الجبار
الجَبْرُ في اللغة عكسُ الكسرِ، وهو التسويةُ، والإجبار القهر،...
العربية
المؤلف | فيصل بن جميل غزاوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان |
عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الْحَسَبُ الْمَالُ، وَالْكَرَمُ التَّقْوَى"، أي الشيء الذي يكون فيه الإنسان عظيمَ القَدْر عند الناس هو المال، والذي يكون به عظيمًا عند الله هو التقوى؛ فعلى المسلم أن يسعى جاهدًا في المحافظة على كرامته الإنسانية التي خصه الله بها، ويزيد على ذلك بأن يُكرم نفسَه بتقوى الله، وهي الكرامة الخاصة..
الخطبة الأولى:
الحمد لله ذي الجلال والإكرام والطَّوْل والإنعام، أحمده سبحانه وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك القدوس السلام، وأشهد أن نبينا وقدوتنا محمد عبده ورسوله، أكرم الخلق وأفضل الأنام، وخير مَنْ قام بعبادة ربه على التمام، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وتذكروا إنعامَه وأفضاله عليكم، واشكروه على آلائه وإحسانه، واستعدوا ليوم معادكم لعلكم تفلحون.
أيها المسلمون: يقول ربنا الجليل في محكم التنزيل: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)[الْإِسْرَاءِ: 70]، هذا إجمال لذِكْر النعمة التي أنعم اللهُ بها على جميع بني آدم؛ حيث كرَّمَهم بجميع وجوه الإكرام، ومعنى "كَرَّمْنَا" أَيْ جعلناهم ذوي كرم، بمعنى الشرف والمحاسن الجَمَّة، وهذا من كرم الله الجليل، وإحسانه العظيم؛ حيث كرَّم بني آدم بجميع أوجه التكريم، والتأكيد في لفظة "تَفْضِيلًا" في قوله: (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الْإِسْرَاءِ: 70]، يدل على عِظَم هذا التفضيل، وأنه بمكان مكين.
أيها المسلمون: تُبَيِّن هذه الآيةُ الكريمةُ أن الله تعالى كرَّم بني آدم وخصَّهم بجميع وجوه التكريم، فمن ذلك: خَلْقُهم على هذه الهيئة في امتداد القامة وحُسْن الصورة، قال سبحانه: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) [غَافِرٍ: 64]، الآيةَ...، وقال عز وجل: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)[التِّينِ: 4]، وقال سبحانه: (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ)[الِانْفِطَارِ: 7-8]، ومن وجوه التكريم التي خُصُّوا بها النطق والتمييز، والفهم والعقل، قال تعالى: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)[الذَّارِيَاتِ: 23]، وقال تعالى: (فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا)[الْإِنْسَانِ: 2]، وقال سبحانه: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)[الْبَلَدِ: 8-10]، وقال جل ثناؤه: (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ)[الْمُلْكِ: 23].
ومن وجوه تكريمهم ما ذكره الله تبارك وتعالى في قوله: (وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)[الْإِسْرَاءِ: 70]، حَمَلَهم في البَرِّ على ظهور الدوابّ من الإبل والبغال والحمير والمراكب البرية، وفي البحر في السفن والمراكب.
ومن وجوه تكريم بني آدم المستفادة من قوله: (وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ)[الْإِسْرَاءِ: 70]، تخصيصهم بما خصهم اللهُ به، من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح، فما من طيب تتعلق به حوائجهم إلا وقد أكرمهم الله به، ويسَّره لهم غايةَ التيسير بفضله، ولم يجعله محظورا عليهم، بل قد أنكر على مَنْ تعنَّت وحرَّم ما أحل الله من الطيبات، (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)[الْأَعْرَافِ: 32]، أي: مَنْ هذا الذي يقدُم على تحريم ما أنعم الله به على العباد، وَمَنْ ذا الذي يضيق عليهم ما وسعه الله؟
ومن وجوه التكريم: ما ذكره الله سبحانه بقوله: (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)[الْإِسْرَاءِ: 70]، بما خصهم به من المناقب وفضلهم به من الفضائل التي ليست لغيرهم من أنواع المخلوقات.
عباد الله: إن هذا التكريم الذي امتنَّ اللهُ به على بني آدم يستوجب شكرَ المنعم سبحانه، فلا تحجبنا النعم عن المنعم فنشتغل بها عن عبادة ربنا، بل علينا أن نتلقاها بالشكر، ونحذر كفرانها أو الاستعانة بها على معاصيه، والإنسان قد ينسى ما رزقه الله من الطيبات لطول الإلف، فلا يذكر الكثير من هذه الطيبات التي رزقه الله إلا حين يحرمها فعندئذ يعرف قيمة ما كان يستمتع به وقد النعمة التي فقدها.
معاشر المسلمين: وتختص الأمة المحمدية بكرامة خاصة فوق التكريم العام؛ الذي يشترك فيه بنو آدم، فعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعتُ نبي الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أَلَا إِنَّكُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً. أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" (رواه أحمد)، والمعنى: إنكم معشرَ الأمة المحمدية الإسلامية تُتِمُّونَ وتكملون عددَ سبعين أمة سبقت قبلكم لا يعلمها إلا الله، وقوله: "أَنْتُمْ"، الخطاب للصحابة الكرام وَمَنْ على منهجهم، أو المراد مجموع الأمة فهم خيرها وأفضلها، وأكرمها على الله وأشرفها لديه، ويظهر هذا التكريم في أعمالهم وأخلاقهم وتوحيدهم ومشاهدهم يوم القيامة، ثم منازلهم في الجنة، فاحمدوا الله أيها المسلمون أن جعلكم من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- خير أمة وأكرمها على الله.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله يعز من يشاء ويذل من يشاء وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له من يكرم فما له من مهين، ومن يهن فما له من مكرم، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله القائل: "وَجُعِلَ الذُّلُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي" اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن الله عز وجل قد قضى بأن التفاضل بين الناس إنما هو بالتقوى قال سبحانه: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[الْحُجُرَاتِ: 13]، وَمَنْ تلبَّس بلباس التقوى فهو المستحقّ لأن يكون أكرم ممن لم يتلبس بها وأشرف وأفضل، فعن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطب الناس يومَ فتح مكة فقال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عبية الْجَاهِلِيَّةِ وَالْفَخْرَ بِالْآبَاءِ، مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، النَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ قَالَ اللَّهُ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[الْحُجُرَاتِ: 13]. (رواه الترمذي).
وبسنده أيضا عن سمرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الْحَسَبُ الْمَالُ، وَالْكَرَمُ التَّقْوَى"، أي الشيء الذي يكون فيه الإنسان عظيمَ القَدْر عند الناس هو المال، والذي يكون به عظيمًا عند الله هو التقوى؛ فعلى المسلم أن يسعى جاهدًا في المحافظة على كرامته الإنسانية التي خصه الله بها، ويزيد على ذلك بأن يُكرم نفسَه بتقوى الله، وهي الكرامة الخاصة، ألا إنما التقوى هي العز والكرم، وحبك للدنيا هو الذل والسقم:
وَلَيْسَ عَلَى عَبْدٍ تَقِيٍّ نَقِيصَةٌ | إِذَا حَقَّقَ التَّقْوَى وَإِنْ حَاكَ أَوْ حَجَمْ |
وإذا أردنا أن نرتقي في مراتب الكرامة ونسمو في مدارج العز والشرف فعلينا بتقوى الله والعمل بطاعته واجتناب نواهيه خشية أن يفقد المرء الكرامة ويبقى ذليلًا مهانًا، ومن يُهِن اللهُ فما له من مكرم:
فَنَفْسَكَ أَكْرِمْهَا، فَإِنَّكَ إِنْ تَهُنْ | عَلَيْكَ فَلَنْ تَلْقَى لَهَا الدَّهْرَ مُكْرِمَا |
وتذكروا عباد الله أن اقتراف المعاصي واتباع الهوى والغفلة والانحراف عن الصراط المستقيم لا يتوافق مع تكريم الله لبني آدم، ولا يتناسب مع شرف المؤمن وعزه.
عباد الله: وحتى يحقق المرء التقوى فعليه باستصلاح قلبه إذ هو محل التقوى وأول ما يجب أن يعنى به؛ فقد جاء في الحديث المتفق عليه عن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ".
ووسائل استصلاح قلب العبد كثيرة؛ منها: قراءة القرآن وكثرة الدعاء والتضرع إلى الله أن يهبه قلبا خاشعا منيبا، والصدقة وكثرة أعمال البر والإحسان وكثرة الاستغفار ومصاحبة الأخيار.
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على النبي المصطفى والرسول المجتبى كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا فقال تعالى قولا كريما: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الكفر والكافرين، وانصر عبادك الموحدين، ودمر أعداءك أعداء الدين واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين الله انصر من نصر الدين واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم أمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم كن لإخواننا المستضعفين والمجاهدين في سبيلك والمرابطين على الثغور، اللهم كن لهم معينا ونصيرا ومؤيدا وظهيرا اللهم اكشف كربتهم واجعل لهم من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ومن كل بلاء عافية، اللهم استر عوراتهم وآمن روعاتهم، وأنزل السكينة عليهم، اللهم أكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا وأعنا ولا تعن علينا واهدنا ويسر الهدى لنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.