السميع
كلمة السميع في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...
العربية
المؤلف | مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
كان من رحمة الله تعالى على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- أن قصّ عليه من أخبار الأنبياء مع أقوامهم من قبله ما كان عزاءً له بعد عزاء، وتسلية لنفسه وتثبيتًا لفؤاده، وأمره أن يقصّ على الناس ما أوحاه الله إليه من قصص الأنبياء والأمم السابقة ليتفكروا في ..
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، وأطيعوه واحمدوه واشكروه على ما مَنَّ عليكم من نعم.
عباد الله: كان من رحمة الله تعالى على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- أن قصّ عليه من أخبار الأنبياء مع أقوامهم من قبله ما كان عزاءً له بعد عزاء، وتسلية لنفسه وتثبيتًا لفؤاده، وأمره أن يقصّ على الناس ما أوحاه الله إليه من قصص الأنبياء والأمم السابقة ليتفكروا في أحوال الغابرين ويتأسوا بالصالحين، قال تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا) [طه:113]، وقال: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف:176].
عباد الله: ومن القصص العظيمة التي قصها المصطفى -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه ما حدث به أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وصاحب جريج، وكان جريج رجلا عابدًا، فاتخذ صومعة فكان فيها، فأتته أمه وهو يُصلي فقالت: يا جريج، فقال: يا رب: أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جريج، فقال: يا رب: أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: أي رب: أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات، يعني الزواني، فتذاكر بنو إسرائيل جريجًا وعبادته، وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها فقالت: إن شئتم لأفتننه لكم! قال: فتعرضت له فلم يلتفت إليها، فأتت راعيًا كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها، فوقع عليها، فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جريج، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟! قالوا: زنيت بالبغي فولدت منك! فقال: أين الصبي؟! فجاؤوا به فقال: دعوني حتى أصلي، فصلى، فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه وقال: يا غلام: من أبوك؟! قال: فلان الراعي! قال: فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب؟! قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا...". الحديث. المسلم والبخاري مختصرًا.
عباد الله: لقد كان جريج أحد عباد بني إسرائيل، حُبِّبت إليه العبادة والخلوة لها، حتى اتخذ لنفسه صومعة يعبد الله فيها على طريقة الرهبنة التي ابتدعها أهل الكتاب ولم يكتبها الله عليهم، لكن بعضهم لم يرعها حق رعايتها، غير أن جريجًا كان ممن حفظ عبادته ورعاها.
جاءته أمه يومًا لزيارته ومحادثته، فنادته وكان يصلي فلم يجبها، وآثر الاستمرار في صلاته، لم يجد من حلاوة المناجاة والاتصال بالله تعالى ثلاث مرات تكرر عليه أمه تريد الجلوس معه والأنس بحديثه وهو لا يلقي لها بالاً، وكان الواجب عليه أن ينصرف من صلاته ويجيب أمه؛ لأن ذلك أولى من صلاة النافلة، إلا أنه عقَّها.
وعقوق الوالدين من أكبر الكبائر، فقد قرن الله تعالى برهما بطاعته: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) [الإسراء:23].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة لا ينظر الله -عز وجل- إليهم يوم القيامة: العاقّ لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن على الخمر، والمنان بما أعطى". رواه النسائي.
لقد أغضب جريج أمه فتعرض لدعوتها عليه، ودعوة الوالدين على أبنائهما مستجابة؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده". رواه الترمذي.
فدعت عليه أن لا يميته الله حتى يريه وجوه الزواني، وإذا أراد الله شيئًا هيأ له أسبابه حتى يقع، فالصراع بين الحق والباطل قائم منذ خلق الله آدم وإبليس إلى قيام الساعة، في محاولات عاتية من شياطين الإنس والجن لصد الناس عن عبادة الله وطاعته، وإغرائهم بالفاحشة والمعصية، وقيادتهم إلى الغفلة والإعراض: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [ص82 :83]، (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت2 :3] .
وأعظم الفتن على الإطلاق فتن الشهوات والإغراءات، وقلَّ من تعرض لشيء منها فصبر إلا من عصمه الله -عز وجل-، فالفتنة أشد من القتل، ولهذا فقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر فواهًا". رواه أبو داود.
تحدث بنو إسرائيل عن عبادة جريج وصلاحه وورعه، فقامت بغي من البغايا كانت مغرورة بنفسها مدلة بجمالها، يتحدث الناس عن حسنها فهونت أمره، وقللت من شأنه، وزعمت أنها لو تعرضت له لفتنته عن عبادته لله تعالى.
والساقطون في أوحال الرذيلة يظنون أن البشر جميعًا كمن عرفوا من أهل الفسق وعباد الشهوات، نعم، يظن أعداء الله والغافلون عنه وعما أعده لعباده من النعيم والأجر الذين يتبعون الشهوات والذين لم يتذوقوا طعم الطاعة، وحلاوة الإيمان ولذة الخشية لله، يظنون أن عباد الله جميعًا مثلهم لا يرجون لله وقارًا، ولا يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار، إذا خلو بمحارم الله انتهكوها، يظنون أن أولياء الله تعالى مثلهم رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، ليس فيهم من يستعلي على متع الدنيا الزائلة، وليس عندهم من الدين والتقى والصلاح ما يعصمهم من الوقوع في الرذيلة والولوغ في الفاحشة، ولا عجب، فكل إناء ينضح بما فيه، وكل إنسان ينظر بعين طبعه؛ يقول القائل:
والـذي نفسـه بغـير جمال | لا يرى في الوجود شيئًا جميلاً |
ويقول آخر:
ومن يك ذا فم مر ضرير | يجد مرًا به الماء الزلالَ |
لقد جاء كفار مكة إلى المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بعد أن صدع بدعوته إلى التوحيد يحملون من الإغراءات والترغيبات ما لا يصير أمامه على مبدئه إلا صفوة الخلق، جاؤوه يومًا فقالوا: يا محمد: إن كنت جئت بهذا الحديث تطلب مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا، سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا، وإن كنت تريد النساء فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرًا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا من الجن تراه قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليّ كتابًا، وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به، فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم". رواه ابن هشام في السيرة.
وحفل تاريخ المسلمين بإغراءات عظيمة أسقطت بشرًا كبيرًا، وصدت عن سبيل الله كثيرًا، وصبر فيها من عباد الله من يرجون الله واليوم الآخر.
حدّث الإمام الذهبي -رحمه الله- في السير بسنده عن أبي رافع قال: "وجّه عمر بن الخطاب جيشًا إلى الروم، فأسروا عبد الله بن حذافة السهمي، فذهبوا به إلى ملكهم فقالوا: إن هذا من أصحاب محمد، فقال: هل لك أن تتنصّر وأعطيك نصف ملكي؟! قال: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ملك العرب ما رجعت عن دين محمد طرفة عين، قال: إذًا أقتلك، قال: أنت وذاك. فأمر به فصلب، وقال للرماة: ارموه قريبًا من بدنه، وهو يعرض عليه ويأبى، فأنزله ودعا بقدر فصب فيها الماء حتى احترقت، ودعا بأسيرين من المسلمين فأمر بأحدهما فألقي فيها وهو يعرض عليه النصرانية ويأبى، ثم بكى -رضي الله عنه-، فقيل للملك: إنه يبكي! فظن أنه جزع، فقال: ردوه. ما أبكاك؟! فقال: قلت: هي نفس واحدة تلقى الساعة فتذهب، فكنت أشتهي أن يكون بعدد شعري أنفس تلقى في النار في الله! فقال الملك: هل لك أن تقبل رأسي وأخلي عنك؟! قال: وعن جميع أسارى المسلمين؟! قال: نعم، فقبّل رأسه، وقدم بالأسارى على عمر بن الخطاب، فأخبره بذلك فقال عمر: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة السهمي، وأنا أبدأ بذلك". فقبّل رأسه.
ويا لله كم من شهوات الدنيا التي أذلت أعناقًا، واسترقت نفوسًا، وأضلت أقوامًا، غير أن الموقف الذي يجب أن يكون عليه المسلمون دائمًا أمام شهوات الدنيا وإغراءات أصحابها، هو موقف سيد الدعاة وإمام العباد جميعًا محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث قال لعمه أبي طالب: "يا عم: والله لو وضعوا الشمس على يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته". رواه ابن هشام.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- وقوموا بحقه واعبدوه حقًّا في السر والنجوى، واعلموا أنكم ملاقوه.
أيها المسلمون: وتمضي تلك البغي مع الشيطان إلى جريج العابد فتعرض نفسها عليه، كل ذلك بمشيئة الله تعالى ثم بدعوة أمه عليه، ولكنه لم يلتفت إليها ولم ينشغل بها، بل عصمه الله تعالى من هذه الفتنة العظيمة التي قال عنها المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء". متفق عليه.
وبلغ الأسى والحزن والغضب بهذه المرأة البغي مبلغه؛ حيث خسرت المعركة مع هذا العابد، وكانت قد تعهدت للقوم بفتنته وإيقاعه في حبائلها، فلما رجعت خائبة خاسرة شق عليها ذلك، فمكرت لجريج مكرًا عظيمًا؛ حيث رأت راعيًا يأوي إلى صومعته، فذهبت إليه ومكنته من نفسها، فلما زنى بها وحملت منه ووضعت زعمت أن الغلام من جريج، فهو الذي زنى بها، وصلاحه وعبادته التي يظهرها إنما هي كذب ونفاق.
وكم يأسى الناس ويألمون عندما يثقون بعباد الله، ومن يتلبسون بالتقى والصلاح ثم ينكشف حالهم ويتبين أنهم مخادعون مراؤون يتلبسون بالزهد والعبادة ليأكلوا أموال الناس بالباطل، ويهتكوا حرماتهم، وقد وثقوا بهم واطمأنوا إليهم، غير أن هذه الحال بحمد الله نادرة في عباد الله المتقين، وهي إلى المنافقين أقرب.
جاء أهل القرية إلى جريج والغضب يغلي في عروقهم، وأنزلوه من صومعته وأمروه بترك التعبد الكاذب، فلم يسمع لندائهم، ولم يدر ما الخبر، فقد كان ماضيًا في صلاته وعبادته، فهدموا صومعته، وأخذوا يضربونه، فسألهم ما الأمر؟! فأخبروه.
لقد كان جريج صادقًا في عبادته، واثقًا من استقامته، فلما اجتمعت الجموع الثائرة طلب منهم مهلة يصلي فيها ويدعو ربه كشف الكرب الذي ألمّ به، فلما فرغ من صلاته جاء إلى الغلام الذي لم يمضِ على ولادته إلا ساعات، وطعنه في بطنه بأصبعه وخاطبه قائلاً: من أبوك؟! والناس ينظرون في صمت معجبين! كيف يخاطب من كان في المهد صبيًا، فأنطقه الله -عز وجل- الذي أنطق كل شيء ليكون آية من آيات الله، ودلائل قدرته وعظيم سلطانه، فنطق الغلام بكلام مسموع واضح مفهوم وقال: أبي فلان الراعي! فانكشف مكر البغي، ونصر الله هذا العبد الصالح، وحفظه من أن يفتن في دينه، وأبان للناس أنه عابد صالح، وأنهم أخطؤوا في إيذائه وتسرعوا في تصديق التهمة: (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر:43] .
عباد الله: فلنحذر من عقوق الوالدين، فبرهما ينجي العبد المؤمن الصالح ويحفظه، وعليكم باللجوء إلى الله دائمًا في الرخاء قبل الشدة، واحذروا من أهل الفجور والضلال.
وهناك قصة عكس قصة جريج العابد أشار إليها قول الله تعالى: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) [الحشر16 :17]؛ حيث يقول ابن جرير عن ابن مسعود -رضي الله عنه-: كانت امرأة ترعى الغنم، وكان لها إخوة أربعة، وكانت تأوي إلى صومعة راهب، قال: فنزل الراهب ففجر بها، فحملت فأتاه الشيطان فقال له: اقتلها ثم ادفنها، فإنك رجل مصدق ويسمع قولك، فقتلها ثم دفنها، قال: فأتى الشيطان إخوتها في المنام فقال لهم: إن الراهب صاحب الصومعة فجر بأختكم، فلما أحبها قتلها ثم دفنها في مكان كذا وكذا، فلما أصبحوا قال رجل منهم: والله لقد رأيت البارحة رؤيا ما أدري أقصها عليكم أم أترك؟! قالوا: لا، بل قصها علينا، قال: فقصها، فقال الآخر: وأنا والله لقد رأيت ذلك، فقال الآخر: وأنا والله لقد رأيت ذلك. قالوا: فوالله ما هذا إلا لشيء، فانطلقوا فاستعدوا ملكهم على ذلك الراهب، فأتوه فأنزلوه ثم انطلقوا به، فأتى الشيطان للراهب فقال له: إني أنا الذي أوقعتك في هذا، ولن ينجيك منه غيري، اسجد لي سجدة واحدة وأنجيك مما أوقعتك فيه، قال: فسجد له، فلما أتوا به ملكهم تبرأ وأخذ فقتل. وهكذا روي عن ابن عباس وطاوس ومقاتل وغيرهم.
وقد رويت القصة عن علي بن أبي طالب بسياق آخر ملخصه: إن راهبًا تعبّد ستين سنة، وإن الشيطان أراده فأعياه، فعمد إلى امرأة فأصابها ولها إخوة، فقال لإخوتها: عليكم بهذا القس فيداويها، قال: فجاؤوا بها إليه فداواها، وكانت عنده، فبينما هو يومًا عندها إذ أعجبته فأتاها فحملت، فعمد إليها فقتلها، فجاء إخوتها فقال الشيطان للراهب: أنا صاحبك، إنك أعييتني، أنا صنعت هذا بك فأطعني أنجك مما صنعت بك، فاسجد لي سجدة، له فلما سجد له قال: إني برئ منك، إني أخاف الله رب العالمين، وتسمى هذه القصة قصة برصيصا.
أسأل الله أن يقينا وإياكم الفتن ما ظهر منها وما بطن، وصلوا -عباد الله- وسلموا على خاتم رسل الله نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.