البحث

عبارات مقترحة:

الحيي

كلمة (الحيي ّ) في اللغة صفة على وزن (فعيل) وهو من الاستحياء الذي...

المولى

كلمة (المولى) في اللغة اسم مكان على وزن (مَفْعَل) أي محل الولاية...

الكبير

كلمة (كبير) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، وهي من الكِبَر الذي...

فضل الشكر بعد الفطر

العربية

المؤلف عبد العزيز بن محمد القنام
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - المنجيات
عناصر الخطبة
  1. التعبد لله تعالى بشكره .
  2. حقيقة الشكر .
  3. أهمية الشكر والحث عليه .
  4. الأنبياء والرسل عليهم السلام أكثر شكراً لله (قصص) .
  5. ثمرات الشكر .
  6. كيف يكون الشكر؟ .
  7. الله شكور يحب الشاكرين .
  8. من آثار شكر الله .

اقتباس

عباد الله: وشكر الله -تعالى- يكون بالقلب واللسان والجوارح، وبالنعمة نفسها؛ فأما شكر الله -تعالى- بالقلب فأن يعتقد العبد اعتقاداً جازماً لاشك فيه، ولا ريب؛ أنه لولا الله -تعالى- لما تيسرت نعمة من تلك النعم، وأن من لازم ذلك أنه المستحق للعبادة لا معبود بحق سواه. وأما شكر الله -تعالى- باللسان، فذلك بأن ...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، سبحانه وبحمده، لا يبلغ مدحته المادحون، ولا ينال من عظمته القادحون، ولا يحصي نعماءه العادّون، ولا يحصر آلاءه الحاسبون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد كله، وله الشكر كله، وإليه يرجع الأمر كله، علانيته وسره، هو المستعان، ومنه الفرج، وإليه المشتكى، وعليه البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا به، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، الهادي البشير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وكل تابعٍ مستنير، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المرجع والمصير، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى، فتقوى الله نورٌ في القلب، وذخرٌ في المنقلَب.

معاشر المسلمين: لما كانت نعم الله على العباد تترى، فمن نعم في الأبدان، ونعم في الأوطان، ونعم في الأرزاق، وأعظم ذلك نعمة الإسلام.

لما كان الأمر كذلك، كان من لازم ذلك أن يعبد العبد مسدي هذه النعم، ولما كان تعبد العبد لربه قربة يتقرب بها كان من حكمة الله -تعالى- أن نوع بين العبادات، وفاضل بينها، فعبادات مكانية، وأخرى زمانية، وعبادات مالية، وأخرى بدنية، إلى غير ذلك.

أيها المسلمون: وإن من أعظم العبادات وأرفعها قدراً عند الله: التعبد لله -تعالى- بشكره؛ فشكر العبد لربه بصدق وإخلاص، يفتح على العبد أبواب الخير، ويغلق عنه أبواب الشر، ذلكم؛ لأن نتيجة الشكر تتضمن خيري الدين والدنيا، والبرزخ والآخرة.

وأما حقيقة الشكر؛ فكما قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "الشكر هو القيام له بطاعته، والتقرب إليه بأنواع محابه، ظاهراً وباطناً".

معاشر المسلمين: ومن عظيم أمر الشكر: أن الله -تعالى- أمر العباد به، بل وحثهم عليه؛ كما في قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ)[لقمان: 12].

(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ)[البقرة: 152].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ)[البقرة: 172].

(فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ)[العنكبوت: 17].

ولما كان أنبياء الله ورسله -عليهم السلام- أعلم الناس بالله، وأسبقهم بالخيرات، أمروا بالشكر لعظيم أمره، وجليل قدره: (قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)[لأعراف: 144].

معاشر المسلمين: ومن عظيم أمر الشكر أن الله مدح بذلك أنبياءه ورسله، فقال تعالى عن نوح -عليه السلام-: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً)[الإسراء: 3].

وقال عن إبراهيم الخليل -عليه السلام-: (شَاكِراً لَأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[النحل: 121].

وعن سليمان -عليه السلام-: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ)[النمل:19]

وعن آل داود: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)[سـبأ: 13].

معاشر المسلمين: أما ما كان من شأن نبينا -صلى الله عليه وسلم- فكان شيئاً عجباً؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم- مع شريف مكانه، ورفيع منزلته، أشكر الناس لربه -تعالى-؛ فعن المغيرة بن شعبة -رضي الله تعالى عنه- قال: إن كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ليقوم، أو ليصلي حتى ترم قدماه، أو ساقاه، فيقال له؛ فيقول: "أفلا أكون عبداً شكوراً"[أخرجه البخاري].

معاشر المسلمين: إنما كان الأنبياء والرسل -عليهم السلام- أكثر شكراً لله -تعالى-؛ لأنهم أعلم الناس بالله، وأرجاهم لله، وأخوفهم منه، قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: "إنما ألزم الأنبياء أنفسهم بشدة الخوف لعلمهم بعظيم نعمة الله -تعالى- عليهم، وأنه ابتدأهم بها قبل استحقاقها، فبذلوا مجهودهم في عبادته، ليؤدوا بعض شكره، مع أن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العباد، والله أعلم".

معاشر المسلمين: ومع أن أنبياء الله ورسله -عليهم السلام- كانوا أشكر الناس لله -تعالى-، مع ذلك كله كانوا يسألون الله -تعالى- الإعانة على القيام بشكره؛ فقد أخبر الله -تعالى- عن سليمان -عليه السلام- بقوله: (قال رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ)[النمل: 19].

قال الشيخ السعدي -رحمه الله تعالى-: "إن النعمة على الوالدين نعمة على الولد، ثم قال: فسأل سليمان ربه التوفيق للقيام بشكر نعمته الدينية والدنيوية عليه وعلى والديه".

معاشر المسلمين: وأما ما كان من شأن نبينا -صلى الله عليه وسلم- في سؤال ربه الإعانة على القيام بشكره، فقد كان صلى الله عليه وسلم كثير السؤال، فقد كان يقول دبر كل صلاة: "اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك".

وأوصى بذلك أصحابه كما أخرجه أبو داود في سننه عن معاذ بن جبل -رضي الله تعالى عنه-.

وكان صلى الله عليه وسلم يضمن أدعيته تخصيص طلب الشكر؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم : "واجعلني لك شكّاراً" [أخرجه الترمذي].

وقوله صلى الله عليه وسلم: "شكاراً" صيغة مبالغة، يعني كثير الشكر ودائمه.

وكان صلى الله عليه وسلم يشكر ربه بفعله كما يشكره بقوله؛ فعن أبي بكرة -رضي الله تعالى عنه- قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه خبر يسره خر ساجداً لله"[أخرجه الخمسة إلا النسائي].

وعن عبد الرحمن بن عوف -رضي الله تعالى عنه- قال: "سجد النبي -صلى الله عليه وسلم- فأطال السجود ثم رفع رأسه، فقال: "إن جبريل أتاني فبشرني فسجدت لله شكراً"[رواه أحمد وأبو داود].

معاشر المسلمين: ولما كانت منزلة الشكر بهذه المثابة خصت بمزيد من الذكر والأجر، وإن كانت جميع العبادات يؤجر عليها صاحبها، إلا أن من المقرر عند أهل العلم أن العبادات تتفاضل فيما بينها، وأن تخصيص عبادة بكثير ذكر ومدح لأهلها؛ يدل على تمييزها عن غيرها، ولذا خص الشكر بالجزاء والثناء على أهله: (وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ)[آل عمران: 144-145].

(نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ)[القمر: 35].

(أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)[الأنعام: 53].

(بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)[الزمر: 66].

أيها المسلمون: ولما كان شكر الله -تعالى- سبيلاً إلى مرضاته، كما قال تعالى: (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ)[الزمر: 7].

هيأ الله -عز وجل- لعباده من الأسباب والنعم ما يجعلهم شاكرين له، إن هم رعوها حق رعايتها؛ فجعل التقوى موصلة إلى الشكر: (فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[آل عمران: 123].

وأتم النعمة ليشكروه: (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[المائدة: 6].

وبين لهم الآيات ليشكروه: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[المائدة: 89].

وأنعم عليهم بالرزق ليشكروه: (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[لأنفال: 26].

وتجاوز عنهم بعفوه ليشكروه: (ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[البقرة: 52].

وسخر لهم جوارحهم ليشكروه: (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[النحل: 78].

وسخر لهم من الآيات ما يعينهم على شكره: (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[الروم: 46].

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً)[الفرقان: 62].

معاشر المسلمين: ومع كثرة ورود شأن الشكر، وتزكية أهله، فقد جنح أقوام عن شكر الله –تعالى-، واجتالهم الشياطين، فلم يشكروا ربهم مع إنعامه عليهم، وكثرة آياته الموجبة لشكره: (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ)[يونس: 60].

(لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ)[يّـس: 35].

(وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ)[يّـس: 73].

(وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ)[البقرة: 243].

معاشر المسلمين: ومن عظيم أمر الشكر، وجليل ثمراته: أن الشكر سبيل إلى مرضاة الله عن عبده: (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ)[الزمر: 7].

ومن ثمرات الشكر أيضاً: أنه سبب في زيادة النعم ودوامها: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ)[إبراهيم: 7].

قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى-: "قيدوا نعم الله بشكر الله" [أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر].

ومن ثمراته أيضاً: كون أهله من السباقين إلى الخيرات، والمقامات العلية لسيرهم في ركب أنبياء الله ورسله، حيث كانت أولئك الصفوة -عليهم السلام- أكثر الناس شكراً لله، واعترافاً بفضله ونعمه.

ومن ثمرات الشكر أيضاً: أن الشاكرين أكثر الناس اتعاظاً واعتباراً بآيات الله -تعالى- مما يكون عوناً لهم على الثبات والبصيرة: (لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)[لقمان: 31].

(وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)[سـبأ: 19].

(إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)[الشورى: 33].

ومن ثمرات الشكر أيضاً: أن خيرية النعم، ونزول بركتها معلق بشكر الله -تعالى-، قال صلى الله عليه وسلم: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرّاء شكر وكان خيراً له..." [الحديث أخرجه مسلم عن صهيب -رضي الله تعالى عنه-].

عباد الله: وشكر الله -تعالى- يكون بالقلب واللسان والجوارح، وبالنعمة نفسها؛ فأما شكر الله -تعالى- بالقلب فأن يعتقد العبد اعتقاداً جازماً لاشك فيه، ولا ريب؛ أنه لولا الله -تعالى- لما تيسرت نعمة من تلك النعم، وأن من لازم ذلك أنه المستحق للعبادة لا معبود بحق سواه.

وأما شكر الله -تعالى- باللسان، فذلك بأن يلهج لسان العبد بشكر ربه، وحمده دائماً.

وأما شكر الله -تعالى- بالجوارح؛ فبكفها عما حرم الله -تعالى-، وبتسخيرها في طاعة الله ومرضاته.

وأما شكر الله -تعالى- بتلك النعم المادية التي أنعم الله بها على عبده؛ فبمراعاتها حق رعايتها، وبالاستعانة بها على طاعة الله -تعالى-.

قال الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "ومن لطائف التعبد بالنعم أن يستكثر قليلها، ويستقل كثير شكره عليها، ويعلم أنها وصلت إليه من سيده من غير ثمن بذله فيها، ولا وسيلة منه توسل بها إليه، ولا استحقاق منه لها، وأنها لله في الحقيقة لا للعبد، فلا تزيده النعم إلا انكساراً وذلاً، وخضوعاً ومحبة للمنعم".

ومهما اجتهد المسلم وشكر، فلن يستطيع أن يقوم بشكر نعم الله على التمام؛ لقول الله –تعالى-: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)[النحل: 18].

ولقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لن يدخل الجنةَ أحدٌ منكم بعمله" قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدنيَ الله برحمته".

ولكن حسبُ المسلم أن يعلم عجزَه عن شكر نعم ربّه، وأنه لو شكر على التمام فالشكر يحتاج إلى شكر، وحسبُه أن يمتثل أمرَ ربه، ويبتعد عن معصيته، وأن يسدّد ويقارب، ويكثر الاستغفار.

وأعظمُ نعمة على المكلّفين طاعة الله -عز وجل-، فإذا وُفِّق المسلم لطاعةٍ لربه، فعليه أن لا يبطلَها بمعصيةٍ مضادة، وعليه أن لا يأتي بما ينقصها، وأن يتبعها طاعةً أخرى، فإن الحسنة بعد الحسنة شكرٌ للحسنة وزيادةُ ثواب، وما من طاعة فرضها الله -عز وجل- إلا شرع من جنسها من الطاعات ما يزداد به المسلم إلى الله قربى، وما يُدخل الله به عبدَه الجناتِ العلا، فالصلاة والزكاة والصيام والحجُّ وغيرُها شرع الله نوافلَ مثلها، تجبر نقصَها، ويتسابق فيها المتسابقون في الخيرات: "فمن صام رمضان وأتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر" كما صحّ بذلك الحديث.

ونوافل الصيام المستحبة الأخرى يرفع الله بها الدرجات، ويكفّر بها السيئات، ونوافل الصلاة المعلومة، والنفقات التي تأتي بعد الزكاة، ونوافل الحج والعمرة، والنوافل الأخرى شكرٌ عملي لله -تعالى-، يزكي الله به العباد، ويجزي الله به أعظمَ الثواب في يوم المعاد.

عباد الله: ما أحسنَ الطاعاتِ بعد الطاعات؛ لأنّ في ذلك رضوانَ الله، وزيادةَ ثوابه، والحرز من عقابه، وما أقبحَ السيئات بعد الحسنات؛ لأن في ذلك غضبَ الله -تعالى-، ونقص ثوابه، أو حرمان الثواب بالكلية.

فداوموا -رحمكم الله- على طاعة ربّكم في الشهور والأيام كلّها، فربُّ رمضان هو ربُّ الشهور والأعوام، وربُّ المكان والزمان، فليس للمؤمن راحة قبل لقاء ربّه، فيا فوزَ من قدّم لأهوال القيامة الأعمالَ الصالحات، ويا ندامةَ من نسيَ آخرتَه ولقي في قبره السيئاتِ والموبقات، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ)[الحشر: 18-20].

(إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ)[البقرة: 243].

نسأل الله -عز وجل- أن يوفقنا جميعاً لشكر نعمته، والاستقامة على طاعته، وأن يجعلنا ممن إذا أعطي شكر.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم. 

الخطبة الثانية:

الحمد لله الكبير المتعال، له الحمد على كل حال، وله الشكر بالغدوّ والآصال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شديد المحال، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المفضال، صاحب النوال، وسديد المقال، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه والآل.

أما بعد:

فيا عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، وشكروه على آلائه.

معاشر المسلمين: لما كانت صفة الشكر للعبد صفة محمودة كان من المتقرر عند أهل السنة أن كل صفة كمال لا يعتريها نقص بوجه من الوجوه فالخالق أولى بها، ولذا وصف الله -تعالى- نفسه بهذه الصفة، بل وسمى نفسه بالشاكر والشكور: (وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ)[التغابن: 17].

(وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً)[النساء: 147].

قال الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "وأما شكر الرب -تعالى- فله شأن آخر كشأن صبره، فهو أولى بصفة الشكر من كل شكور، بل هو الشكور على الحقيقة؛ فإنه يعطي العبد ويوفقه لما يشكره عليه، ويشكر للقليل من العمل والعطاء؛ فلا يستقله أن يشكره، ويشكر الحسنة بعشر أمثالها إلى أضعاف مضاعفة، ويشكر عبده بقوله بأن يثني عليه بين ملائكته وفي ملئه الأعلى، ويلقي له الشكر بين عباده، ويشكره بفعله؛ فإذا ترك له شيئاً أعطاه أفضل منه، وإذا بذل له شيئاً رده عليه أضعافاً مضاعفة، وهو الذي وفقه للترك والبذل، وشكره على هذا وذاك".

وقال أيضاً: "ولما كان سبحانه هو الشكور على الحقيقة، كان أحب خلقه إليه من اتصف بصفة الشكر... كما أن أبغض خلقه إليه من عطلها واتصف بضدها، وهذا شأن أسمائه الحسنى: أحب خلقه إليه من اتصف بموجبها، وأبغضهم إليه من اتصف بأضدادها؛ ولهذا يبغض الكفور، والظالم، والجاهل، والقاسي القلب، والبخيل، والجبان، والمهين، واللئيم. وهو سبحانه جميل يحب الجمال، عليم يحب العلماء، رحيم يحب الراحمين، محسن يحب المحسنين، شكور يحب الشاكرين، صبور يحب الصابرين، جواد يحب أهل الجود، ستار يحب أهل الستر، قادر بلوم على العجز، والمؤمن القوي أحب إليه من المؤمن الضعيف، عفو يحب العفو، وتر يحب الوتر، وكل ما يحبه فهو من آثار أسمائه وصفاته وموجبها، وكل ما يبغضه فهو مما يضادها وينافيها".

معاشر المسلمين: ومن عظيم فضل الله -تعالى- ورحمته، ومن آثار شكر الله -تعالى- أن شكر العبد له أعظم مما أنعم عليه به، وهذا من واسع كرمه وجوده فلله الحمد من قبل ومن بعد.

عن أبي أمامه -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أنعم الله على عبد نعمة فحمد الله عليها إلا كان ذلك الحمد أفضل من تلك النعمة"[أخرجه الطبراني].

وعن أنس -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أنعم الله على عبد نعمة، فقال: الحمد لله، إلا كان الذي أعطى أفضل مما أخذ"[أخرجه ابن ماجة].

فنسألك اللهم أن تجعلنا من الشاكرين لنعمك المثنين بها عليك.

اللهم اجعلنا لك شاكرين لك ذاكرين، ربنا أوزعنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت علينا وعلى والدينا، وأن نعمل صالحا ترضاه، وأصلح لنا في ذرياتنا إنا تبنا إليك وإنا من المسلمين.

هذا، وصلوا وسلموا على خير الشاكرين، كما أمركم بذلك ربكم في كتابه المبين، فقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئنًا، وسائر بلاد المسلمين.

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا، وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك، واتقاك واتبع رضاك، يا رب العالمين.

اللهم وفّق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال، يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته، يا ذا الجلال والإكرام.

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ * وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ)[الصافات: 180-182].