الحكم
كلمة (الحَكَم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعَل) كـ (بَطَل) وهي من...
العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
قف.. نعم قف.. قف وتأمل ما أنت فيه من نعمة.. ها أنت ذا تمشي وتتحرك..! وتنام وتجلس وتسمر وتتكلم وتضحك!! وتمارس الحياة بأكملها.. ولست بحاجة لكل هذه الأجهزة.. قلبٌ ينبض.. وكبدٌ وكلى ورئتان ومعدة وأمعاء تعمل.. وعينان وأذنان وأنف وحواس و..و..و. كلها تعمل وأنت تتمتع بأكل وشرب ونوم وشهوة، وأنس وسمر وحديث وسمع وبصر.. جيش عرمرم من...
أما بعد:
أيها الإخوة: فإن نعم الله تعالى على عباده لا تُعد ولا تحصى، بل لا يمكن أن يحصرها أيُّ إنسان كائناً من كان يقول الله تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل:18]؛ أي: وإن تتعرضوا لتعداد نعم الله التي أنعم بها عليكم عدا مجردا عن الشكر لا (تُحْصُوهَا) فضلا عن كونكم تشكرونها؛ فإن نعمه الظاهرة والباطنة على العباد بعدد الأنفاس واللحظات، من جميع أصناف النعم مما يعرف العباد، ومما لا يعرفون.. وما يدفع عنهم من النقم أكثر من أن تحصى إجمالاً فضلاً عن التفصيل، ومعلوم أنه لو رام فرد من أفراد العباد أن يحصى ما أنعم الله به عليه في خلق عضو من أعضائه، أو حاسة من حواسه لم يقدر على ذلك قط، ولا أمكنه أصلا؛ فكيف بما عدا ذلك من النعم في جميع ما خلقه الله في بدنه؛ فكيف بما عدا ذلك من النعم الواصلة إليه في كل وقت على تنوعها واختلاف أجناسها، ثم قال: (إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) يرضى منكم باليسير من الشكر مع إنعامه الكثير.
أحبتي: ومن أجلِ النعمِ بعد نعمةِ الإسلامِ والهدايةِ اليه والتوفيقِ للتمسك به نعمة الصحة والعافية، وسلامة الأعضاء من الآفات والأمراض، فنعمة الصحة والعافية نعمة عظمى لا يدرك حقيقتها تمام الإدراك إلا المرضى، وقديماً قيل: "الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يدركها إلا المرضى"..
قال وهب بن منبه -رحمه الله-: "رؤوس النِّعم ثلاثة؛ فأولها: نعمةُ الإسلام التي لا تتمُّ نِعَمُهُ إلا بها، والثانية: نعمةُ العافية التي لا تطيبُ الحياةُ إلا بها، والثالثة: نعمةُ الغنى التي لا يتمُّ العيشُ إلا به".
ونعمة الصحة لا يعرف قدرها ولا قيمتها إلا من فقدها!، يقول بكر بن عبد الله المزني -رحمه الله-: "يا ابن آدم إذا أردت أن تعلم قدر ما أنعم الله به عليك فَغْمِضْ عينيك".
أحبتي: وأنا أقول إذا أردت أن تعلم حق العلم قدر ما أنعم الله به عليك من الصحة فقم بزيارة إلى وحدة العناية المركزة في المستشفى..!! سترى في أحد أسرتها إنساناً طُرح على سرير أبيض ليس له حول ولا قوة قد جرد من ثيابِ زينته المعتادة..! وقد وصل جسده الضعيف بأنابيب وقساطر لدعم وظائف الجسم، وقياس ما يحدث في القلب، وأجزاء الجسم الأخرى من تطور صحي، فهناك آلة تساعد المريض على التنفس.. من خلال أنبوب بلاستيكي يتم إدخاله من الفم أو الأنف ويوصل المريض عن طريقه بجهاز التنفس الصناعي لمساعدته على التنفس..
وأنبوبٌ بلاستيكي أنفيٌ يوصل إلى المعدة لإعطاء الغذاء والأدوية؛ لأن المريض لا يستطيع البلع، ويزيل هذا الأنبوب الهواء أو الدم أو السوائل من المعدة.
وأنبوب موصولٌ بالمثانة لإزالة البول.. وأنبوب آخر رفيع عن طريق الفم لقياس حرارة الجسم بدقة.. وجهاز موصول بأصبع يد المريض أو قدمه أو أذنه لمراقبة معدل تركيز الأوكسجين بالدم ومعدل نبضات القلب باستمرار.
وأنابيب يتم إدخالها في الأوردة الكبيرة من الرقبة أو تحت عظم الترقوة أو في موضع التقاء الفخد بالجذع؛ لمتابعة حالة المريض أو لإعطائه الأدوية والسوائل التي لا يمكن إعطائها عن طريقة الأوردة الصغيرة وتساعد الطبيب على تحديد كمية السوائل التي يحتاجها المريض..
وأنبوب يفتح له بالصدر بين الأضلاع؛ ليسحب الهواء أو السوائل المتجمعة حول الرئتين ويساعد على تخفيف صعوبة التنفس..
ومقياس يوضع حول أعلى الذراع أو الساق ليعطي قراءات مستمرة لضغط الدم..
وأسلاك جهاز تخطيط القلب توضع أقطابها على صدر المريض بغرض مراقبة موجات القلب الكهربائية بشكل مستمر.. تنظر لكل ذلك أثناء نظرك للمريض الذي أغمض عينيه ودلع فاه وارتخى بدنه، وربط بأربطة طرية تمنعه من الحركة حتى لا يؤذي نفسه بحركته أو إزالة بعض الأنابيب أو الأسلاك عن نفسه..!!
وإذا رفعت رأسك ثم رأيت.. رأيت العجب..! ترى شاشات تتلون.. وأرقماً تذهل.. وتسمع أصوتَ طنطنات تفزع.. وأحياناً أجراساً ترهبُ عندما تقرأ الأجهزة شيئاً خطيراً..
ويدير هذا العمل العلاجي الرقابي فريق ضخم من الأطباء والفنيين والممرضين المتفرغين على مدار الثانية من خلال التناوب والمراقبة المستمرة من خلال الحواسيب المتطورة..
أخي الحبيب.. أخي المبارك: قف.. نعم قف.. قف وتأمل ما أنت فيه من نعمة.. ها أنت ذا تمشي وتتحرك..! وتنام وتجلس وتسمر وتتكلم وتضحك!! وتمارس الحياة بأكملها.. ولست بحاجة لكل هذه الأجهزة.. قلبٌ ينبض.. وكبدٌ وكلى ورئتان ومعدة وأمعاء تعمل.. وعينان وأذنان وأنف وحواس و..و..و. كلها تعمل وأنت تتمتع بأكل وشرب ونوم وشهوة، وأنس وسمر وحديث وسمع وبصر.. جيش عرمرم من الأعضاء تعمل بدأب وبلا كلل..كل هذا الكم الضخم من العطاء الجزل وأنت -أخي الحبيب- لا تحس بجهد أو عناء.. وصدق الله تعالى عندما قال: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل:18].
اللهم إنا نشكرك عدد ما شكرك الشاكرون بكلّ لسانٍ في كل زمان، وعدد ما سيشكرك الشاكرون بكل لسانٍ في كل زمان، فقد خصصتنا بنعم لم نرها على كثير من خلقك، وإن رأينا منها شيئاً على بعض خلقك لم نَرَ عليه بقيتها..
اللهم صلى وسلم على عبدك ورسولك محمد…
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبشكره والثناء عليه يكثر الخير وتزداد المسرات، وأشهدا أن لا إله إلا الله ولي الصالحين والصالحات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير البريات صلى الله وسلم عليه وآله وصحبه والتابعين له بإحسان ما تعاقب الليل والنهار..
أما بعد:
أيها الإخوة: اتقوا الله تعالى وأطيعوه وأعلموا أن طاعته أقوم وأتقى..
أيها الأحبة: في تلك الغرفة غرفة العناية المركزة.. التي يطيب لي أن أسميها غرفة البكاء؛ فمن دخلها من الزوار يدخل واجماً.. وإذا خرج منها خرج باكياً.. باكياً لما يعاني قريبه أو حبيبه من العناء والألم وما يرى فيه من الضعف وقلة الحيلة.. يبكي رحمة وينشج ألماً وحسرة.. يخرج وكأن هموم الدنيا قد ركبت كاهليه، وحسرات الألم تضطرم بين جوارحه.. ولسانه يلهج بالدعاء لذاك الحبيب المنطرح بلا حراك إلا نفساً يذرو بمساعدة جهاز.. فهو ميت بين الأحياء لم يحن تجهيزه..
أيها الأخ المبارك: ما ذكرت من حال لذاك الزائر أمر فطري ورحمة يضعها الله في قلوبنا لبني جلدتنا؛ فكيف إن كان أباً أو أماً أو ولداً أوزوجاً أو أخاً أو أختاً وعزيزاً.. فقد أتَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِحْدَى بَنَاتِهِ وَابْنَهَا قَدِ احْتُضِرَ، فَنَاوَلُوا رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الصَّبِيَّ وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا شَنٌّ، فَفَاضَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ.؟ قَالَ: "هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ" (رواه البخاري ومسلم عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما)؛
لكن هل فكرنا بعد الزيارة بتفكير آخر..؟؟
هل فكرنا بما منَّ الله به علينا من الصحة واستثمرناها بما يرضي ربنا؛ فبالصحة يمكن للمرء عمل كثير من الأعمال، وأداء كثير من العبادات والطاعات؛ فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم-: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ" (رواه البخاري)، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا" (رواه الترمذي وصححه الألباني عن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِيِّ).
وعلى المسلم أن لا ينسى أو يغفل عن نعم عديدة تحيط به من كل جانب؛ مثل نعمة البصر والسمع، ونعمة الشم والتذوق التي لو فقدها لم يجد للحياة مذاقا؛ فبها يتذوق حلاوة الطعام ولذة الشراب، وكذا نعمة اللسان التي يعبر بها عما يجول في خاطره ويخاطب بها من حوله.
ولذا جاءت الآثار تبين أهمية التفكر والتدبر والتأمل في نعم الله، وأن التفكر ربما يفوق بعض العبادات والطاعات؛ لأن التفكر والاعتبار والتأمل يورث الخشية، ومحبة المنعم وطاعته والالتجاء إليه في الضراء، وشكره في السراء، قال أبو الدرداء: "تفكر ساعة خير من قيام ليلة" (رواه أحمد وإسناده صحيح).