الجميل
كلمة (الجميل) في اللغة صفة على وزن (فعيل) من الجمال وهو الحُسن،...
العربية
المؤلف | أسامة بن عبدالله خياط |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
ليس بِدعًاأن يكونَ منعُ الله الإنسانَ من بعض محبوباتِه عطاءً منه له؛ لأنّه منعُ حفظٍ وصيانةٍ وحماية, وليس منعَ حجبٍ أو بُخلٍ أو حِرمان.
أمّا بعد:
فيا عبادَ الله، اتّقوا الله حقَّ التقوى، وراقِبوه فإنّه سبحانه يعلم السّرَّ وأخفى، ولا تغرّنّكم الحياة الدنيا, ولا يغرّنَّكم بالله الغرور.
أيّها المسلمون، في غمرةِ السعيِ إلى إدراك المنى وبلوغ الآمال والظفَر بالرّغائب يغفل أو يتغافل فريقٌ من النّاس أنّ عاقبةَ هذا السعي لن تكون وفقَ ما يأمُل على الدّوام، ولذا فإنّه حين يقَع له بعضُ حرمانٍ ممّا يحبّ، وحين يُحال بينه وبين ما يشتهي تَضيق عليه الأرضُ بما رحُبت، وتضيق عليه نفسه, ويُزايِله رشدُه، فيُفضي به ذلك إلى التردّي في وَهدَة الجحود لنعمِ الله السابغة ومننِه السّالفة، فيصبِح ويمسي مثقَلاً بالهموم, مضطربَ النّفس, لا يهنأ له عيشٌ ولا تطيب له حال.
وإنّ الباعث على هذا ـ أيّها الإخوة ـ هو الخطأ في معرفة حقيقةِ العطاء وحقيقة المنع, وتصوّرُ أنّهما ضدّان لا يجتمعان, ونقيضان لا يلتقيان.
من أجل ذلك كان للسّلف رضوان الله عليهم في هذا البابِ وقفاتٌ محكمات لبيان الحقّ والدّلالة على الرّشد والهداية إلى الصّواب، فقد نقل الإمام سفيان الثوري رحمه الله عن بعض السلف قولَه: "إنّ منعَ الله عبدَه من بعض محبوباته هو عطاءٌ منه له؛ لأنّ الله تعالى لم يمنعه منها بخلاً، وإنما منعه لطفًا".
يريد بذلك أنّ ما يمنّ الله به على عبده من عطاءٍ لا يكون في صورةٍ واحدةٍ دائمةٍ لا تتبدّل, وهي صورة الإنعام بألوانِ النّعم التي يُحبّها ويدأبُ في طلبها، وإنما يكون عطاؤه سبحانه إلى جانِب ذلك أيضًا في صورةِ المنع والحَجب لهذه المحبوبات؛ لأنّه وهو الكريم الذي لا غايةَ لكرمه ولا منتهى لجودِه وإحسانه, وهو الذي لا تعدِل الدنيا عنده جناحَ بعوضة كما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي في جامعه بإسنادٍ صحيح عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لو كانت الدنيا تعدِل عند الله جناحَ بعوضة ما سقى كافرًا مِنها شربةَ ماء".
إنّه سبحانه لم يكن ليمنعَ أحدًا من خلقه شيئًا من الدّنيا إلاّ لحكمةٍ بالغةٍ وتقديرٍ عليم ومصالحَ قد تخفى على أكثرِ الناس، يدلّ لذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الترمذيّ في جامعه وابن حبّان في صحيحه بإسنادٍ صحيح عن قتادة بن النّعمان رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: " إنّ الله إذا أحبَّ عبدًا حماه عن الدّنيا كما يظَلّ أحدكم يحمي سقيمَه الماء" ، وفي روايةٍ للحاكم في مستدركه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " إنّ الله تعالى ليحمِي عبدَه المؤمن وهو يُحبّه, كما تَحْمُون مريضَكم الطعامَ والشراب تخافون عليه " .
ويشهد لهذا أيضًا ـ كما قال العلامة الحافظ ابن رجب رحمه الله ـ أنّ الله عزّ وجلّ حرَّم على عباده أشياء من فضول شهوات الدنيا وزينتِها وبهجتها حيث لم يكونوا محتاجين إليه, وادَّخرَه لهم عندَه في الآخرة، وقد وقعتِ الإشارة إلى هذا بقوله عزّ وجلّ: (وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِ الرَّحْمَـنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَـاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ) [الزخرف:33-35].
وصحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من لبِس الحريرَ في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" أخرجه الشيخان في صحيحيهما.
وفي الصحيحين أيضًا من حديث حذيفة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تلبَسوا الحريرَ ولا الديباج, ولا تشرَبوا في آنيةِ الذهب والفضّة, ولا تأكلوا في صحافِها, فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة".
وأخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من شرِب الخمرَ في الدنيا لم يشربها في الآخرة".هذا مع أنّه شتّان بين خمرٍ لذّةٍ للشاربين, لا يُصدَّعون عنها ولا يُنزِفون, وتلك هي خمر الآخرة، وبين خمرةٍ هي رجسٌ من عمَل الشيطان، يريد أن يوقع بها العداوة والبغضاءَ بين المؤمنين, ويصدّهم بها عن ذكر الله وعن الصلاة, وتلك هي خمر الدنيا.
وأخرج الإمام أحمد في كتاب الزهد بإسنادِه عن أمير المؤمنين عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه أنّه قال: " لولا أن تنقُص حسناتي لخالطتكم في ليِّن عيشِكم, لكني سمعتُ الله عيَّر قومًا فقال: (أذهبتم طَيّبَـاتِكُمْ فِى حَيَـاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا) [الأحقاف:20] ".
وإنّ الواقعَ الذي يعيشه كلّ امرئٍ في حياته ليقيم الأدلة البينة والبراهين الواضحة على صدق وصحّةِ هذا الذي نقله سفيان رحمه الله، فكم من مُؤمّلٍ ما لو بلِّغ أملَه لكانت عاقبة أمره خُسرًا, ونهاية سعيِه حَسْرةً وندَمًا، وكم من حريصٍ على ما لو ظفِرَ بما أراد لأعقبَه ظَفَرُه هزيمةً يجرّ أذيالها ويتجرّع مرارتها, ولذا وجه سبحانه الأنظارَ إلى حقيقة أنّ المرء كثيرًا ما يُحبّ من حظوظ الدنيا ما هو شرٌّ له ووبال عليه, ويكره منها ما هو خيرٌ له وأجدرُ به، فقال عزّ اسمه: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [البقرة:216].
ونهى سبحانه نبيَّه صلوات الله وسلامه عليه عن النظر إلى ما مُتِّع به المترَفون ونظراؤهم من النّعيم، مبيِّنًا له أنّه زهرة ذابلة ومتعة ذاوية, امتحنهم بها وقليلٌ منهم الشّكور, فقال تبارك وتعالى: (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) [طه:131].
وإذًا فليس بِدعًا ـ أيّها الإخوة ـ أن يكونَ منعُ الله الإنسانَ من بعض محبوباتِه عطاءً منه له؛ لأنّه منعُ حفظٍ وصيانةٍ وحماية, وليس منعَ حجبٍ أو بُخلٍ أو حِرمان.
وصدق الله إذ يقول: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) [الحديد:20].
نفعني الله وإيّاكم بهدي كتابه وبسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
إنّ الحمدَ لله نحمده ونستعينُه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مضلّ له، ومن يضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد:
فيا عبادَ الله، لقد بيّن أهل العلم أنّ الذمَّ الواردَ في الكتاب والسنة للدّنيا ليس راجعًا إلى زمانِها الذي هو اللّيل والنهار المتعاقبان إلى يومِ القيامة، فإنّ الله جعلهما خِلفةً لمن أراد أن يذكَّر أو أراد شكورًا، وعن عيسى عليه السلام أنّه قال: " إنّ هذا الليلَ والنهار خِزانتان، فانظروا ما تضعون فيهما ".
وليس الذمّ أيضًا راجعًا إلى مكانِ الدنيا الذي هو الأرض التي جعلها الله لبني آدم مِهادًا وسكنًا, ولا إلى ما أودَعه الله فيها من الجبال والبِحار والأنهار والمعادِن, ولا إلى ما أنبتَه فيها من الزُّروع والأشجارِ, ولا إلى ما بثّ فيها من الحيوان وغير ذلك، فإنّ ذلك كلَّه من نعمةِ الله على عباده بما جعل لهم فيه من المنافع وما لهم به من اعتبارٍ واستدلالٍ على وحدانيّة خالقه وقدرتِه وعظمَته.
وإنما الذمُّ الوارد لها راجعٌ إلى أفعال بني آدم فيها؛ لأنّ غالبَ هذه الأفعال واقعٌ على غير الوجه الذي تُحمَد عاقبته, وتؤمَن مغبّته, وترجَى منفعتُه.
فاتّقوا الله عبادَ الله, وابتغوا فيما آتاكم الله الدارَ الآخرة, ولا تنسَوا نصيبكم من الدنيا، واذكروا على الدّوام أنّ الله تعالى قد أمركم بالصلاة والسلام على خير الأنام في أصدق الكلام: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الأربعة...