الغني
كلمة (غَنِيّ) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (غَنِيَ...
العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الزهد - أركان الإيمان |
فإذا علمت من خلال هذه الكلمة أنك لله عبد، وأنك إليه راجع، فتذكر أنك موقوف بين يدي الله، وإذا استيقنت أنك موقوف بين يدي الله فاعلم أن الله -عز وجلّ- سائلك عما قدمت في هذه الحياة، وإذا علمت أنك مسؤول فأعِدَّ للمسألة جوابًا، وأَعِدَّ للجواب صوابًا، والكيِّسُ من ..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه، ومبلّغ الناس شرعَه، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
معاشر المؤمنين عباد الله: اتقوا الله تعالى؛ فإن من اتقى الله وقاه، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه.
عبادَ الله: إن من الأمور المتقررة لدى جميع المسلمين، أن هذه الحياة الدنيا دار ابتلاء وامتحان واختبار، خلق الله -عز وجلّ- العباد فيها ليبلوهم أيهم أحسن عملاً؛ فليست هي بدار الخلود والبقاء والاستقرار، وإنما هي دار رحيل وانتقال، يُمتحَن العباد فيها ويُختَبرُون، لِيَمِيزَ الله -تبارك وتعالى- الطَّيبَ من الخبيث، والحسَن من الرديء، والصالح من الفاسد، وتأمّلوا -معاشر المؤمنين- في هذا قول الله -تبارك وتعالى-: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً) [الكهف: 7-8].
وهذه الآيات -عبادَ الله- هي من الآيات العشر التي افتُتحت بها سورة الكهف، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبى الدرداء -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف، عُصم من الدَّجال"، وثبت في المستدرك من حديث أبى سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، أضاء له من النورِ ما بين الجمعتين"، فهذا -عبادَ الله- من فضائل هذه الآيات، من فضائلها ومناقبها الحميدَةِ، وآثارها المباركة على من يحفظُها ويقرؤها ويتأمّل في دلالاتها.
وكم هو جميل بنا -معاشرَ المؤمنين- أن نتأمل هذه الآيات: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا)؛ فكل ما على الأرض؛ من طعام وشراب ولباس ومسكن وأنهار وأشجار وأودية وجبال، وغير ذلك مما على وجه الأرض كل ذلك -عبادَ الله- أوجده الله -سبحانه وتعالى- زينة لهذه الأرض، ولمَ جعله زينة؟! قال -تبارك وتعالى-: (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)، فالحياة الدنيا -بمباهجها ومُفرِحَاتها وأنواع ملذاتها- هي دار امتحان وابتلاء واختبار؛ ليُعلَمَ المسيءُ من المفسد، والصالحُ من الفاسد، والحسنُ من القبيح: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ) [الأنفال:37].
فلنتأمل ذلك -عباد الله-: (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)، ثم ماذا -عباد الله-؟! إن جميع ما على وجه الأرض -من مباهج وزينة ونِعَم وعطايا- كل ذلك مآله إلى الزوال، ومصيرُه إلى الفَناء؛ ولهذا قال الله -تبارك وتعالى-: (وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً)؛ فكل ما على وجه الأرض -من مأكل ومشرب وملبس ومسكن ومنظر وغير ذلك- كلُّ ذلك صائر إلى الزوال والفناء، (وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً)؛ ولهذا فإن العبد يلقى الله يوم القيامة فرْدًا، ليس معه مما كان يملكه في حياته الدنيا أي شيء إلا أعماله، سواء أكانت صالحة أم فاسدة، فإنها هي التي يلقى الله -عز وجلّ-بها: (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).
إن زبدَةَ هذه الحياةِ، والغنيمةَ المباركَة فيها، لمن يحصِّل في هذه الحياة الأعمال الحسنة، والطاعات الصالحةَ، التي يَسَرُّهُ أن يلقى الله -تبارك وتعالى- بها.
سُئِلَ أحد السلف -وهو الفضيلُ بن عياض رحمه الله- عن معنىَ قوله تعالى: (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)، فقال: أخلصه وأصوبه، قيل: يا أبا علي: وما أخلصه وأصوبه؟! قال: إنّ العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة.
معاشرَ المؤمنين: وإنَّ مما ينبغي أن نعلمه في هذا المقام، وأن نستيقنه في هذا الباب أن ابتلاء الله -تبارك وتعالى- لعباده في هذه الحياة على نوعين اثنين: ابتلاء بالنعماء والسراء، وابتلاء بالبلواء والضراء، كما قال الله -تبارك وتعالى-: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء:35]..
نعم عباد الله: إنّ الله -جلّ وعلا- يبتلي عباده تارة بالسراء والأمور المفرحة من أنواع النعم وصنوف المباهج وألوان الملذات، ويبتليهم -تبارك وتعالى- تارة بالمصائب والبلايا والرّزايا والمحن، وكل ذلك ابتلاء؛ فالمنعَم عليه بأنواع النِّعم مُبتلى، والمصاب بأنواع المصائب مبتلى، والمؤمن في نوعي الابتلاء صائرٌ إلى خير ومُقدمٌ إلى خير.
وها هنا يَعجَبُ نبينا -صلوات الله وسلامه عليه- كما جاء في حديث صهيب بن سنان -وهو في صحيح مسلم- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمرَه كلَّه خير، إن أصابته سرّاء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له، ولا يكون ذلك لأحد إلا للمؤمن".
نعم -عباد الله- لا يكون ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ لأنّ المؤمن إذا أصابه الله -تبارك وتعالى- بسراء -أي بأمر يسرُّه ويفرحه ويسعده- يعلم أن ذلك نعمة من الله وفضلٌ ومنةٌ، فيشكر الله -تبارك وتعالى- ويحمده سبحانه، فيفوز في هذا المقام بأجر الشاكرين الحامدين، وإذا ابتلي المؤمن في هذه الحياة بضرّاء -أي بأمر أضرَّ به وأرَّقه وأحزنه وأقلقه وآلمه- فإنه يعلم أن ما أصابَه فإنما هو بإذن الله، وأن ما أصابه لم يكن ليُخطِئَه، فيعْلَمُ أن ما أصابَهُ من عند الله، فيرضَى ويُسَلِّمُ ويصبر، فيفوزُ هنا بأجر الصابرين..
فالمؤمن في سرائه وضرائه فائز؛ أما في سرائه فهو فائز بثواب الشاكرين، وأما في ضرائه فهو فائز بثواب الصابرين، أما من لم يكن على الإيمان السّديد، والطاعة للرب الحميد -سبحانه-، فإنه في سرَّائِهِ لا يعرف نعمة الله عليه، بل يجحدها، كما قال الله -عز وجلّ- عن أمثال هؤلاء: (يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا) [النحل:83]، فإذا أغدق الله عليه العطايا، ووالى عليه المنن والهبات، قال -جاحدًا لنعمة ربِّه-: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) [القصص: 78]، أو قال: إنما ورثته كابرًا عن كابر، أو قال: إنما حصلت عليه بعرق جبيني وجَدَارَتِي وحذقي ومهارتي، ونحو ذلك من الألفاظ التي تدل على رِقّة الدين وضَعفِ الإيمان.
ثم إن الله إذا ابتلاه بأنواعٍ من المصائب والرزايا تسخَّطَ وجَزِعَ، وشَكاَ الله -تبارك وتعالى- إلى عباده، فيكون خاسرًا في حالتيه الاثنتين؛ في ابتلائه بالسراء، وابتلائه بالضراء.
ولهذا -عباد الله- علينا أن نُحقِّقَ ما يكون به فوزُنا في سرّائنا وضرائنا؛ ففي السراء نكون شاكرين، وفي الضراء نكون صابرين؛ فننالُ الخيرَ كلَّه، ونفوزُ بسعادة الدنيا والآخرة، والله -جلّ وعلا- المأمولُ وحده أن يوفقنا لكل خير، وأن يهديَناَ سواء السبيل، وأن يجعلنا من عباده الشاكرين في السراء، الصابرين في الضراء، وأن يجعلَ كلَّ قضاءٍ قضاه لنا خيرًا، إنه -تبارك وتعالى- سميع الدعاء، وهو أهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على جوده وتفضله وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأعوانه.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا لله تعالى.
عباد الله: وكما أن الله -عز وجلّ- يبتلي عباده بالسراء؛ ليميز الشاكر من الكافر، فإنه -تبارك وتعالى- يبتلى عباده كذلك بالضراء؛ ليميز الجازع من الصابر؛ ولهذا يقول الله -تبارك وتعالى-: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة:155-157].
وتأمّل -أيها المؤمن- في هذا المقام -مقام الابتلاء بالضراء- أن مَفزع المؤمن وملجأه في هذا المقام هو الله -جلّ وعلا-، وخير ما يقال في هذا المقام: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) [البقرة:156]، فقد جعل الله -تبارك وتعالى- هذه الكلمة العظيمة سَلْوة للمبتلين، ومَرجِعًا للممتحنين، فهم يَسْلَونَ بقراءتها، ويزول قَلقُهم وألمهم عند تأمّلها وتدَبُّرِهَا: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).
وهذه الكلمة إذا تأملها العبد فهي تعني أمرين اثنين:
الأول منهما: أن الكل عبدٌ لله، وأننا مماليك لله، والله -جلّ وعلا- يتصرف في ملكه كيف يشاء، ويقضي فيه -سبحانه وتعالى- بما يريد.
والأمر الثاني: أن مرجع الجميع إلى الله، فإذا علمت من خلال هذه الكلمة أنك لله عبد، وأنك إليه راجع، فتذكر أنك موقوف بين يدي الله، وإذا استيقنت أنك موقوف بين يدي الله فاعلم أن الله -عز وجلّ- سائلك عما قدمت في هذه الحياة، وإذا علمت أنك مسؤول فأعِدَّ للمسألة جوابًا، وأَعِدَّ للجواب صوابًا، والكيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أَتبعَ نفسه هواها، وتمنىَّ على الله الأماني.
واعلَمُوا -رعاكم الله- أنّ أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدى هدى محمّد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وصلوا وسلموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه المبين؛ فقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56]، وقال -صلي الله عليه وسلم-: "من صلى عليّ واحدة، صلى الله عليه بها عشرًا".
اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبى بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم، بمنّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واحمِ حوزةَ الدين يا رب العالمين.
اللهم آمِنّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّ وترضى، وأعنه على البرّ والتقوى، وسدِّده في أقواله وأعماله، وارزقه البطانةَ الصالحةَ الناصحة يا ربّ العالمين، ونحن -معاشرَ أهل المدينة- نرحبُ بمقدَمِه إلى هذا البلد، ونسأل الله -عز وجلّ- أن يجعله مَقْدَمًا ميمونًا مباركًا عليه على هذا البلد وعلى أهل المدينة وساكنيها، وأن يبارك له في أعماله وأقواله، وأن يُسدِّده في حركاته وسكناته، وأن يجعله عزًّا للإسلام والمسلمين؛ إنه -تبارك وتعالى- سميع مجيب قريب.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، زكِّها أنت خيرُ من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إنا نسألك من الخير كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، اللهم اغفر لنا ذنبنا كله، دِقًّه وجلَّه، أوله وآخره، سرّه وعلنه، اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم بارك لنا في أوقاتنا وأموالنا وذرياتنا وأزواجنا، واجعلنا مباركين أينما كنا، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقْضِ الدَّين عن المدينين، اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم موتانا وموتى المسلمين، يا مجيب الدعاء، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والمحنَ كلها، والزلازل والفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة، يا ذا الجلال والإكرام.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عباد الله: اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه وآلائه يزدكم، ولَذِكرُ الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.