المعطي
كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...
العربية
المؤلف | سامي بن خالد الحمود |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
جُرَيْجٌ أصابتْهُ دعوةُ أمِّه، فنظر في وجه زانية واحدة، فمالِ هؤلاء؟! يدفعون أموالهم؛ ليتفرجوا الساعات الطوال، يقلبون أبصارهم في كل عاهرة وفاجرة، وينظرون لمئات المومسات على الشاشات! فيا ترى؛ مَن دعا على هؤلاء؟!.
أما بعد، عباد الله: هل تأمَّلْنا يوماً هذا الصوت الذي يخرج من أجوافنا؟ هل تأملنا أوتارَه ومخارجَ حروفه من أفواهنا؟ أليس في اختلاف الألسنة واللغات بيان لحكمة الله في خلقنا، وعظيم فضله وإحسانه علينا؟ وصدَق الله: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ) [البلد:8-9].
لن أتحدث اليوم عن آية الله تعالى في النطق والكلام، بل سأتحدث عن أمرٍ أعظمَ مِن ذلك،
هل يمكن لطفل رضيع في المهد أن يتكلم بلسان فصيحٍ يُسمع العقلاء؟ نعم، إذا أراد الله الذي أنطق كل شيء أن يُنطقَه!.
إنها آية من آيات الله يحدثنا عنها الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ"، ثلاثةٌ تكلموا وأنطقهم الله الذي يُنطق الحجارة فتتكلم، والجلود يوم القيامة فتتحدث، والأعضاء يوم العرض الأكبر فتشهد.
مَن هم هؤلاء الثلاثة؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: "عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ"، وهذا هو الأول، لمـَّا ولدته أمُّه بلا أب، فأنكر عليها قومها، فأشارت إليه، فتضاحكوا، وقالوا: (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً) [مريم:29]؟ فتكلم بإذن الله، بلسان فصيح نصيح مليح: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً) [مريم:30-31]. هذا الأول.
ثم قال -صلى الله عليه وسلم- في الثاني: "وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَكَانَ جُرَيْجٌ رَجُلًا عَابِدًا فَاتَّخَذَ صَوْمَعَةً فَكَانَ فِيهَا، فَأَتَتْهُ أُمُّهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي -ولفظ البخاري: أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي، كأنه تردد، هل يجيب أمه، أو يُقْبل على صلاته- قال: "فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ فَانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ فَانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ، أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ أَيْ رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ فَقَالَتْ، اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ [أي: الزانيات].
فَتَذَاكَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ جُرَيْجًا وَعِبَادَتَهُ، وَكَانَتْ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بِحُسْنِهَا، فَقَالَتْ إِنْ شِئْتُمْ لَأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ، قَالَ فَتَعَرَّضَتْ لَهُ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا، فَأَتَتْ رَاعِيًا كَانَ يَأْوِي إِلَى صَوْمَعَتِهِ، فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَحَمَلَتْ، فَلَمَّا وَلَدَتْ قَالَتْ هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ، فَأَتَوْهُ فَاسْتَنْزَلُوهُ، وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ، وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ، فَقَالَ مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا زَنَيْتَ بِهَذِهِ الْبَغِيِّ فَوَلَدَتْ مِنْكَ".
وفي روايات أخرى: "فَجَعَلُوا فِي عُنُقه وَعُنُقهَا حَبْلًا وَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِمَا فِي النَّاس. فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ وَيَقُولُونَ: مُرَاءٍ تُخَادِع النَّاس بِعَمَلِك. قَالَ لَهُ الْمَلِك: وَيْحك يَا جُرَيْج! كُنَّا نَرَاك خَيْر النَّاس فَأَحْبَلْت هَذِهِ؟ اِذْهَبُوا بِهِ فَاصْلُبُوهُ. فَلَمَّا مَرُّوا بِهِ نَحْو بَيْت الزَّوَانِي خَرَجْنَ يَنْظُرْنَ، فَتَبَسَّمَ فَقَالُوا: لَمْ يَضْحَك حَتَّى مَرَّ بِالزَّوَانِي".
"فَقَالَ: أَيْنَ الصَّبِيُّ؟ فَجَاءُوا بِهِ، فَقَالَ دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ، فَصَلَّى"، ولفظ البخاري: "فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى"، "فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَى الصَّبِيَّ، فَطَعَنَ فِي بَطْنِهِ وَقَالَ: يَا غُلَامُ، مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: فُلَانٌ الرَّاعِي، قَالَ فَأَقْبَلُوا عَلَى جُرَيْجٍ، يُقَبِّلُونَهُ وَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ، وَقَالُوا نَبْنِي لَكَ صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: لَا، أَعِيدُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ، فَفَعَلُوا"، وفي رواية: "فَرَجَعَ فِي صَوْمَعَته فَقَالُوا لَهُ: بِاللَّهِ مِمَّ ضَحِكْت؟ فَقَالَ: مَا ضَحِكْت إِلَّا مِنْ دَعْوَة دَعَتْهَا عَلَيَّ أُمِّي".
هذه هي قصة جريج، وهي قصة مليئة بالفوائد والعظات، نكتفي ببعضها:
فمِن فوائد هذه القصة خطورة عقوق الوالدين وتركِ الاستجابة لأمرهما، وأنه سبب لحلول المصائب على الإنسان، كهذه المحن والابتلاءات التي تعرض لها ذلك العبد الصالح، مع أنه كان من أعبد الناس، ولم يشغله عن أمه إلا الصلاة، لكن الله استجاب دعاء الأم، وهيأ أسبابه، وعرض جريجاً للبلاء. ولو دعت عليه أن يُفتَن لفُتِن، كما في رواية أخرى في صحيح مسلم.
قال أهل العلم: إجابة الوالدين مقدمة على صلاة التطوع، فإن نادته أمه وهو يصلي التطوع فإنه يخففها، أما لو علم أن أمه تتأذى بترك الإجابة فإنه يقطع صلاة التطوع، أما إن كان يصلي الفريضة فإن عليه أن يخففها حتى يجيب نداء أبويه، وإلا كان عاقاً لهما.
الله المستعان يا عباد الله! الآن الوالدان لا يطالبان الولد بأن يقطع الصلاة، وإنما يدعوانه إلى أمر أهون بكثير، فيقابلان بالعقوق من بعض الأبناء والبنات والله المستعان! والله يعلم، كم شقي بعض الناس، وكثرت مصائبه ونكباته، بسبب عقوقه لوالديه!.
ومن الفوائد أنه لا ينبغي للأم أن تدعو على ولدها، لأن دعاءها مستجاب، ولربما تستجاب دعوتها فتندم وتقول: يا ليتني لم أدعُ عليه! وقد روى مسلم عن جابرٍ -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على خدَمِكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم".
ومنها ضرورةُ الصلة بالله ومعرفته في زمن الرخاء، وأن يكون عند الإنسان رصيد من عمل صالح وبر وإحسان، ينجيه الله به في زمن الشدائد والأزمات، كما أنجى جريجاً وبرَّأَه من التهمة بسبب صلاحه وتقاه.
ومنها: بيان حال الصالحين والأولياء من عباد الله الذين لا تضطرب أفئدتهم عند المحن، ولا تطيش عقولهم عند الفتن، بل يلجؤون إلى من بيده مقاليد الأمور، كما لجأ جريج إلى ربه، وفزع إلى صلاته.
واللَّه تعالى يَجْعَل لِأَوْلِيَائِهِ عِنْد اِبْتِلَائِهِمْ الفرج، وَإِنَّمَا يَتَأَخَّر الفرج فِي بَعْض الْأَوْقَات تَهْذِيبًا وَزِيَادَة لَهُمْ فِي الثَّوَاب.
وَمِنْهَا اِسْتِحْبَاب الْوُضُوء لِلصَّلَاةِ عِنْد الدُّعَاء بِالْمُهِمَّاتِ، وأَنَّ الْوُضُوء كَانَ مَعْرُوفًا فِي شَرْع مَنْ قَبْلنَا.
ومنها أن الابتلاء فيه خير للعبد في دنياه وأخراه، إذا اتقى الله وصبر، فإن جريجاً كان بعد البلاء أفضلَ عند الله وعند الناس منه قبل البلاء.
ومنها أن الصادق مع الله لا تضره الفتنة، لما أقبل جريج على الله ما ضرته المرأة لما تعرضت له، بل لم يلتفت إليها، وغض بصره عنها، وهذا هو الواجب، لا يكفي أن ينظر الإنسان بعينه ويقول: أنا لن أقع في الفاحشة لأني أنا أخاف الله، بل عليه أن يغض بصره سداً للذريعة.
ومنها إثبات كرامات الأولياء، كما أنطق الله الغلام الرضيع ببراءة جريج.
وقصة جريج تكشف عن جزء من مخططات الأعداء في استخدامهم لسلاح المرأة والشهوة، لشغل الأمة وتضييع شبابها، ووأد روح الغيرة والتدين، وهو مخطط قديم وإن تنوعت وسائل الفتنة والإغراء.
وكشفت القصة أيضاً عن مواقف أهل الفساد والفجور من الصالحين والأخيار في كل زمان ومكان، ومحاولتهم تشويهَ صورتهم، وتلطيخَ سمعتهم، لإسقاطهم من أعين الناس، والحيلولة دون وصول صوتهم إلى الآخرين.
إن هؤلاء الساقطين في أوحال الرذيلة لا يطيقون حياة الطهر والعفاف، بل لا يهنأ لهم بال، ولا يطيب لهم عيش، إلا بأن يشاركهم الآخرون في غيهم وفسادهم، كما قال عثمان -رضي الله عنه-: "ودت الزانية لو زنى النساء كلهن".
وبينت القصة كذلك وقع المصيبة والفاجعة عند الناس، عندما يفقدون ثقتهم فيمن اعتبروه محلاً للأسوة والقدوة، فهدموا صومعته وأهانوه وضربوه، وهذا الأمر يوجب على كل من تصدى للناس في تعليم أو إفتاء أو دعوة أن يكون قدوة حسنة، ومحلاً للثقة، فإنه محط أنظار الناس، ومهوى أفئدتهم.
ومن فوائد القصة أن مجرد النظر إلى وجوه الفاجرات والعاهرات يؤذي قلوب الأولياء والصالحين، بل هو نوع من البلاء والعقوبة، ولهذا دعت به أم جريج على ولدها.
أين هذا -يا عباد الله- من حالنا في هذا العصر الذي انفتح الناس فيه على العالم، وأصبحت المومسات محل أعينهم صباح مساء عبر أجهزة التلفاز والقنوات الفضائية وشبكة الإنترنت؟ فأصبحوا بمحض اختيارهم وطوع إرادتهم يتمتعون بالنظر الحرام، لا إلى وجوه المومسات فقط، بل إلى ما هو أعظم من الوجوه، والعياذ بالله!.
جُرَيْجٌ أصابتْهُ دعوةُ أمِّه، فنظر في وجه زانية واحدة، فما لهؤلاء! يدفعون أموالهم؛ ليتفرجوا الساعات الطوال، يقلبون أبصارهم في كل عاهرة وفاجرة، وينظرون لمئات المومسات على الشاشات! فيا ترى؛ مَن دعا على هؤلاء؟!.
ولا شك أن هذا الأمر -عبادَ الله- من العقوبات العامة التي تستوجب من المسلم أن يكون أشد حذرا على نفسه من الوقوع في فتنة النظر، فضلا عن ارتكاب الفاحشة، والعياذ بالله!.
ومن الفوائد: في قول جريج "أعيدوها من طينٍ كما كانت" بيان تواضع العابد، لم يقل: أريد تعويضاتٍ، أو رد اعتبار، أو غير ذلك.
ولا يجوز بناء المساجد ودور العبادة بالذهب والفضة، بل السنة في بناء المساجد أن تكون بسيطة ليس فيها زخرفة ولا نقوش، بعيداً عن التكلف والغلو المنهي عنه.
ولأن يبني المسلم عشرة مساجد في بعض دول المسلمين أعظم أجراً، وأقل كلفة من زخرفة مسجد واحد بهذه التكاليف الباهظة.
ومن فوائد القصة أنه لا يجوز أبدا المسارعة في تصديق الأخبار، وقبول التهم من غير دليل ولا برهان، كما فعل أهل القرية عندما صدَّقوا ما قالته المرأة الفاجرة في هذا الرجل الصالح، وكان من الواجب عليهم أن يتحققوا من مقولتها، قبل مهاجمة جريج وسبه وضربه، وقد قال -تبارك وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات:6].
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه...
عباد الله: لا زال الحديث عن الثلاثة الذي تكلموا في المهد، ثم قال -صلى الله عليه وسلم- في الثالث: "وَبَيْنَا صَبِيٌّ يَرْضَعُ مِنْ أُمِّهِ، فَمَرَّ رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى دَابَّةٍ فَارِهَةٍ (نشيطة)، وَشَارَةٍ (هيئة) حَسَنَةٍ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ ابْنِي مِثْلَ هَذَا، فَتَرَكَ الثَّدْيَ وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ، اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهِ فَجَعَلَ يَرْتَضِعُ". قَالَ: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَحْكِي ارْتِضَاعَهُ، بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ فِي فَمِهِ، فَجَعَلَ يَمَصُّهَا.
قَالَ: "وَمَرُّوا بِجَارِيَةٍ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا، وَيَقُولُونَ: زَنَيْتِ، سَرَقْتِ، وَهِيَ تَقُولُ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ! فَقَالَتْ أُمُّهُ، اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ ابْنِي مِثْلَهَا، فَتَرَكَ الرَّضَاعَ وَنَظَرَ إِلَيْهَا فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا.
فَهُنَاكَ تَرَاجَعَا الْحَدِيثَ (أي بدأ الحوار بين الأم والرضيع)، فَقَالَتْ حَلْقَى! (دعت عليه بأن يصيبه الله في حلقه) مَرَّ رَجُلٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ، فَقُلْتُ اللَّهُمَّ اجْعَلْ ابْنِي مِثْلَهُ، فَقُلْتَ اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وَمَرُّوا بِهَذِهِ الْأَمَةِ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا، وَيَقُولُونَ زَنَيْتِ سَرَقْتِ، فَقُلْتُ اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ ابْنِي مِثْلَهَا، فَقُلْتَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا! قَالَ، إِنَّ ذَاكَ الرَّجُلَ كَانَ جَبَّارًا، فَقُلْتُ اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وَإِنَّ هَذِهِ يَقُولُونَ لَهَا زَنَيْتِ وَلَمْ تَزْنِ، وَسَرَقْتِ وَلَمْ تَسْرِقْ، فَقُلْتُ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا". انتهى الحديث.
والفائدة من هذه القصة الاعتماد على العمل والتقوى، وعدم النظر إلى الصور ومظاهر الدنيا، وقد روى مسلمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ".
وههنا سؤال هام: هل يستفاد من القصة الدعاء على النفس بظلم الغير، كما قال الرضيع في الجارية المظلومة؟ والجواب: لا، ليس هذا هو المعنى المراد، قال النووي: قَوْله فِي الْجَارِيَة الَّتِي نَسَبُوهَا إِلَى السَّرِقَة وَلَمْ تَسْرِق: "اللَّهُمَّ اِجْعَلْنِي مِثْلهَا" أَيْ اللَّهُمَّ اِجْعَلْنِي سَالِمًا مِنْ الْمَعَاصِي كَمَا هِيَ سَالِمَة، وَلَيْسَ الْمُرَاد مِثْلهَا فِي النِّسْبَة إِلَى بَاطِل تَكُون مِنْهُ بَرِيًّا. اهـ، بل نقول كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إنا نعوذ بك أن نَظلِم أو نُظلَم، أو نجهل أو يُجهَل علينا".
اللهم صل على محمد...