القاهر
كلمة (القاهر) في اللغة اسم فاعل من القهر، ومعناه الإجبار،...
العربية
المؤلف | خالد بن سعود الحليبي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
ذَكّرونا بالأذى الذي لقيه النبي -صلى الله عليه وسلم- من قريش؛ حيث سبوه واتهموه ومشوا خلفه ليعيروه، فما كان منه إلا أن قال: "ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم؟! يشتمون مذممًا، ويلعنون مُذَمَّمًا، وأنا محمد" رواه البخاري..
الخطبة الأولى:
الحمد لله، أشهد ألّا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأثني بمحمد بن عبد الله أشهد أنه رسول الله ومصطفاه، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
عباد الله: أوصيكم ونفسي المقصرة بطاعة الله وتقواه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
في بدايات العصر الحديث هرع عدد من المستشرقين، من قراهم في الغرب، إلى مدن الشرق الكبرى، منتدبين أنفسهم للصد عن سبيل الله -تعالى-، ومحاربة الإسلام في أصوله، وكان الجيش البارد منظمًا، فكل سرية أخذت جانبًا تهدم فيه.
وكان من نصيب إحداها: محاولة تحطيم القدوة المثلى، والجناب الأعظم، والإنسان الذي تكاملت شخصيته، وبناه ربه حتى لم تعد فيه ثُلمة، خير مخلوق، وأعظم نفس برأها الخالق العظيم، إنه محمد وكفى، صلى الله عليه وسلم.
وما هي إلا جولة للباطل؛ خرجت فيها مقالات حقود، ونعقت بها إذاعات تنصيرية، على إثرها تتابعت ردّات الفعل العلمية، التي فنّدت المزاعم، وأغلقت على القوم المنافذ، فعادوا أدراجهم، يجرون أثواب الخيبة والفشل.
واليوم، وقد نبحت كلاب من الدانمارك مرة أخرى؛ مستجيبة لنباح كلبها الأول قبل عامين، وشخّصوا الرسول الأعظم في رسومات كارتونية؛ تحاول أن تلتمس ثغرة في الكيان العظيم، فماذا حدث؟ إنهم راحوا يرسمون شخوصًا لا علاقة لها بالحبيب -صلى الله عليه وسلم-، لا خَلْقًا ولا خُلُقًا، ويعلقون الاسم الطاهر عليها؛ استثارة لمشاعر المسلمين المحبة الهائمة بنبيها -صلى الله عليه وسلم-.
ذَكّرونا بالأذى الذي لقيه النبي -صلى الله عليه وسلم- من قريش؛ حيث سبوه واتهموه ومشوا خلفه ليعيروه، فما كان منه إلا أن قال: "ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم؟! يشتمون مذممًا، ويلعنون مُذَمَّمًا، وأنا محمد" رواه البخاري.
حتى ظهر للشريف العربي أن في الحديث منهج للمسلمين في التعالي عن السفاهات، وألا يستفزهم السباب عن أخلاق الإسلام، وعن مهامه العظام كحمل همّ الدعوة. ولا يعارض ذلك الغضب لله إذا كان منضبطا بالشرع، ومحفزًا للعمل الجاد.
وهل تظنون أن من يتعرض لحبيب الله -تعالى- سوف يهنأ؟ والله -تعالى- يقول في الحديث القدسي: "من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب"، فكيف بأعظم وليّ، وأشرف رسول؟.
لقد جاءت الأخبار بأن فنادق الدانمرك ترفض استقبال الرسام "فيسترجورد" المعتدي على سيد الأنام، عليه السلام، حتى بات يتمنى كوخًا آمنًا يؤويه بين الجبال. جعلوه رمزًا للحرية، فنسي اليوم طعمها، وعاد كالأجرب المنبوذ بين قومه، (ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [المائدة: 33]، وصدق من قال:
يا ناطح الجبل العالي ليثلمه | أشفق على الرأس لا تشفق على الجبلِ |
وليس غريبًا أن يدعو وزير الداخلية الألماني الأربعاء المنصرم [السابع والعشرين من فبراير ثمانية وألفين] كل الصحف الأوروبية إلى نشر تلك الرسوم الكاريكاتورية، على غرار الصحافة الدانمركية, بحجة الدفاع عن حرية الصحافة؛ فإن الله -تعالى- يقول: (وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) [الأنفال:73]، ولكن الغريب ألا يتعلم المسلمون من ذلك كيف يكونون لبعضهم كما قال الله -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات:10]. لا أن تقع الكوارث الكبرى، ثم لا تنبس لبعض الدول بنت شفة، ويقتل المسلمون في دُورهم، ولا يصدر حتى احتجاج.
إن المحاولات الأولى نتج عنها ما لا يحمده الإسلام، هذا الدين العظيم، من عنف وتخريب ومحاولات اغتيال، ونحوها، ولكنه -أيضًا- قوبل في مثل بلادنا بحملات تربوية عظيمة، استثمر فيها الحدث لتجديد حب الرسول -صلى الله عليه وسلم- في نفوس المسلمين، وباتت كل زاوية في سيارة ومدرسة وبيت فيها ذكر للرسول ومنقبة له، بل إن أعداد دخول الناس في دين الله تضاعف وازداد حتى في بلاد الدانمرك أنفسهم.
وبمجرد أن حاول أحد الناس اغتيال الرسام المشؤوم - على حد زعمهم- تضافرت الصحف كلها لإعادة المحاولات للإساءة إلى شخص نبينا -صلى الله عليه وسلم-، (وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [الأنعام:108]
ومن حق كل إنسان أن يشتري ما شاء ويقاطع ما شاء؛ لاسيما إذا أجدت المقاطعة، لكن ليس من حق المسلم أن يسيء إلى منهج دينه العظيم في التعامل مع المخالف؛ فيقدم صورة من العنف تشوّه وجهه الوضيء.
عودة مرة أخرى إلى حملة الحب التي أُطلقت قبل عامين، لتتوهج شخصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- نضارة وحضارة وإنسانية في اتباعنا لسنته، والتأسي به في أخلاقه، والتأليف عنه، وصناعة الأعمال الفنية المتقنة عن آثاره وأقواله وأفعاله لتقدم في كل فضائيات الدنيا وصحفها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [التوبة: 61].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وثقوا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- محفوظ حيًّا وميتًا، قال الله -تعالى-: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الزمر:36]، ويقول -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [المائدة:67].
ولقد تعرض النبي -صلى الله عليه وسلم- لكثير من الأذى حيًّا وميتًا، ولكنه لا يتعدى الأذى، وهو وعد من الله -تعالى-، (لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ) [آل عمران:111].
فهو محفوظ في جسده كما هو محفوظ في سنته، ولن ينال منه هؤلاء الظلمة ولا من شخصيته العظيمة، ولكنهم يؤذوننا نحن فيه، صلى الله عليه وسلم.
ولعل في سرد إحدى المحاولات الأربع لسرقة جسد النبي -صلى الله عليه وسلم- من قبره ما يجعلنا نزداد إيمانًا ويقينًا بحفظ الله -تعالى- له: وهي المحاولة الثالثة؛ وقد وقعت سنة سبع وخمسين وخمسمائة وألف بعد الهجرة، في عهد السلطان الملك العادل نور الدين محمود زنكي -رحمه الله-، وكان الذي تولى كبرها النصارى؛ حيث رأى السلطان نور الدين -رحمه الله- في نومه النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وهو يشير إلى رجلين أشقرين ويقول: "أنجدني! أنقذني من هذين!" فاستيقظ فزعًا، ثم توضأ وصلى ونام، فرأى المنام بعينه، فاستيقظ وصلى ونام، فرآه أيضًا مرة ثالثة، فاستيقظ وقال: لم يبق نوم. وكان له وزير من الصالحين يقال له جمال الدين الموصلي، فأرسل إليه، وحكى له ما وقع له، فقال له: وما قعودك؟ اخرج الآن إلى المدينة النبوية، واكتم ما رأيت.
فتجهز في بقية ليلته، وخرج إلى المدينة، وفي صحبته الوزير جمال الدين. فقال الوزير وقد اجتمع أهل المدينة في المسجد: إن السلطان قصد زيارة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأحضر معه أموالاً للصدقة، فاكتبوا من عندكم. فكتبوا أهل المدينة كلهم، وأمر السلطان بحضورهم، وكل من حضر يأخذ يتأمله ليجد فيه الصفة التي أراها النبي -صلى الله عليه وسلم- له فلا يجد تلك الصفة، فيعطيه ويأمره بالانصراف، إلى أن انفضت الناس.
فقال السلطان: هل بقي أحد لم يأخذ شيئًا من الصدقة؟ قالوا: لا. فقال: تفكروا وتأملوا. فقالوا: لم يبق أحد إلا رجلين مغربيين لا يتناولان من أحد شيئًا، وهما صالحان غنيان يكثران الصدقة على المحاويج. فانشرح صدره، وقال: عليَّ بهما، فأُتي بهما، فرآهما الرجلين اللذين أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهما بقوله: أنجدني أنقذني من هذين. فقال لهما: من أين أنتما؟ فقالا: من بلاد المغرب، جئنا حاجين، فاخترنا المجاورة في هذا المقام عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فقال: اصدقاني، فصمما على ذلك. فقال: أين منزلهما؟ فأخبر بأنهما في رباط بقرب الحجرة الشريفة. وأثنى عليهما أهل المدينة بكثرة الصيام والصدقة، وزيارة البقيع وقباء.
فأمسكهما وحضر إلى منزلهما، وبقي السلطان يطوف في البيت بنفسه، فرفع حصيرًا في البيت، فرأى سردابًا محفورًا ينتهي إلى صوب الحجرة الشريفة، فارتاعت الناس لذلك، وقال السلطان عند ذلك: اصدقاني حالكما! وضربهما ضربًا شديدًا، فاعترفا بأنهما نصرانيان، بعثهما النصارى في حجاج المغاربة، وأعطوهما أموالاً عظيمة، وأمروهما بالتحيل لسرقة جسد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكانا يحفران ليلاً، ولكل منهما محفظة جلد على زي المغاربة، والذي يجتمع من التراب يجعله كل منهما في محفظته، ويخرجان لإظهار زيارة البقيع فيلقيانه بين القبور، وأقاما على ذلك مدة، فلما قربا من الحجرة الشريفة أرعدت السماء وأبرقت، وحصل رجيف عظيم بحيث خُيل انقلاع تلك الجبال، فقدم السلطان صبيحة تلك الليلة.
فلما اعترفا، وظهر حالهما على يديه، ورأى تأهيل الله له لذلك دون غيره، بكى بكاء شديدًا، وأمر بضرب رقابهما، ثم أمر بإحضار رصاص عظيم، وحفر خندقًا عظيمًا حول الحجرة الشريفة كلها، وأذيب ذلك الرصاص، وملأ به الخندق، فصار حول الحجرة الشريفة سورٌ رصاصٌ، ثم عاد إلى ملكه، وأمر بإضعاف النصارى.
اللهم إنا نجعلك في نحور الذين يؤذوننا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، اللهم إنا نكل إليك عقوبتهم، يا جبار السماوات والأرض، فاجعلهم عبرة للمعتبرين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعبادك الصالحين، اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا، والزلازل والمحن، وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم...