العربية
المؤلف | سعد بن تركي الخثلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
إن انقضاء عام من عمر الإنسان لجدير بأن يقف الإنسان مع نفسه وقفة محاسبة صادقة يحاسبها عما عمل وماذا قدم لغد؟ يحاسبها عن عام مضى من عمره وهو شاهد له أو عليه تبصروا في هذه الأيام والليالي؛ فإنها مراحل يقطعونها إلى الدار الآخرة حتى تنتهوا إلى آخر سفركم وكل يوم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب والحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا أحمده تعالى وأشكره حمدا وشكرا، كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه وأحمده، وأشكره كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا-، أما بعد:
فاتقوا الله -أيها المسلمون-، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
عباد الله: هذه الجمعة هي آخر جمعة في هذا العام الهجري وعما قريب سيحل عام هجري جديد سيحل عام 1438 من هجرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وسبحان الله ما أسرع مرور الليالي والأيام كنا؛ فيما مضى إذا ذكر عام 1438 استبعدنا مجيئه ورأينا أن بيننا وبينه زمنا طويلا وها هو الآن على الأبواب وهكذا يستبعد الإنسان الأجل وربما هو قريب وهو لا يشعر وكل ما هو آت؛ فهو قريب، (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ) [الشعراء: 205- 206].
إن هذه الأيام والليالي مراحل نقطعها للدار الآخرة والموت هو مصيرنا جميعا وبالموت ينتقل الإنسان من دار العمل إلى دار الجزاء والحساب؛ فالسعيد من اغتنم عمره في هذه الدار فيما ينفعه في الدار الباقية في الدار الآخرة.
عباد الله: إن من الناس من هو منهمك في مشاغل الدنيا على حساب آخرته ما إن ينتهي من شغل إلا ويدخل في شغل آخر وكأنه ما خلق إلا للدنيا حتى يفجؤه الموت وهو على تلك الحال نعم يفجؤه الموت وما انقضت أشغاله يفجؤه الموت على حين غفلة على حين غرة؛ فيبوء حين إذ بالندم العظيم والحسرات ولكن هيهات لا تنفع الندامة حين إذ يقول الحسن -رحمه الله-:"إياكم وما شغل من الدنيا فإن الدنيا كثيرة الأشغال لا يفتح رجل على نفسه باب شغل إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب".
تذكر يا أخي رجلا كنت تعرفه من أقاربك أو أصدقائك أو جيرانك وتأمل كيف كانت حياته ؟ وكيف كان يقضي عمره ؟ ثم فاجأه الموت؛ إما بسبب مرض أو حادث سيارة أو سكتت قلبية أو غير ذلك؛ فانتقل من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة ترك أمواله ودوره وأهله ووسد التراب وفارق الأحباب؛ فما الذي ينفعه بعد مماته ؟ وما الذي يتحسر عليه بعد مفارقته للدنيا ؟ شيع أحد السلف جنازة؛ فقال لأحد الحاضرين: أترى أن هذا الميت لو رد إلى الدنيا لكان يعمل غير الذي كان يعمل قال: نعم قال: فإذا لم يكن هو فكن أنت نعم إن السعيد من اتعظ بغيره وإن الشقي من اتعظ به غيره.
عباد الله: وإن انقضاء عام من عمر الإنسان لجدير بأن يقف الإنسان مع نفسه وقفة محاسبة صادقة يحاسبها عما عمل وماذا قدم لغد ؟ يحاسبها عن عام مضى من عمره وهو شاهد له أو عليه تبصروا في هذه الأيام والليالي؛ فإنها مراحل يقطعونها إلى الدار الآخرة حتى تنتهوا إلى آخر سفركم وكل يوم يمر بالإنسان يبعده عن الدنيا ويقربه من الموت وما بعده كل شهر يستهله الإنسان فإنه يدنيه من أجله ويقربه من آخرته تمر الشهور بعد الشهور والأعوام بعد الأعوام هذا يوم تشرق شمسه وذاك يوم تغرب شمسه هذا شهر يدخل وذاك شهر يخرج هذا عام يدخل وذاك عام يخرج، (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) [النور: 44].
ألم تروا إلى هذه الشمس تطلع كل يوم من مشرقها وتغرب من مغربها إن في هذا أعظم اعتبار؛ فإن طلوعها ثم غيوبها إيذان بأن هذه الدنيا ليست بدار قرار وإنما هي طلوع وغيوب ألم تروا إلى هذه الشهور تهل فيها الأهلة صغيرة، كما يولد الأطفال ثم تنمو رويدا رويدا كما تنمو الأجسام حتى إذا تكامل نموها وأصبحت بدرا أخذت بالنقص والاضمحلال وهكذا عمر الإنسان؛ ألم تروا إلى هذه الأعوام تتجدد عاما بعد عام؛ فإذا دخل العام الجديد نظر الإنسان إلى آخره نظر البعيد ثم تمر به الأيام سراعا؛ فيتصرم به العام ويذهب كلمح البصر؛ فإذا هو في آخر العام، وهكذا عمر الإنسان يتطلع الإنسان إلى آخره تطلع البعيد؛ فإذا به قد هجم عليه الموت بغتة، وانقضت في لحظة جميع آماله وأحلامه في هذه الدنيا، (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) [ق: 19].
عباد الله: لو أعمل عاقل فكره في سرعة مرور الليالي والأيام وسرعة تصرمها لرأى من هذا عجبا لا ينقضي ولو تأمل متأمل فيما مضى من عمره طال أو قصر لوجده قد مر كلمح البصر بالأمس بدأت السنة محملة بالأيام والليالي مثقلة بالساعات والدقائق والثواني؛ فمرت أيامها تباعا وتصرمت ساعاتها سراعا وأخذت بعضها برقاب بعض ومؤذن رحيل أولها بفناء آخرها مر على الناس من هذا العام ثمانية أشهر كثمانية أيام ثم دخل شهر رمضان وعاش المسلمون فيه موسما كريما ثم انقضت تلك الأيام والليالي انقضت سريعا ثم أتى عيد الفطر ورحل ثم أتى موسم الحج؛ فرحلت سريعا رحلت تلك الأيام والليالي سريعا وها نحن في أواخر هذا العام وكلما انقضى عام ومضى تمنى المبطنون على الله الأماني وما علم هؤلاء أن الزمن إذا مضى لا يعود وأن العمر يذهب وأن كل يوم يمر على العبد؛ فإنه ينقص به الأجل ويقربه إلى قبره ويبعده عن أهله؛ يقول الحسن -رحمه الله-: "ابن ادم الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما".
يا أبناء العشرين بادروا الفتوة والشباب ويا أبناء الثلاثين انتصف العمر وجدة الركاب ويا أبناء الأربعين بلغتم الأشد وحط العتام ويا أبناء الخمسين ضعف الجسم والرأس شاب ويا أبناء الستين لقد أعذر الله إلى أمريء أخر أجله حتى أبلغه ستين سنة ويا من بلغت السبعين أو أكثر؛ لقد أمهل الله لك وأعذر؛ فماذا تنتظر؟؛ (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد: 16].
فكم أودعت بيديك في القبر من قريب ؟ وكم شيعت وودعت من أخ وحبيب ؟ ألم تفكر يوما بأنك ستكون يوما من الأيام أنت المودع ؟ ألم تعمل ليوم تكون أنت فيه المحمول المشيع ؟ على العاقل أن يرجع إلى نفسه وأن يحاسبها على ما قدم في يومه وأمسه؛ فإن كان خيرا فليحمد الله وليتزود من الصالحات وإن كان غير ذلك؛ فإن أمامه فرصة للتدارك والتوبة والعمل؛ فعليه أن يحاسب نفسه في كل حين ويتأكد ذلك في ختام يومه وشهره وعامه؛ فإن من حاسب نفسه اليوم خف عليه الحساب يوم الحساب ومن أهمل نفسه وأطلق لها العنان وتمنى على الله الأماني ظهرت عند الموت حسراته وطالت في عرصات يوم القيامة وقفاته وقادته إلى المقت والخزي سيئاته؛ فليستحضر المسلم هذه المعاني وليستعد للموت وما بعده فإننا في هذه الدنيا في دار عمل وسننتقل منها يوما من الأيام ومن مات؛ فقد قامت قيامته ومن مات؛ فقد انتقل من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة من مات؛ فقد أغلق في وجهه باب التوبة وأغلق في وجهه باب العمل وانتقل إلى دار الجزاء والحساب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين عدد خلقه وزنة عرشه ورضا نفسه ومداد كلماته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا-، أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة
عباد الله إنه لا آفة تأكل العمر وتحصد بركة الوقت؛ مثل التسويف والأماني الكاذبة ولا علاج يحسم ذلك مثل قصر الأمل وتذكر الموت يذهب الرجل ليعمل العمل؛ فتسرقه منه الأماني وطول الأمل حقا على العاقل أن يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك لشريكه الخوان نعم يا -عباد الله- إن محاسبة النفس لا بد منه لا بد من محاسبة النفس وقد أمر الله تعالى بها؛ فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].
قال أهل العلم: هذه الآية أصل في محاسبة النفس والمصيبة تأتي عندما تنعدم محاسبة النفس ويعيش الإنسان في هذه الدنيا لاهيا غافلا منهمكا في أشغال الدنيا التي لا تنقضي حتى يتفاجأ بالموت؛ فيندم حين إذ الندم العظيم ويرى الدنيا على حقيقتها في وقت لا ينفع معه الندم ولا الأسى ولا التأسف.
عباد الله: إن المؤمن ينبغي أن تكون محاسبة النفس منهجا له في حياته يتذكر فيه أعماله ثم يعقد موازنة دقيقة لينظر ماله وما عليه يتفكر في حاله مع الفرائض وهل عنده تقصير في الفرائض ؟ هل عنده إخلال بشيء من الواجبات ؟ هل هو مثلا لا يصلي صلاة الفجر مع الجماعة في المسجد ؟ ثم ينظر إلى حاله مع النوافل هل تزود منها لترقع ما قد يحصل من النقص في الفرائض وينال بها محبة الله -عز وجل- ؟ ثم يحاسب نفسه على الأموال التي اكتسبها من أين حصلها ؟ وفيما أنفقها ؟ ويحاسب نفسه على موقفه وعلاقاته مع الناس ؟ على موقفه من حقوق الناس ؟ وعلاقاته مع الناس ؟ هل أسأ إلى أحد ؟ هل بخس أحدا حقه ؟ ويحاسب نفسه عن المعاصي التي وقع فيها ؟ وما أسباب وقوعه فيها ؟ وهكذا؛ فإنه بهذه المحاسبة يحصل للإنسان خير كثير ثم يتبع هذه المحاسبة توبة صادقة ويتبعها مبادرة للطاعات وإقلاع عن المعاصي والسيئات.
ألا فاتقوا الله -عباد الله- وتذكروا بأن الإنسان ما دام حيا؛ فمجال العمل أمامه مفتوح ومجال التوبة مفتوح ولكن إذا بلغت الروح الحلقوم أغلق في وجهه باب التوبة؛ فليبادر المسلم من حياته لموته ومن صحته لمرضه، (فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 37 - 41].
عباد الله: جرت عادة بعض الناس الاحتفال برأس السنة الهجرية وهذا الاحتفال بدعة لا أصل له وذلك لأن تعظيم زمن معين يتكرر كل عام وتخصيصه من البدع المحدثة
في الدين لأن المسلمون ليس لهم إلا عيدان عيد الفطر وعيد الأضحى؛ فمن اتخذ عيدا غير هذين العيدين؛ فقد ابتدع في دين الله -عز وجل- ولو كان ذلك على سبيل اللهو أو على سبيل التخصيص بأي أمر من الأمور؛ فإن التخصيص بحد ذاته بدعة، "ولما مر النبي -صلى الله عليه وسلم- لما مر بأهل المدينة يلعبون؛ فسألهم عن ذلك قالوا: إنهما يومان يوما عيد لهم قال لهم: إن الله قد أبدل لكم بخير منهما عيد الفطر وعيد الأضحى"، والذي عليه فتوى عامة علماء هذه البلاد؛ أنه لا يجوز اتخاذ عيد غير عيد الفطر وعيد الأضحى أقول هذا لأن العالم قد انفتح بعضه على بعض فربما يغتر بعض الناس في الاحتفال برأس السنة الهجرية والذين يفعلون ذلك يقلدون فيه النصارى الذين يحتفلون برأس السنة الميلادية ثم -أيضا- هناك بعض الناس يرسل رسائل عبر وسائل التواصل الاجتماعي اختم عامك بصيام اختم عامك بصلاة اختم عامك بكذا وهذا التخصيص غير مشروع، بل هو من البدع.
فعلى المسلم أن يتبع ولا يبتدع وألا يخصص زمنا من الأزمان بعبادة من العبادات؛ إلا إذا قام الدليل على هذا التخصيص وإلا كان هذا معدودا عند أهل العلم من البدع الإضافية، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب الناس يوم الجمعة قال: "إن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة".
ألا وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير؛ فقد أمرنا الله تعالى بذلك؛ فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلى وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد اللهم أرضى عن صحابته أجمعين، اللهم أرضى عن أبي بكر الصديق وعن عمر بن الخطاب وعن عثمان بن عفان وعن علي بن أبي طالب وعن سائر صحابة نبيك أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك وكرمك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الكفر والكافرين اللهم أبرم لأمة الإسلام أمرا رشدا يعز فيه أهل طاعتك ويهدى أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر وترفع فيه السنة وتقمع فيه البدعة يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك والعمل بكتابك وسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-.