَإِنِّي حَمَلْتُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى السَّيْفَ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَقَتَلْتَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: وَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: فَجَعَلَ لَا يَزِيدُهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ: كَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَحِينَ نَرَى هَذِهِ الْغِلْظَةَ وَالشِّدَّةَ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي تَعَامُلِهِ مَعَ أُسَامَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- نُدْرِكُ أَنَّ أَمْرَ الْإِيمَانِ عَظِيمٌ؛ فَلَا يُسْلَبُ الْإِيمَانَ مَنْ قَالَ كَلِمَتَهُ مَهْمَا ظَنَنَّا بِهِ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ كُفْرًا ظَاهِرًا لَا عُذْرَ لَهُ فِيهِ مِنْ إِكْرَاهٍ أَوْ شُبْهَةٍ أَوْ خَطَأٍ أَوْ تَأْوِيلٍ، وَنُدْرِكُ أَيْضًا أَنَّ نَفْيَ الْإِيمَانِ عَنِ الْمُؤْمِنِ يُوقِعُ صَاحِبَهُ فِي مَهَالِكَ عَظِيمَةٍ، وَقَدْ لَا يَسْلَمُ إِيمَانُهُ وَهُوَ قَدْ سَلَبَ إِيمَانَ غَيْرِهِ.
وَحِينَ نَرَى مُسَارَعَةَ كَثِيرٍ مِنَ الشَّبَابِ فِي إِيقَاعِ الْكُفْرِ عَلَى مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ، وَاسْتِحْلَالِ دَمِهِ؛ نُدْرِكُ أَنَّ فِي الشَّبَابِ عَجَلَةً تَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَزُمُّهَا بِالْإِيمَانِ، وَيُوثِقُهَا بِالْعِلْمِ؛ لِئَلَّا تَطِيشَ فَتُودِيَ بِصَاحِبِهَا وَبِالنَّاسِ مَعَهُ. وَهَكَذَا زَجَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُسَامَةَ فِي فِعْلَتِهِ، وَعَلَّمَ الشَّبَابَ أَنَّ سَلْبَ الْإِيمَانِ مِنْ صَاحِبِهِ بِلَا حَقٍّ يُوقِعُ فِي وَرْطَةٍ كَبِيرَةٍ، وَأَنَّ مَغَبَّتَهُ عَظِيمَةٌ.
نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يُصْلِحَ أَوْلَادَنَا وَأَوْلَادَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يَعْمُرَ قُلُوبَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَأَنْ يَهْدِيَهُمْ لِمَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ وَصَلَاحُ أُمَّتِهِمْ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِمْ وَاقْتَفَى أَثَرَهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى مَا هَدَاكُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّ الشُّكْرَ وَالْإِيمَانَ يَمْنَعَانِ الْعَذَابَ (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) [النِّسَاءِ: 147].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ أَنْ يَنْشَأَ الْعَبْدُ عَلَى الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ، وَيَتَعَلَّمَ فِي طُفُولَتِهِ الْعَقِيدَةَ الصَّحِيحَةَ، فَلَا يَتَعَلَّقُ قَلْبُهُ بِغَيْرِ اللَّهِ -تَعَالَى-.
وَفِي عَالَمٍ مَفْتُوحٍ يَمُوجُ بِشَتَّى الْأَفْكَارِ، وَيَضْطَرِبُ بِالْأَهْوَاءِ، وَيَكْثُرُ فِيهِ إِعْجَابُ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِحْرَازِ الْإِيمَانِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ، وَتَنْمِيَتِهِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَغَرْسِهِ فِي قُلُوبِ الْأَبْنَاءِ وَالْبَنَاتِ، بَلْ وَالْأَطْفَالِ وَالرُّضَّعِ؛ فَإِنَّ لِذَلِكَ أَثَرًا عَظِيمًا فِي رُسُوخِ الْإِيمَانِ وَقُوَّتِهِ فِي قُلُوبِهِمْ. يَقُولُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- عَنِ الْأَوْلَادِ: "فَإِذَا كَانَ وَقْتُ نُطْقِهِمْ فَلْيُلَقَّنُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَلْيَكُنْ أَوَّلُ مَا يَقْرَعُ مَسَامِعَهُمْ مَعْرِفَةَ اللَّهِ –سُبْحَانَهُ- وَتَوْحِيدَهُ، وَأَنَّهُ –سُبْحَانَهُ- فَوْقَ عَرْشِهِ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَيَسْمَعُ كَلَامَهُمْ، وَهُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا".
وَمِنْ تَنْشِئَةِ الْأَوْلَادِ عَلَى الْإِيمَانِ: تَحْفِيظُهُمُ الْقُرْآنَ، وَتَلْقِينُهُمْ صَحِيحَ الْأَخْبَارِ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ كِتَابَا إِيمَانٍ؛ وَلِذَا كَانَ تَحْفِيظُ الْأَطْفَالِ قِصَارَ السُّوَرِ وَبَعْضَ الْأَحَادِيثِ مِمَّا يُؤَسِّسُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ. يَقُولُ الْمُؤَرِّخُ ابْنُ خَلْدُونَ رَحِمَهُ اللَّهُ -تَعَالَى-: "اعْلَمْ أَنَّ تَعْلِيمَ الْوِلْدَانِ لِلْقُرْآنِ شِعَارُ الدِّينِ، أَخَذَ بِهِ أَهْلُ الْمِلَّةِ وَدَرَجُوا عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ أَمْصَارِهِمْ؛ لِمَا يَسْبِقُ فِيهِ إِلَى الْقُلُوبِ مِنْ رُسُوخِ الْإِيمَانِ وَعَقَائِدِهِ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَبَعْضِ مُتُونِ الْأَحَادِيثِ. وَصَارَ الْقُرْآنُ أَصْلَ التَّعْلِيمِ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ مَا يَحْصُلُ بَعْدُ مِنَ الْمَلَكَاتِ؛ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ التَّعْلِيمَ فِي الصِّغَرِ أَشَدُّ رُسُوخًا وَهُوَ أَصْلٌ لِمَا بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ السَّابِقَ الْأَوَّلَ لِلْقُلُوبِ كَالْأَسَاسِ لِلْمَلَكَاتِ".
فَلْنَحْرِصْ -عِبَادَ اللَّهِ- عَلَى تَنْشِئَةِ أَوْلَادِنَا عَلَى الْإِيمَانِ، وَمَلْءِ قُلُوبِهِمْ بِهِ، وَتَعَاهُدِهِ بِالنَّمَاءِ وَالزِّيَادَةِ، فِي زَمَنٍ تَلَاطَمَتْ فِيهِ الْفِتَنُ، وَتَوَالَتِ الْمِحَنُ، وَلَا نَجَاةَ لَهُمْ فِيهِ إِلَّا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[يُونُسَ: 9 - 10].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...