الآخر
(الآخِر) كلمة تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - التوحيد |
والكريم -سبحانه- هو الواسع في ذاته وصفاته وأفعاله، الذي له الشرف والرفعة، والعلو والعظمة، والمجد والعزة، تفرد بالكمال وتنـزه عن النقائص والآفات، فله قدر عظيم، فالكل له خلق وملك، ولا سميّ له...
الخطبة الأولى:
الحمد لله العفو الكريم، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، جعل الحياة الدنيا دارًا للابتلاء والاختبار، ومحلاً للعمل والاعتبار، وجعل الآخرة دارين: دارًا لأهل كرامته وقربه من المتقين الأبرار، ودارًا لأهل غضبه وسخطه من الكفار والفجار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله النبي المختار، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الأخيار، ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار.
أما بعد: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [لقمان: 33].
عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، وعظّموه حق تعظيمه، فإن الإنسان لتأخذه الدهشة وتتملكه الحيرة، من إحسان الله إلينا، وكرمه علينا، وجوده وفضله، وتوالي نعمه، فلماذا بعد كل هذا الإحسان فسدت أحوالنا، وكثرت ذنوبنا، وقست قلوبنا، وضعفت نفوسنا؟!.
يا أيها الإنسان: يا من خلقه ربه وصوّره. يا أيها الإنسان، يا من تعدى حدود الله، وانتهك حرمات الله، وأكل نعم الله، واستظل بسماء الله، ووطأ أرض الله. يا أيها الإنسان: إنك سوف تُعرض على الله, أمَا فكرت في القدوم على الله؟!.
يا أيها الإنسان ما غرَّك بربك الكريم، ما الذي خدعك حتى عصيت الله؟! ما الذي غرك، حتى تجاوزت حدود الله؟ ما الذي أذهلك، حتى انتهكت حرمات الكريم؟!
يا أيها الإنسان: أما كنت نطفة؟ أما كنت ماء مهينًا؟ أما كنت في عالم العدم؟! هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا؟ مسكين أنت يا ابن آدم، خُلقتَ من ماء، من نطفة، من عالم العدم، فلما مشيت على الأرض تكبرت، وتجبرت، ونسيت الله الكريم -سبحانه-.
اعلموا -عباد الله- أن الله -تبارك وتعالى- هو الكريم -سبحانه-، واسع الكرم، كثير الخير دائمه، يعطي ولا تنقضي خزائنه، وله خزائن السموات والأرض، كما قال -سبحانه-: (وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ) [المنافقون: 7]. وهو -سبحانه- دائم الخير والإحسان، فكل شيء ينقطع إلا الله وإحسانه، فإنه دائم متصل في الدنيا والآخرة، وخزائن كل شيء عند الله وحده لا شريك له، قال الكريم -سبحانه-: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) [الحجر: 21].
وتدبروا معي -إخواني- هذا الحديث العذب الجميل في وصف رب العالمين -سبحانه-، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عَن النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ يَمِينَ اللَّهِ مَلْأَى، لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مَا فِي يَمِينِهِ.." [البخاري 4407]. فعطروا أسماعكم ونفوسكم -إخوتي- لجمال هذا التعبير! فهذا سيد الخلق وأعرفهم بربه يقول: "أرَأيْتُمْ مَا أنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأرْضَ!!" كم أنفق! وكم رزق! وكم أعطى! -سبحانه-، وكم من منع للمصائب والبلايا! وكم وقى من الرزايا!.
سبحان الكريم الحي القيوم، استغنى عن الطعام والشراب والنوم، والولد والصاحبة والولد، والخلق فقراء إلى الكريم -سبحانه- الذي يقيتهم، ويعولهم من فضله ومنه وكرمه، ألا فلنحمد الله على نعمه ومنّه وكرمه، وصدق الله تعالى إذ يقول: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ) [النمل: 73].
وثقوا -أيها الإخوة- أنه الله -سبحانه- هو الكريم خيره قريب، ويسهل تناول ما عنده، فليس بينه وبين العبد حجاب، وهو قريب لمن دعاه، إذا تقرب منه العبد، تقرب الله إليه أكثر، كما قال -سبحانه-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة: 186].
وسبحان الكريم الذي إذا وعد وفى، ولا يبالي كم أعطى؟ ولمن أعطى؛ لعموم قدرته، وعظيم ملكه، وكمال غناه، فلا يحول بينه وبين ما يريد مانع (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا) [فاطر: 44].
وهو -سبحانه- الكريم الذي يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه داعيًا أن يردهما صفرًا خائبتين. الكريم الذي عمَّ الجميع بعطائه وفضله، وبكرمه أمهل من عصاه، ووالى عليه نعمه. فمن كرمه -سبحانه- أنه أمهل إبليس وأنظره، وتركه وما اختار لنفسه، ولم يعاجله بالعقوبة، كرمًا منه وفضلاً وحلمًا، فسبحان الحليم الكريم.
وسبحان الكريم تفضل على العلماء بأن علَّمهم من علمه، وأنار قلوبهم من نوره. وتفضل على الأغنياء بأن رزقهم من رزقه، وأعانهم، وحبّب إلى من شاء منهم صرفه فيما يرضيه. وهو -سبحانه- الكريم الذي تفضل على المؤمنين، فحبّب إليهم الإيمان، وأعانهم على الأعمال الصالحة، وأثابهم عليها. وهو -سبحانه- الكريم الذي خلق الناس، وعافاهم، وأطعمهم، وكساهم، وهدى من شاء منهم للإيمان. وهو -سبحانه- الكريم الذي عمَّ الخلق برحمته، وشملهم بكرمه، ودعاهم إلى ما يسعدهم في دنياهم وأخراهم.
وتيقنوا -إخوتي- أن الله هو الأكرم؛ الذي يعطى ما يشاء لمن يشاء، وكيف يشاء بسؤال وغير سؤال، وهو الذي بشَّر عباده المؤمنين بالأجر الكريم الواسع، والمغفرة الواسعة، والرزق الواسع، قال تعالى: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال:4]، وهو الجواد المعطي الذي لا ينفد عطاؤه، ولا ينقطع سخاؤه، ولا يمنّ إذا أعطى، فيكدر العطية بالمن، وهو -سبحانه- يعفو عن الذنوب، ويستر العيوب، ويجازي المؤمنين بفضله، ويجازي المعرضين بعدله -سبحانه-.
وهو -سبحانه- أكرم الأكرمين، لا يوازيه كريم، ولا يعادله نظير، يعطي ويثني، ويعفو ويصفح، ولا يضيع من توسل إليه، ولا يترك من التجأ إليه، ولا يهين من أقبل عليه، -سبحانه- إذا قدر عفا، وإذا وعد وفى، كريم يعطي بلا عقاب ولا عتاب، كما قال -سبحانه-: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الإسراء: 70].
يا عباد الله: أثنى الله -تبارك وتعالى- على ذاته العلية، فوصف نفسه بأنه الكريم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ) [الانفطار:6]، وقال -سبحانه-: (قَالَ الذِي عِنْدَهُ عِلمٌ مِنَ الكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النمل:40]، وقال -تبارك وتعالى-: (فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ) [المؤمنون:116] وهناك قراءة بالرفع (ربُّ العرشِ الكريمُ) على وصف رب العالمين لا وصف العرش.
وقد وصف نبينا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- ربه، وهو أعرف الخلق به، وأثنى عليه بأجل أوصاف الكمال والجلال، ومن تلك النعوت والأسماء الحسنى اسم الله الكريم، فعن سَلمَان -رضي الله عنه- أن رَسُول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ رَبَّكُمْ -تبارك وتعالى- حَيِىٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا" [أخرجه أبو داود 1488 والترمذي 3556 وابن ماجه، وصححه الألباني]. وعن عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: قُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَي لَيْلَةٍ لَيْلَةُ القَدْرِ، مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: "قُولِي اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي" [الترمذي 3513 وصححه الألباني].
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو -رضي الله عنهما- قال: "كان النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا دَخَلَ المَسْجِدَ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ العَظِيمِ، وَبِوَجْهِهِ الكَرِيمِ، وَسُلطَانِهِ القَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وقَالَ: فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ قَالَ الشَّيْطَانُ: حُفِظَ مِنِّي سَائِرَ اليَوْمِ" [أخرجه أبو داود 466 وصححه الألباني].
أيها المسلمون: والكريم لغة هو الموصوف بالكرم والسعة، والعظمة، والشرف، والعزة، والسخاء في العطاء. والكريم -سبحانه- هو الواسع في ذاته وصفاته وأفعاله، الذي له الشرف والرفعة، والعلو والعظمة، والمجد والعزة، تفرد بالكمال وتنـزه عن النقائص والآفات، فله قدر عظيم، فالكل له خلق وملك، ولا سميّ له، قال تعالى: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً) [مريم:65]، وسع كرسيه السماوات والأرض، كما قال تعالى: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [البقرة:255]، جل عن الشبيه والنظير، وهو الغني الكريم، -سبحانه-.
والكريم -سبحانه- هو الذي لا أكرم منه، فكرم كل كريم من كرمه، وهو من يعطي من غير منة، ويبتدئ بالنعمة من غير استحقاق، ويحسن من غير سؤال، كريم في عفوه حتى يبدّل سيئات التائبين حسنات، فهو الجواد المعطي الذي لا ينفد عطاؤه، ولا ينقطع سخاؤه، عمَّ بعطائه وإحسانه المؤمنَ والكافرَ، والمطيع والعاصي، يعطي لا لعوضٍ، منَّ -سبحانه- على عباده بوافر النعم، فهو باسم الكريم أحق من كل كريم، فهو -سبحانه- ما زال كريمًا ولا يزال، عمّ عطاؤه الخلائق كلها.
وهو الذي كرّم الإنسان لما حمل الأمانة وشرَّفه، واستخلفه في أرضه، واستأمنه في ملكه، وفضّله على كثير من خلقه، كما قال -سبحانه-: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) [الإسراء:70]، وهو الذي بشَّر عباده المؤمنين بالأجر الكريم الواسع، والمغفرة الواسعة، والرزق الواسع، قال الكريم تعالى: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال:4]، نسأل الله من فضله العظيم.
واعلموا –عباد الله- أن هناك فرقًا بين الكريم والسخي، فالكريم هو كثير الإحسان بدون طلب، والسخي هو المعطي عند السؤال فقط. والأكرم -سبحانه- هو الذي لا يوازي كرمه كرم، وليس له في الكرم نظير، فلا كرم يسمو إلى كرمه، ولا إنعام يرقى إلى إنعامه، ولا عطاء يوازي عطاءه في خلقه، وحسبنا ما جاء في قوله تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل:18]، وقوله -سبحانه-: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) [النحل:53]، وقوله جل وعلا: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى: 11].
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "يَنْزِلُ رَبُّنَا -تبارك وتعالى- كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، فيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ" [متفق عليه]. وفي رواية للإمام مسلم، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا مَضَى شَطْرُ اللَّيْلِ، أَوْ ثُلُثَاهُ يَنْزِلُ اللَّهُ -تبارك وتعالى- إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى، هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ، هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ، حَتَّى يَنْفَجِرَ الصُّبْحُ" [مسلم 758].
فما أكرم الله ربنا -جل في علاه- ينادي عباده وهو الغني عنهم -سبحانه وتعالى-، اللهم إنا نسألك من فضلك العظيم وجودك القديم، فكم لك ربنا من أيادٍ ومنن وإحسان.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله العلي الكبير، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله البشير النذير، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وأكثروا من دعائه واستغفاره، وأخلصوا له العبادة، يصلح لكم أعمالكم، ويغفر لكم ذنوبكم، واعلموا أن من أعظم ما ينال به العبد الكرامة عند الله أن يؤمن بربه -سبحانه-، وبرسوله -صلى الله عليه وسلم-، ويلزم صراط الله المستقيم، وينقاد لشريعة رب العالمين، ولهذا كان الرسل أكرم الخلق؛ لكمال طاعتهم، وكمال عبوديتهم لربهم، فمن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله ربه، وصدق الله إذ يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13].
ومن أسباب نيل الكرامة أيضًا تلاوة كتاب الله الكريم، فقد سمى الله كتابه كريمًا بقوله -سبحانه-: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) [الواقعة: 77]، فهو قرآن كريم، فيه الهدى والبيان، والعلم والحكمة، والفضائل والبشائر، والسنن والآداب، وهو الكتاب الذي قالت الجن عنه إذ سمعوه: (يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) [الأحقاف: 30].
أيها المسلمون: لا ينبغي للعبد الموفق أن يغفل عن سؤال ربه، ودعائه، والتوسل إليه بأسمائه الحسنى، ومن ذلك أن يدعو العبد ربه باسمه الكريم، فقد سبق معنا حديث أم المؤمنين عَائِشَة -رضي الله عنها- أنها قَالَتْ: قُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَي لَيْلَةٍ لَيْلَةُ القَدْرِ، مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: "قُولِي: اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي" [الترمذي 3513 وصححه الألباني]. وعن عوف بن مالك -رضي الله عنه- قال: صلَّى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- على جنازة، فحفظت من دعائه، وهو يقول: "اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ، وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ" [مسلم 963].
وعلى المسلم -إخواني- أن يتعبد لله باسمه الكريم، فيطمع في كرم ربه، ويرجو من واسع فضله، فيتعرض لنعمه بطاعاته، فإن ما عند الله لا يُنال بمعصيته، ولا يقنط العبد مِن كرمِ مَن عمَّ كرمه أطراف الكون، سبحان الله الكريم.
ويجب على المسلم أن يتحلى بصفة الكرم، والسخاء والجود، والعطاء؛ لعلمه أن الله هو الكريم، يبتغي الأجر والفضل منه وحده لا شريك له، مصداقًا لقوله تعالى: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا) [الإنسان:9]، وقوله -سبحانه-: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) [يس:11]، وقوله جل شأنه: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) [الحديد:11]، وقوله جل وعلا: (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) [الحديد: 18].
وعليه أن يكرم الناس عامة وأهل الفضل والكرم والمعروف خاصة، فعن ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنه-ما قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ" [ابن ماجه 3712، وصححه الألباني]. ولذلك كان الكرم صفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعن أَنَسٍ -رضي الله عنه-: "أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، فَأَتَى قَوْمَهُ، فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ! أَسْلِمُوا، فَوَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَيُعْطِي عَطَاءً مَا يَخَافُ الْفَقْرَ. فَقَالَ أَنَسٌ: إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُسْلِمُ مَا يُرِيدُ إِلاَّ الدُّنْيَا، فَمَا يُسْلِمُ حَتَّى يَكُونَ الإِسْلاَمُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا". [مسلم 2312]، فالله نسأل أن يخلقنا بخلق الكرم والجود، آمين.
أيها المسلمون: إن إكرامه لخلقه إكرام سابغ، وعطاء واسع، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ..) [الإسراء:70]، وقال -سبحانه-: (فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) [الفجر:15]، وقال جل وعلا: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلاً) [الإسراء:62] وعن زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رضي الله عنه- أَنَّ أُمَّ العَلاَء -رضي الله عنها- قالت عند موت عثمان بن مظعون -رضي الله عنه-: "رَحْمَةُ الله عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، فشهادتي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ الله، فَقَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ الله قَدْ أَكْرَمَهُ، فَقُلتُ: بأبي أَنْتَ يَا رَسُولَ الله فَمَنْ يُكْرِمُهُ الله؟ فَقال: أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ اليَقِينُ، وَالله إني لأَرْجُو لَهُ الخَيْرَ، وَالله مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ الله مَا يُفْعَلُ بِي؟ قَالَتْ: فَوَالله لاَ أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا" [البخاري 1186].
وختامًا -أيها المسلمون- إن ربنا -تبارك وتعالى- الكريم الذي يكرم من يشاء، ويهين من يشاء، فمن أكرمه الله فهو الكريم، ومن أهانه فهو المُهَان، قال -سبحانه-: "وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ" [الحج: 18]. فاحرصوا -عباد الله- على التعرض لمحابّ الله ليدخلكم تحت ظلال كرمه، ويشملكم بنعمه، وإياكم والتعرض لمساخطه والجرأة على العصيان، فهذا يبعد عنكم كرم الله ويدني منكم غضبه وعقابه، عياذًا بالله تعالى، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وإن الرجل ليُحْرَم الرزق بالذنب يصيبه" [أحمد وابن ماجه 4022 وحسنه الألباني].
ولا تقنط ولا تيأس، وثق يا من أخطأت أو أذنبت أن ربك كريم، -سبحانه- يغفر الذنوب، ويعفو عن السيئات، ويبدل السيئات حسنات، واسمع معي لنداء الكريم -سبحانه- وهو يقول: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53]، بل إنه الكريم -سبحانه- الذي يضاعف الحسنات إلى أضعاف كثيرة، قال تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة: 245].
ومن شواهد كرمه -سبحانه- وتعالى ما رواه النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ربه -تبارك وتعالى-: "إنَّ اللهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ عزَّ وجلَّ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إلى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، إلى أضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَإنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا، كَتَبَهَا اللهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً" [متفق عليه]. ألا ما أعظم الكريم المنان، وما أعظم فضله وجوده وإحسانه!!.
فسبحان الكريم المنان، كثير الكرم والإحسان، واسع الجود والعطاء، الذي من كرمه خلق المخلوقات، وهيّأ لها السكن والمأوى، والرزق والمعاش. ومن كرمه خلق الإنسان وكرَّمه وعلّمه القرآن, وعلّمه الحكمة, وعلّمه البيان, وأرسل إليه الرسل, وأنزل عليه الكتب, ليسعده في دنياه وأخراه.
وإذا علم المسلم أن الكريم هو الله، فعليه أن يتوجه إليه، ويعبده بكمال الإيمان والتقوى, وإكرام كتابه باتباع ما جاء فيه, وإكرام أنبيائه ورسله باتباعهم، وحسن الاقتداء بهم, وإكرام أوامره وشعائره بحسن أدائها, وإكرام نعمه بوضعها في مواضعها، وشكر الله عليها, وإكرام نفسه بكمال الإيمان والتقوى.
فاحرصوا -عباد الله- على محبة الكريم -سبحانه-، واخضعوا لأمره، وانقادوا لشرعه، جنبني الله وإياكم مضلات الفتن، ووقانا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأسأل الله أن يسعدنا بتقواه، وأن يجعل خير أيامنا وأسعد لحظاتنا يوم أن نلقاه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.