الواحد
كلمة (الواحد) في اللغة لها معنيان، أحدهما: أول العدد، والثاني:...
العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
إذا أراد بأهل البيت خيراً رزقهم الرفق ليستعينوا به مدة حياتهم، ووفقهم للين في تصرفاتهم فيما بينهم ومع الناس، وألهمهم المداراة التي هي ملاك الأمر.. وهذا من علامة محبة الله لهم؛ فالبيت الذي يكون فيه رفق وسهولة ويسر في التعامل يكون بيت سعادة، لا يود الإنسان أن يخرج منه، ويتمنى ويرقب متى يرجع إليه، والبيت الذي فيه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الرفيقِ بخلقه، سبحانه وبحمده فمن أسمائه الحسنى الرفيق ومن صفاته العليا الرفق.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، تخلَّق بالرفقِ فكان له منه القدح المعلى؛ فهو أرفق خلق الله بخلقه، وحثَ على الرفقِ ورغَّبَ به فقال: لعَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: "إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لاَ يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ" (رواه مسلمٌ)؛ فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً..
أما بعد: يقول الله تعالى مثنياً على التقوى وداعياً لها: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة:197].
أيها الإخوة: الرفيق اسم من أسماء الله الحسنى؛ قال الشيخ السعدي -رحمه الله- مبيناً معناه ما مجمله: الله تعالى رفيقٌ في أفعاله؛ فقد خلقَ المخلوقاتِ كلَّها بالتدريج شيئاً فشيئاً بحسب حكمته ورفقه، مع أنه قادرٌ على خلقِها دفعة واحدة، وفي لحظة واحدة.. لكنه سبحانه خلق الخلق أطواراً ونقلهم من حالة إلى أخرى بحِكَمٍ وأسرارٍ لا تحيطُ بها العقول..
وهو سبحانه رفيقٌ في شرعه: ومن تأمّل ما احتوى عليه شرعه من الرّفق علم ذلك؛ فقد شرع الأحكام شيئا بعد شيء، وأجراها على وجه السّداد واليسر ومناسبة العباد.
أيها الإخوة: إن من أبرز مظاهر تميّز الإنسان وسموّ أحاسيسه اتصافه بالرفق؛ فالرفق صورة من صور كمال الفطرة وجمال الخلق التي تحمل صاحبها على البر والتقوى، قال الغزالي رحمه الله: "الرفق في الأمور ثمرة لا يثمرها إلا حسن الخلق" ا.هـ.
والله تعالى يحبّ من عبادِه أهلَ الرّفق، ويعطي على الرّفق ما لا يعطي على العنف؛ فقال: لعَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: "إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لاَ يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ" (رواه مسلمٌ)..
والرفق لين الجانب واللطف والأخذ بالأسهل وحسن الصنيع..
والرفق خيرٌ كلُه، يهدي الله إليه من يشاء، ويصرف عنه من يشاء؛ فعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم-: "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا أَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الرِّفْقَ" (رواه أحمد وصحّحه الألباني). وفي رواية "إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَ أَهْلَ بَيْتٍ أَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الرِّفْقَ" (رواه ابن أبي الدنيا والضياء وصحّحه الألباني عن جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)؛ أي: إذا أراد بأهل البيت خيراً رزقهم الرفق ليستعينوا به مدة حياتهم، ووفقهم للين في تصرفاتهم فيما بينهم ومع الناس، وألهمهم المداراة التي هي ملاك الأمر..
وهذا من علامة محبة الله لهم؛ فالبيت الذي يكون فيه رفق وسهولة ويسر في التعامل يكون بيت سعادة، لا يود الإنسان أن يخرج منه، ويتمنى ويرقب متى يرجع إليه، والبيت الذي فيه عنف وشدة؛ يكون بيت نكد وتعاسة وشقاء ومشكلات وخلافات، وربما طغت على أهل البيت وسببت شتاتهم..
والرفق منحة ربانية يمنحها الله من يشاء من عباده؛ فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رضي اللّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ الرِّفْقِ، فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ الْخَيْرِ، وَمَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنْ الرِّفْقِ، فَقَدْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنْ الْخَيْرِ" (رواه الترمذي وغيره وصححه الألباني).
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم- قَالَ لَهَا: "إِنَّهُ مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ، فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ وَحُسْنُ الْجِوَارِ يَعْمُرَانِ الدِّيَارَ، وَيَزِيدَانِ فِي الْأَعْمَارِ" (رواه أحمد وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح).
بل جعل المحروم من الرفق محروم من الخير؛ فعن جرير -رضي اللّه عنه- عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "من يحرم الرّفق يحرم الخير" (رواه مسلم).
وكان -صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم- يحث على الرفق ويأمر به أصحابه وخصوصاً من كان ذا ولاية وتأثير في الأمة فهو أحوج ما يكونون للرفق لتعلق مصالح العباد به.. بل وصل نصحه -صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم- للأمة أن دعا لمن رفق بهم ودعا على من يشق عليهم فَقَالَ "اللهُمَّ، مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ، فَارْفُقْ بِهِ" (رواه مسلم عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-)؛ أَيْ: أَدْخَلَ الْمَضَرَّةَ، وهذا دُعَاءٌ عَلَيْهِ مِنْهُ -صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم- بِالْمَشَقَّةِ جَزَاءٌ مِنْ جِنْسِ الْفِعْلِ، وَهُوَ عَامٌّ لِمَشَقَّةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ..
وقال النووي -رحمه الله- معلقاً على هذا الحديث: هذا من أبلغ الزواجر عن المشقة على الناس وأعظم الحث على الرفق بهم وقد تظاهرت الأحاديث بهذا المعنى.. قال شيخنا محمد العثيمين ما ملخصه: وهذا عام بكل ولاية صغيرة وكبيرة من الولاية في البيت والمدرسة وولاية الرجل في مسجده فما فوق ذلك.. وقال: فما ظنكم بشخص شق الله عليه -والعياذ بالله- بدعوة رسول الله، إنه سوف يخسر وينحط..! وقال الطيبي: وهو من أبلغ ما أظهره -صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم- من الرأفة والشفقة والمرحمة على الأمة..
أيها الأحبة: وكان النبي -صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم- أرفق الناس ولرفقه مظاهر كثيرة منها: ما روته عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "مَا خُيِّرَ النَّبِيُّ -صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم- بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ" (رواه البخاري ومسلم).
وكان -صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم- يأمر أهله بالرفق ويبين لهم فضله وأثره، عن عائشة -رضي اللّه عنها- أنّ رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم-؛ قال لها: "يا عائشة أرفقي فإنّ اللّه إذا أراد بأهل بيت خيراً دلّهم على باب الرّفق" (رواه أحمد).
ورَكِبَتْ عَائِشَةُ -رضي اللّه عنها- بَعِيرًا فَكَانَتْ فِيهِ صُعُوبَةٌ فَجَعَلَتْ تُرَدِّدُهُ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم- "عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ فإِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ" (رواه البخاري).
وأخبر -صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم- وهو الصادق المصدوق أن أهل الرفق واللين والسهولة في التعامل هم من تحرم عليهم النار ويحرمون عليها فقَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ، عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ سَهْلٍ" (رواه الترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وقال الألباني صحيح).
الخطبة الثانية:
الحمد لله (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [غافر:3] وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أولى العزم والتشمير، ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً أما بعد.. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آلعمران:102].
أيها الإخوة: وكان -صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم- رفيقاً حتى بالأعداء؛ فعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ، -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- زَوْجَ النَّبِيِّ -صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم- قَالَتْ: دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ اليَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم-، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ: وَعَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم-: "مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ" فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم-: "قَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ" (رواه البخاري)، وفي رواية أخرى له. "مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالعُنْفَ وَالفُحْشَ" قَالَتْ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: "أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ؟ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، َفَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ، وَلاَ يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ".
والرّفق من العبد لا ينافي الحزم، فيكون رفيقاً في أموره متأنّياً، ومع ذلك لا يفوّت الفرص إذا سنحت، ولا يهملها إذا عرضت..
ومما يجب التنبه له كذلك في أمر الرفق ما أشار إليه شيخنا محمد العثيمين -رحمه الله- بقوله: قد يظن بعض الناس أن معنى الرفق أن تأتي للناس على ما يشتهون ويريدون وليس الأمر كذلك بل الرفق أن تسير بالناس حسب أوامر الله ورسوله ولكن تسلك أقرب الطرق وأرفق الطرق بالناس ولا تشق عليهم في شيء ليس عليه أمر الله ورسوله، فإن شققت عليهم في شيء ليس عليه أمر الله ورسوله فإنك تدخل في الدعاء عليك من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأن يشق الله عليك والعياذ بالله.
اللهم ارزقنا الرفق واجعل لنا منه أوفر الحظ والنصيب..
وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة..