الخبير
كلمةُ (الخبير) في اللغةِ صفة مشبَّهة، مشتقة من الفعل (خبَرَ)،...
العربية
المؤلف | حسان أحمد العماري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - أركان الإيمان |
عبادَ اللهِ: زكوا أنفسكم، وهذبوا أخلاقكم، وأحيوا ضمائركم، ورَبُّوها على عَمَلِ الخيرِ، والبعدِ عن كلِّ شر، تسعدون في حياتكم، وتنالون رضا ربكم، وتقوى أخوتكم، وتحفظ حقوقكم، وينتشر الخير في مجتمعكم، ولا تجعلوا الله أهون الناظرين إليكم، فيكتب عليكم...
الحمد لله الذي رفع السماء بلا عمد، الحمد لله الذي خلق الخلق وأحصاهم عدد، الحمد لله الذي رزق الخلق ولم ينس منهم أحد، أحمده -سبحانه- وأشكره حمداً وشكراً كثيراً بلا عدد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله وسلم عليك يا رسول الله.
يا خير من دفنت في القاع أعظمه | فطاب من طيبهن القاع والأكم |
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه | فيه العفاف وفيه الجود والكرم |
أنت الحبيب الذي ترجى شفاعته | عند الصراط إذا ما زلت القدم |
أما بعد:
عباد الله: يأتي رجلان من المسلمين إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يختصمان في قطعة أرض، ليس لأحدٍ منهما بينة، وكل واحدٍ منهما يدعي أنها له، وقد ارتفعت أصواتهما، فقال: "إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع منكم، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه فإنما يقتطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة"[البخاري(6566)].
عند ذلك تنازل كل واحدٍ منهما عن دعواه، فقد حرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفوسهما الإيمان، وارتفع بهما إلى مستوى رائع من التربية الوجدانية، وبناء الضمير والتهذيب الخلقي للفرد؛ فكانت هذه التربية وبناء الضمير حاجزاً لهما عن الظلم والحرام، وهو الدافع إلى كل خير، فتقوى الله ومراقبته دليل على كمال الإيمان، وسبب لحصول الغفران، ودخول الجنان، وبه يضبط السلوك والتصرفات، وتحفظ الحقوق وتؤدى الواجبات، حتى وإن غابت رقابة البشر ووسائل الضبط وقوانين العقوبات والجزاءات، فتقوى الله ومراقبته والخوف منه والاستعداد للقائه أقوى في نفس المسلم من كل شيء، قال - تعالى -: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [المجادلة:7].
والضمير هو تلك القوة الروحية التي تحكم مواقف الإنسان وتفكيره، وهو منحة من الله للإنسان يدله بها على الخير والشر، وكيف يكسب الرضا والراحة النفسية.
ولذلكَ ضَربَ اللهُ مثلاً لذلكَ بيوسفَ -عليه السلام- حينما حجَزَهُ ضميرُه عن الانجرافِ وراءَ الهوى، وقال: (مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [يوسف: 23].
إن الدول والشعوب والحكومات لتسن القوانين، وتوجد التشريعات، وتحدد العقوبات التي تكفل لها ولأفرادها الحياة الطيبة والآمنة، فتحفظ الحقوق، وتنجز الأعمال، وتؤدى الواجبات، وتكافح الجرائم والاختلالات، ويعيش الفرد ينظر عندما يقدم على عمل ما إلى موقف القانون والعقوبة المترتبة على ذلك، فإذا وجدت وسائل الرقابة البشرية التزم بذلك، وإلا فإنه سرعان ما يتفلت ويتهرب ويتحايل على هذا القانون.
أما في شريعة الإسلام إلى جانب ما شرعته من أحكام وحدود وعقوبات، فإنها سعت لتربية الفرد المسلم على يقظة الضمير، والخوف من الله ومراقبته، وطلب رضاه، حتى إذا غابت رقابة البشر، وهمت نفسه بالحرام والإفساد في الأرض تحرك ضميره الحي يصده عن كل ذلك، ويذكره بأن هناك من لا يغفل ولا ينام ولا ينسى، يحكم بين عباده بالعدل ويقتص لمن أساء وقصر وتعدى في الدنيا والآخرة، القائل - سبحانه -: (وإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ)[الانفطار: 10-12].
وقال تعالى: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)[الإسراء: 13-14].
إن المرء لينظر في حياة الناس فيجد عجباً، مشاكل وصراعات، وتهاجر وقطع أرحام، وغمطٍ للحقوق، وتنكر للمعروف على أتفه الأسباب، بل إنك تجد من يكون سبباً في شقاء المجتمع؛ بسبب سوء أخلاقه وتصرفاته، يستغل المواقف، ويتحين الفرص، ليشبع رغباته، ويحقق شهواته على حساب القيم والأخلاق والدين، ومصالح الآخرين، ومنافع العباد.
وما وصل الناس إلى هذه الأمور إلا بسبب غياب الضمير الإيماني الذي يهذب الأخلاق، ويقوم اعوجاج السلوك، ويكون سبباً في صلاح النيات، وقبول الأعمال، وكثرة العبادات والطاعات، بل إنه يورث الخوف من الله والخشية من عذابه وسخطه، قال -تعالى-: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون) [السجدة: 16].
وقال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)[المؤمنون: 57-61].
عباد الله: لقد عين أبو بكر -رضي الله عنه- عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قاضيًا على المدينة، فمكث عمر سنة كاملة لم يختصم إليه اثنان، لم يعقد جلسة قضاء واحدة، وعندها طلب من أبي بكر إعفاءه من القضاء، فقال أبو بكر: أمن مشقة القضاء تطلب الإعفاء يا عمر؟ قال عمر: لا يا خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن لا حاجة بي عند قوم مؤمنين.
عرف كل منهم ما له من حق، فلم يطلب أكثر منه، وما عليه من واجب فلم يقصر في أدائه، أحب كل منهم لأخيه ما يحب لنفسه، إذا غاب أحدهم تفقدوه، وإذا مرض عادوه، وإذا افتقر أعانوه، وإذا احتاج ساعدوه، وإذا أصيب عزوه وواسوه، دينهم النصيحة، وخلقهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيمَ يختصمون؟
إن تربية الضمير وتقوية الوازع الديني في نفوس الناس فيه سعادة الأفراد والمجتمعات والدول، وبدونه لن يكون إلا مزيدا من الشقاء، مهما تطورت الأمم في قوانينها ودساتيرها، وطرق ضبطها للجرائم، وإدارة شؤون الناس، فإنه سيأتي يوم وتظهر ثغرات في هذه القوانين، وبالتالي ما الذي يمنع الموظف أن يرتشي، والكاتب أن يزور، والجندي أن يخل في عمله، والطبيب أن يهمل في علاج مريضه، والمعلم أن يقصر في واجبه، والقاضي أن يظلم في حكمه، والمرأة أن تفرط بواجبها، والتاجر من أن يغش، ويحتكر في تجارته.
هذا عثمان - رضي الله عنه - في عام الرمادة، وقد اشتد بالمسلمين الفقر والجوع، جاءت تجارته من الشام ألف بعير محملة بالتمر والزيت والزبيب، فجاءه تجار المدينة، وقالوا له: تبيعنا ونزيدك الدرهم درهمين؟ فقال عثمان بن عفان - رضي الله عنه - لهم: لقد بعتها بأكثر من هذا، فقالوا: نزيدك الدرهم بخمسة؟ فقال لهم عثمان - رضي الله عنه -: لقد زادني غيركم الدرهم بعشرة، فقالوا له: فمن الذي زادك؟ وليس في المدينة تجار غيرنا؟ فقال لهم عثمان - رضي الله عنه -: لقد بعتها لله ولرسوله، فهي لفقراء المسلمين.
الله أكبر.
ماذا لو لم يكن يحمل بين جوانحه ضمير المؤمن الحي، لكانت هذه الفرصة لا تعوض ليربح أموالا طائلة، ولو كانت على حساب البطون الجوعى، والأجساد العارية، وآهات المرضى والثكالى، وهموم أصحاب الحاجات.
إنه مهما خوف الناس، وبعث في قلوبهم الرعب برقابة البشر، فإنها تسقط أمام رقابة الذات، ورقابة الله.
وما تغيرت الحياة، وحدث البلاء، ووجدت الخيانة، وانتشر الظلم، إلا يوم ضعفت رقابة الله في قلوب البشر.
عباد الله: إن ضمير الإنسان إذا لم يكن موصولاً بالله، فتجد صاحبه محافظاً على العبادات والطاعات، والذكر وقراءة القرآن، فإنه سيأتي يومٌ ويعرض ذلك الضمير للبيع في سوق الحياة.
وعندما يباع الضمير ستجد ذلك الصاحب والصديق الذي إئتمنته على مالك قد خان الأمانة، وتنكر لك.
عندما يباع الضمير ستجد من يعطيك شهادة تعليمية دون أن تدرس يوماً واحداً، وستجد شاهدا باع ضميره، وزور أحداث شهادته، وحول الظالم إلى مظلوم، والمظلوم إلى ظالم، واختل واقع الحياة، وضاع مصير الإنسان.
وعندما يباع الضمير ستجد الطبيب الذي يهمل فحص مرضاه في المستشفى ليضطرهم للذهاب إليه في عيادته الخاصة، بل ستجد من يخون أمته، ويبيع وطنه، ويدمر مجتمعه.
وعندما يباع الضمير أو يغيب من النفوس تهمل الواجبات، وتضيع الحقوق والأمانات، ويوسد الأمر إلى غير أهله، وتظهر الخيانات، وتحاك المؤامرات، وتقدم المصالح الشخصية الضيقة على مصالح المجتمع والأمة.
فلنحذر من الغفلة، وبيع ضمائرنا، ولنتذكر قوة الله وقدرته وعلمه.
وما أتعس ذلك الإنسان عديم الضمير والوازع الديني عندما يخلو بمحارم الله فينتهكها، فلا يردعه دين ولا خلق، وإن أظهر من أعمال البر والخير ما أظهر، فيحرم التوفيق في الدنيا والثواب في الآخرة؛ لأن ضميره لم يكن مع الله.
عن ثوبان مولى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: "لأعْلَمَنّ أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسناتٍ أمثال جبال تهامة بيضاً، فيجعلها اللّه - عز وجل - هباء منثوراً"، قال ثوبان: يا رسول اللّه، صفهم لنا، جلِّهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم، قال: "أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم اللّه انتهكوها"[رواه ابن ماجة في كتاب الزهد باب 29 رقم 4245) وصحح إسناده البوصيري في الزوائد والألباني في صحيحه، رقم 505)].
وقال - تعالى -: (وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) [النساء: 107- 108].
والمعنى: "يستترون من الناس خوفًا من اطلاعهم على أعمالهم السيئة، ولا يستترون من الله -تعالى-، ولا يستحيون منه، وهو عزَّ شأنه معهم بعلمه، مطلع عليهم، حين يدبِّرون ليلا ما لا يرضى من القول، وكان الله -تعالى- محيطًا بجميع أقوالهم وأفعالهم، لا يخفى عليه منها شيء"[التفسير الميسر].
اللهم ارزقنا خشيتك في السر والعلن.
قلت قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
عبادَ اللهِ: زكوا أنفسكم، وهذبوا أخلاقكم، وأحيوا ضمائركم، ورَبُّوها على عَمَلِ الخيرِ، والبعدِ عن كلِّ شر، تسعدون في حياتكم، وتنالون رضا ربكم، وتقوى أخوتكم، وتحفظ حقوقكم، وينتشر الخير في مجتمعكم، ولا تجعلوا الله أهون الناظرين إليكم، فيكتب عليكم الشقاء في الدنيا والآخرة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، وقولوا كلمة الحق؛ تنالوا الخير من ربكم.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: 56].
والحمد لله رب العالمين.