الحميد
(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...
العربية
المؤلف | إسماعيل القاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - أعلام الدعاة |
ومن المعلوم أن قصة موسى وما جرى له مع فرعونَ وغيرِه، أعظمُ وأشرفُ من قصة يوسفَ بكثيرٍ كثير؛ ولهذا هي أعظم قصص الأنبياء التي تُذكرُ في القرآن، ثنَّاها الله أكثرَ من غيرها، وبسطها وطوَّلها أكثرَ من غيرها...
الخطبة الأولى:
في حياة موسى -عليه السلام- دروسٌ وعبر، ذكرها الله في مواضعَ عديدةٍ من كتابه الكريم مطولةً وغيرَ مطولة، ولم تُذكَرْ تفاصيلُ نبي من أنبياء الله في القرآن كموسى -عليه السلام-، فقد ذكر الله حالَ فرعونَ مع بني إسرائيل قبل مولد موسى -عليه السلام-، ورضاعتَه، والأحداثَ التي أدَّت إلى توجهه إلى مدين، ومُكثَه فيها، وتكليمَ الله له في الوادي، ثم مواجهتَه لفرعون، ودعوتَه لعبادة الله وحده، ومقابلتَه للسحرة، وغيرَها من الأحداث.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ومن المعلوم أن قصة موسى وما جرى له مع فرعونَ وغيرِه، أعظمُ وأشرفُ من قصة يوسفَ بكثيرٍ كثير؛ ولهذا هي أعظم قصص الأنبياء التي تُذكرُ في القرآن، ثنَّاها الله أكثرَ من غيرها، وبسطها وطوَّلها أكثرَ من غيرها".
ولنا في قصة موسى -عليه السلام- وقفات:
أولاها: أن قضاء الله نافذٌ على كل أحد، وإذا أراد الله أمرًا فلا راد له، وذلك من خلال ما أوحى الله لأم موسى (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)[القَصَص: 7].
فلا خوف على هذا الغلامِ الرضيعِ من جند فرعون ولا من البحر، ويقدّر الله لآل فرعون التقاطَهم إياه ليكون لهم عدوًّا وحَزَنًا (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ)[القَصَص: 8].
ووُضع هذا الرضيعُ بين يدي فرعون، ويأمر بقتله كبقية الأطفال، لكنَّ أمرَ الله قدرٌ مقدورٌ، فقالت زوجته (قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا)[القَصَص: 9].
وكان موسى لا يراه أحد إلا أحبه، كما قال الله ذلك في منته عليه: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي)[طه: 39]، قال ابن كثير -رحمه الله-: "كان لا يَراه أحد إلا أحبه".
ويُقدِّر الله لهذا الغلامِ الذي سيكون هلاكُ مُلْكِ فرعون على يديه، يعيش في قصره، ويأكل من طعامه، ويشرب من شرابه، ويلهو في داره (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)[يُوسُف: 21].
بل ويكون إيمان زوجة فرعون على يدي موسى -عليه السلام-: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[التّحْريم: 11].
الوقفة الثانية: أن الله أرسل نبيَّه موسى -عليه السلام- لرجلٍ كابَر الحق، وادعى الربوبية بلسانه، وجحد ربوبية الله، واستيقنتها نفسُه، قال الله -تعالى- عن حاله: (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ)[يُونس: 83].
لكن الله طمأن نبيه بقوله: (قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)[طه: 46]، فأمر الله موسى وهارون بالقول اللين، والدعوةِ البليغة، قال -سبحانه-: (فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)[طه: 44]، ولا يزال هذا الحدث يستفيد منه الدعاة على مر العصور.
الوقفة الثالثة: أن رسل الله -عليهم السلام- لديهم قوة في الحجة، فخليل الله إبراهيم -عليه السلام- قال لملِك زمانه النَّمرود (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)[البَقَرَة: 258].
وموسى -عليه السلام- حين سأله فرعون عن ربه: (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)[طه: 49-50]، وهذه من تدبير الله للمخلوقات لا يملكها أي مخلوق، فلم يملك فرعون أيّ جدال، بل انتقل الى السؤال الثاني (فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى)[طه: 51]، فأجاب موسى (عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنْسَى)[طه:52].
الوقفة الرابعة: الصبر في الدعوة هو ما تحلَّى به رسل الله -عليهم السلام-، فموسى -عليه السلام- صبر في دعوة قومه مع سخريتهم منه، قال -سبحانه-: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ * وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[الزّخرُف: 47-48].
وتعددت الآيات والمعجزات على قومه، قال -تعالى-: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ)[الأعرَاف: 133]، فدعوة الناس إلى الله تحتاج إلى صبر ومصابرة وتحمُّل المشاق، وثمرتها يانعة -بإذن الله-، ولذا أمر الله بالصبر على الشدائد، قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِيْنُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[البَقَرَة: 153].
جعلنا الله من أهل الإيمان، وثبتنا عليه حتى نلقاه.
الخطبة الثانية:
الوقفة الخامسة: أن أهل الباطل يَصِفون الحق وأهله بأوصاف تَصْرف الناس عن اتباعه، قال فرعون لقومه عن موسى -عليه السلام-: (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ)[غَافر: 26]، أو بالسخرية كقول فرعون عن موسى (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ)[الزّخرُف: 52].
وقد وصف المكذبون رسلَ الله -عليهم السلام- بأوصافٍ تَصْرف الناس عن قبول الحق، قال -سبحانه-: (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ)[الذّاريَات: 52]، ومع كل ذلك يُقبل الناسُ على قبول الحق وينصرفون عن الباطل.
الوقفة السادسة: وسائل الدعوة تتنوع وتختلف، والموفّق من طَرقَ الوسائل المتاحة في دعوة الناس إلى عبادة الله وحده، ونبذ ما سواه، فموسى -عليه السلام- في لسانه لثغة فدعا الله بقوله: (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي)[طه: 27-28].
فلم يسأل إزالة جميع ما بلسانه من العقد، بل سأل إزالة بعضها الذي يحصل بإزالته فَهْمُ كلامه، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون فقال: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ)[القَصَص: 34]، أي: يتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه.
ومع ذلك دعا وبلّغ الرسالة، وأمته أعظم الأمم بعد أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث: " عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَجَعَلَ يَمُرُّ النبيُّ معهُ الرَّجُلُ، والنبيُّ معهُ الرَّجُلانِ، والنبيُّ معهُ الرَّهْطُ، والنبيُّ ليسَ معهُ أحَدٌ، ورَأَيْتُ سَوادًا كَثِيرًا سَدَّ الأُفُقَ، فَرَجَوْتُ أنْ تَكُونَ أُمَّتِي، فقِيلَ: هذا مُوسى وقَوْمُهُ"(متفق عليه).
الوقفة السابعة: ما كان لله فهو باقٍ وما كان لغيره فزائل، فبالرغم من رغبة فرعون في إفحام موسى أمام الناس بفعل السحرة، إذا بالسحرة يقولون: (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى)[طه: 70]، وذلك حينما شاهدوا الحق بأعينهم (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ)[يُونس: 81].
الوقفة الثامنة: أهلك الله فرعون بهلاكٍ فيه عبرةٌ وعظة، فبعد أن جَمَع الناس (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ)[الشُّعَرَاء: 53]، ولَحِق بموسى وأصحابِه (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)[الشُّعَرَاء: 61-62]، أي: سيهدين طريق النجاة.
(فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)[الشُّعَرَاء: 63]، فأصبح البحر المتلاطم الأمواج لموسى ومن معه (طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لاَ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تَخْشَى)[طه: 77]، فلا تخشى من إدراك فرعون لك، ولا من البحر الذي أمامك.
فسلك موسى وقومه هذه المسالك ولم يُبلّ أحد منهم بالماء، وقرّب الله فرعون وجنده قال -تعالى-: (وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ)[الشُّعَرَاء: 64]، فلمّا تكامل موسى ومن معه خارجين؛ وتكاملَ فرعون ومن معه داخلين أطبق الله عليهم البحر، فلم ينجُ منهم أحدٌ، وجعل الله هلاكه عبرة وعظة، قال -تعالى-: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً)[يُونس: 92].
الوقفة التاسعة: إن الصراع بين الحق والباطل دائم، ومع اختلاف أساليب أهل الكفر إلا أن نهاية الطغيان واحدة (وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ)[يُونس: 82]، فهذا فرعونُ أغرقه الله بالماء، وذاك قارون خسف الله به وبداره الأرض، والأمثلة كثيرة، والنهاية كما وعد الله أنها للمتقين (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[الأعرَاف: 128].
اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين غير خزايا ولا مفتونين.