الخلاق
كلمةُ (خَلَّاقٍ) في اللغة هي صيغةُ مبالغة من (الخَلْقِ)، وهو...
العربية
المؤلف | أحمد بن عبد العزيز الشاوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أهل السنة والجماعة |
لقد عُنِي ديننا عناية كبيرة بموقف المسلم من الأشخاص والهيئات والمؤسسات جرحًا وتعديلاً، ولم يترك للعواطف الشخصية والحمية الجاهلية مكانًا في الحكم على الناس حتى ولو اختلف معهم وأضمر لهم البغضاء أو أظهر لهم العداء... سمعنا التهويل في نقد بعض العلماء أو الدعاة، ورميهم بالكذب أو البدعة أو المداهنة وتمييع الدين كما سمعنا الجور والإفك في رميهم بالخروج واتهامهم بالإرهاب تجاوبًا مع زيف...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي هدانا للإسلام وجعلنا خير أمة أخرجت للأنام وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
أما بعد: فاتقوا الله -معاشر المسلمون-؛ فمن اتقى الله وقاه ومن توكل عليه كفاه (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق: 2- 3].
ما بين يمين يمارسون الغلو في التقديس وشمال يصدرون سياسة الإسقاط والتدنيس ضاعت وسطية الاحترام والتقدير، وما بين فئة شعارها: فلان خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا، وفئة قائلة عن نفس الشخص: فلان هو شرنا وابن شرنا وظالمنا وابن ظالمنا..
ضاعت بين الفئتين فئة سطر منهجها شيخ الإسلام بقوله: "فأما الصديقون والشهداء والصالحون فليسوا بمعصومين، وهذا في الذنوب المحققة، وأما ما اجتهدوا فيه؛ فتارة يصيبون وتارة يخطئون، فإذا اجتهدوا وأصابوا فلهم أجران وإذا اجتهدوا وأخطئوا فلهم أجر على اجتهادهم وخطؤهم مغفور لهم، وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازِمَيْن، وأهل العلم والإيمان لا يُعصمون ولا يُؤَثَّمون".
في عصرنا فئة إن لم تكن عندهم رقم مائة فأنت صفر بلا مراء، وضاعت بين الرقمين أرقام يمكن من خلالها الالتقاء؛ فلا وسطية ولا عدل ولا أنصاف حلول، ولا مراعاة للجوانب المضيئة، إنما هو النظر بعين البخس والجور والإلحاد.
لقد حفلت مجالس الناس ومنتدياتهم بمظاهر من النقد الهدام والحديث بمسائل الأحياء والأموات، وصور من التجني المغلف بغلاف الغيرة على الدين!!!
رأينا الجَرح بلا دليل فيتعرض البعض لجرح الآخرين من غير حجة ولا برهان، وإنما للتشفي وليصبح النقد مهنة لذلك المنتقد في نقد المخالفين..
ورأينا النقد والسب وقد اعتمد على حجج واهية؛ إما لعدم التثبت، أو لعدم عدالة الناقل أو لأنه يهم في خبره، أو تحميل الكلام ما لا يتحمل، وهذا ملحوظ والله المستعان.
رأينا صورًا من تتبع العثرات وعدم الموازنة بين الهفوة والفضائل، ورأينا الطعن في النيات والمقاصد بدعوى أن مقصد ذلك الإنسان سيء، والحكم عليه في نيته بالظن، وهذا مسلك خطير؛ فمعرفة ما في السرائر موكول إلى الله سبحانه وتعالى.
رأينا التندر على الدعاة في المجالس واستغلال أي فرصة للغمز والطعن؛ بحجة بيان الحق وتعرية الباطل وأهله.
سمعنا التهويل في نقد بعض العلماء أو الدعاة، ورميهم بالكذب أو البدعة أو المداهنة وتمييع الدين كما سمعنا الجور والإفك في رميهم بالخروج واتهامهم بالإرهاب؛ تجاوبًا مع زيف الإعلام وزيغه.
سمعنا صورًا من الخلل في التربية على احترام الآخرين وتفهم وجهات نظرهم.
إذا خالفت رأي عالم أو داعية قالوا: أنت عدو للعلماء والدعاة، وإن عاتبت مجاهدًا وخالفته في رأي من آرائه أو عمل نُسب إليه قالوا: أنت من خذلة المجاهدين، وإن ظللت سنين عددًا تسير على الحق الذي يوافقونه ثم خالفتهم يومًا في مسألة اجتهادية رفعوا أمامك شعار كفارات العشير: "ما رأينا منك خيرًا قط".
تلك المظاهر نتجت عن غيرة محمودة في بدايتها، لكنها قد تجر صاحبها -إن لم يتحرز شيئًا فشيئًا- إلى الوقوع في لحوم إخوانه ودعاته من حيث لا يشعر، أو هي نتاج حسد أو هوى أو ثمرة تقليد وتعصب أو إفراز للتعالم الذي كثر في عصرنا، أو سببها النفاق وكره الحق وسوء الظن مع بعد الأمة عن علمائها.
لقد عُنِي ديننا عناية كبيرة بموقف المسلم من الأشخاص والهيئات والمؤسسات جرحًا وتعديلاً، ولم يترك للعواطف الشخصية والحمية الجاهلية مكانًا في الحكم على الناس حتى ولو اختلف معهم وأضمر لهم البغضاء أو أظهر لهم العداء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ) [النساء: 135].
ومن الميثاق الذي واثق الله به الأمة المسلمة القوامة على البشرية بالعدل المطلق الذي لا يميل ميزانه مع المودة والشنآن، ولا يتأثر بالقرابة أو المصلحة أو الهوى في حال من الأحوال.. العدل المنبثق من القيام لله وحده بمنجاة من سائر المؤثرات، والمنبثق الشعور برقابة الله وعلمه بخفايا الصدور.
إن المسلم تحكمه -في الكلام عن إخوانه ممن تربطهم به عقيدة واحدة ومنهج واحد- تحكمه قواعد وأسس منطلقها كتاب الله وسنة رسوله.
يا أيها المتكلمون: قبل أن تتكلموا وتحكموا على غيركم تذكروا أن كل بني آدم خطاء؛ فالخطأ صفة لازمة لا ينجو منها أحد من البشر ما عدا الأنبياء، ولو نجا منها أحد من الناس لنجا منها خير القرون صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
يا أيها المتكلمون: تذكروا (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) [الحجرات: 6]؛ فمن العدل والإنصاف أن يتثبت المسلم من كل خبر وظاهرة قبل الحكم عليها، وإن من الظلم والاعتداء الحكم على أمر بمجرد الظنون والأوهام وقبل التثبت التام منه (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الإسراء: 36]، فلا تتبع ما لم تعلمه علم اليقين وما لم تتثبت من صحته؛ من قول يُقال ورواية تُروى، ومن ظاهرة تُفسر أو واقعة تُعلل، ومن حكم شرعي أو قضية اعتقادية.
وآيات الكتاب وأحاديث السنة تتضافر على تقرير هذا النهج المتكامل؛ فلا يقول اللسان كلمة ولا يروي حادثة ولا ينقل رواية، ولا يحكم العقل حكمًا، ولا يبرم الإنسان أمرًا إلا وقد تثبّت من كل جزئية ومن كل ملابسة ومن كل نتيجة، فلم يبق هناك شك ولا شبهة في صحتها.
قال ابن حجر -رحمه الله-: "إن الذي يتصدى لضبط الوقائع من الأقوال والأفعال والرجال يلزمه التحري في النقل؛ فلا يجزم إلا بما يتحققه، ولا يكتفي بالقول الشائع وإن كان في الواقعة أمر فادح؛ سواء كان قولاً أو فعلاً أو موقفًا في حق المستور، فينبغي ألا يبالغ في إفشائه، ويكتفي بالإشارة؛ لئلا يكون وقعت منه فلتة، ولذلك يحتاج المسلم أن يكون عارفًا بمقادير الناس وأحوالهم ومنازلهم؛ فلا يرفع الوضيع، ولا يضع الرفيع". انتهى كلامه.
يا أيها المتكلمون: قبل أن تتكلموا تذكروا (اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ) [الحجرات: 12] إن أمر المسلم في -الأصل- قائم على الستر وحسن الظن به، وفي حادثة الإفك -عندما قيل ما قيل- بين الله -سبحانه- الموقف الصحيح الذي ينبغي لكل مسلم أن يقفه فقال: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا) [النور: 12].
يا أيها المتكلمون: قبل أن تتكلموا فلا يغب عن ضمائركم قول الحق -جل وعلا-: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18] وتذكروا تحذير الله لعباده (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) [الحجرات: 12].
لا تنسوا "وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم" لا يغب عن بالكم "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يظن أن تبلغ ما بلغت يهوي بها في النار أبعد من بين المشرق والمغرب".
إن المسلم يخاف من الله -عز وجل- قبل أن يتكلم في إخوانه أو يحكم عليهم وعلى مقاصدهم، إن المسلم الذي يحفظ قول الله (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) [الحجرات: 12] ويسمع قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا".
إن مسلمًا يدرك هذا لحري أن يكف لسانه عن الخوض في أعراض إخوانه المسلمين، ويمسك لسانه عن التجريح لعلماء الأمة ودعاتها "وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم".
يا من تقع في غيبة إخوانك بحجة التقويم والإصلاح: قبل أن تتكلم اسأل نفسك -بصدق وتجرد- ما هو الدافع الحقيقي لهذا الكلام أهو الإخلاص والنصح لله ولرسوله وللمسلمين؟! أم هو الهوى والحسد والكراهية؟!
تأمل جوابك أمام الله حين يسألك عن قولك هذا، وتذكر قول الحق: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) [البقرة: 235].
يا أيها المتكلمون: هل نسيتم وأنتم تتكلمون أو تحكمون قوله -تعالى-: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) [الأنعام: 152]..
إن الكلام في الآخرين والحكم عليهم يجب أن يكون بعلم وعدل وإنصاف (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا) [المائدة: 8].
قال شيخ الإسلام: "والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل لا بجهل وظلم كحال أهل البدع".
المنصفون فقط هم الذين يذكرون المرء بما فيه من خير أو شر ولا يبخسونهم حقه ولو كان الموصوف مخالفًا لهم في الدين والاعتقاد أو في المنهج والانتماء؛ فكيف إذا كان من إخواننا وعلمائنا ممن نتهمهم في عقيدتهم أو سلوكهم.
قال الذهبي -رحمه الله-: "ونحب السنة وأهلها ونحب العالم على ما فيه من الاتباع والصفات الحميدة، ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ وإنما العبرة بكثرة المحاسن".
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "فلو كان كل من أخطأ أو غلط تُرك جملة وأُهدرت محاسنه لفسدت العلوم والصناعات والحكم وتعطلت معالمها".
وهكذا منهج القرآن والسنة؛ فكتاب الله ينصف أهل الكتاب (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) [آل عمران: 75]، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينصف حاطبًا وقد أفشى سرًّا من أسرار الدولة فيقول لعمر: "أليس من أهل بدر، لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".
إن الكلام في الآخرين بدون علم ولا عدل بل بظلم وهوى سبب لكثير من التفرق بالقلوب وحدوث الشحناء والحسد والتباغض، بل سبب الفشل وذهاب وحدة الصف وقوته.
يا أيها المسلمون: إن من العدل في الأحكام العدل في المفاضلة، والتفضيل بين الناس على وجهين: مطلق ومقيد؛ فالمطلق أساسه التقوى وقوة الإيمان ولنا الظاهر والله يتولى السرائر.
والتفضيل المقيد حسب قيده؛ فالناس يتفاضلون في أمور ومواهب وقدرات، والتفضيل المطلق في كل الأمور يصعب الحكم به في كثير منها بلا تفصيل؛ لأن التفضيل بدون التفصيل لا يستقيم ورُب صفة هي كمال لشخص وليست كمالاً لغيره، بل كمال غيره بسواها؛ فكمال خالد بشجاعته، وكمال ابن عباس بفقهه وعلمه وكمال أبي ذر بزهده وورعه.
وتفضيل الأنواع على الأنواع أسهل من تفضيل الأشخاص على الأشخاص، وأبعد من الهوى والغرض.
يا أيها المتكلمون: تذكروا عند كلامكم وأحكامكم (فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا) [النساء: 135] كلنا نؤمن أن الحق معصوم وثابت، وأما الرجال فأعراض زائلون يقاسون بالحق ولا يقاس الحق بهم.
وكثير منا يعلم ويردد قول مالك -رحمه الله-: "يؤخذ من قول كل أحد ويُرَدّ إلا صاحب هذا القبر -صلى الله عليه وسلم-"؛ فأين واقعنا مما نؤمن به، وأين ممارستنا مما نعلم؟!
لنتأمل في أنفسنا ما هو محور الولاء فيها أهو الرجل أم الحق؟ وماذا نفعل حين تقدم لنا فكرة الرجل الذي نحبه تحت اسم الرجل الذي نكرهه؟ ألا يدفعنا ذلك إلى رفضها ربما دون النظر فيها؟ وهل يسهل علينا أن نرى الرجل الذي نحبه يخطئ أو نصف رأيه بأنه خطأ؟
ولنتأمل في واقعنا: ما الروح التي تسيطر على عملنا الإسلامي؟ أليست روح القائد الملهم الوحيد الذي يصنع المعجزات ولا نتصور بقاء العمل مع غيابه؟ هل نتصور إمكانية تنحيَته عن العمل؟ أو نتصور وفاته؟ أم أننا نربط بينه وبين العمل ربطًا مصيريًا مهما كانت أعماله وتصرفاته.
إن واقعنا يؤكد أننا نسلك عمليًا ما نرفضه نظريًا من شعارات المبتدعة كقولهم: المريد أمام شيخه كالميت بين يدي مغسله، وكقولهم: من قال لشيخه: لِمَ، فلن يفلح أبدًا..
بل إن بعضنا قد ينحدر إلى درك سحيق فيكون شعاره في العمل: وافق أو نافق أو فارق، ولا شك أن هذا خطأ تجب التوبة منه؛ فالرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة -وهو من الإسلام وأهله بمكان- قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور بل ومأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يُتَّبَع فيها، ولا يجوز أن تُهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين بل نجله ونحترمه وندعو له وننتفع بعلمه.
هذه هي ميزة أهل السنة والجماعة دون غيرهم، إن انتسابهم وانتماءهم للكتاب والسنة، ومتبوعهم هو محمد صلى الله عليه وسلم، وأما الرجال عندهم فأدلاء على الحق؛ فما وافق من كلامهم الحق أخذوا به وما لا فلا.
إن المقصود بذلك هو التعلق المرضي بالأشخاص الذي لا يستقيم معه حال ولا يرجى له مآل، وليس القصد تجريح العلماء أو انتقاصهم بل المطلوب المتابعة والمحبة للعلماء العاملين والدعاة المخلصين والاستفادة من تجربتهم واحترامهم وتوقيرهم.
وثمة فرق بين التقدير والتقديس، والهدف أن نعرف -جميعًا- أن الحق حق دائمًا، وأما الشخص فيمكن أن يكون محقًا أو مبطلاً، وهذا هو الموقف السليم بين الحق والرجل، والحق وإن كان قويًا بذاته فلا بد من أشخاص يحملونه، فإذا سألت كيف نعرف هؤلاء من أولئك حتى نستفيد من الدعاة العاملين فأقول لك: من ثمراتهم تعرفهم.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد الأمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين..
أما بعد: فمن قواعد الحكم على الآخرين الانشغال بأخطائنا نحن عن أخطاء غيرنا، قال ابن قتيبة -رحمه الله-:"قد استدللت على كثرة عيوبك بما تكثر من عيب الناس؛ لأن الطالب للعيوب إنما يطلبها بقدر ما فيه منه، والمبالغة والتهويل في نقد الغير غفلة عن عيب النفس".
ومن تلك القواعد: عدم التهويل في الأمور الخلافية التي يسوغ فيها الاجتهاد؛ فقد تكون الأمور التي ينتقد عليها بعض الدعاة أو العلماء أمورًا اجتهادية يسوغ فيها الخلاف، وقد يكون الخلاف فيها قد حصل عند السلف؛ فيأتي بعضهم مهولاً أن فلانًا قد خالف في المسألة الفلانية، وأن هذا خلل في المنهج وانحراف عنه، وليس الأمر كذلك فلا ينبغي أن تجرنا الخصومة إلى هذا الحد، وحل القضايا وعلاجها ليس بالفضح والتشهير، وإنما بالرغبة الصادقة في الإصلاح والصدق في التناصح.
وأخيرًا: وقبل أن نعاتب الآخرين ونخوض في أعراض المسلمين ونحمل أنفسنا إثم التجريح والغيبة والتلطخ بالذنب ينبغي أن نضع أنفسنا مكان إخواننا.
فكم من أناس كانوا يذمون فلانًا؛ لأنه لم يفعل كذا، ويتهمون فلانًا لأنه فعل كذا فلما وصلوا إلى ما وصل إليه فلان وفلان فعلوا أسوأ مما فعل !!
أفليس لنا ذنوب مثل ما للمجروحين نخشى أن تهلكنا إن لم يرحمنا ربنا؛ فما الذي يجعلنا برجاء المغفرة أحق منهم؟! أفلا نتذكر قول معاوية -رضي الله عنه- لمسور -رضي الله عنه-: "لا أبرأ من الذنب؛ فهل تعد لنا -يا مسور- ما نلي من الإصلاح فإن الحسنة بعشر أمثالها أم تعد الذنوب وتترك الإحسان؟!"
عندما يمارس الواحد منا هذا الأسلوب التربوي في عتابه للناس ومعالجة أخطائهم الحاصلة -بحكم الضعف وتغليب الهوى لا تلك الأخطاء الواقعة إصرارًا ومكابرة وعنادًا- عندما نمارس هذا الأسلوب فإن الوئام والألفة ستحل محل الفرقة والشحناء، وهو أسلوب ينفع مع مختلف طبقات الناس وشرائحهم.
ولو أننا طبقنا هذا الأسلوب في معالجة الخطأ ووضع الناقد نفسه مكان صاحب الخطأ، وبحث عن الملابسات التي أحاطت به في خطئه لتضامن الناقد، وعذر صاحب الخطأ إن وجد له عذرًا، أو أنه يضع خطأه في حجمه الطبيعي من غير تضخيم ولا تهويل.
ولا يعني هذا تمرير الأخطاء وتبريرها، وإنما يعني معالجتها معالجة عادلة تضع الخطأ في مكانه الطبيعي، ولا تُنسى حسنات المخطئ، كما لا ينسى الناقد أن عليه ذنوبًا كما على غيره، "والسعيد من لم تشغله عيوب الناس عن عيوب نفسه".
إن على كل مسلم -أراد الحكم على غيره بدافع شرعي- أن يراعي هذه القواعد، فيتقي الله في نقده وألفاظه، ويخلص النية لله ويتجرد عن الهوى وحظوظ النفس؟
ولنتذكر أننا -جميعًا- بين الله تعالى موقوفون ومحاسبون، والله حكم عدل وسيجزي كل عامل بما عمل فلسنا بموكلين بخلق الله نسب هذا ونجرم هذا..
ولنتذكر مقولة الحسن البصري -رحمه الله- لرجل سمعه يسب الحجاج بعد وفاته فقال له: "يا ابن أخي فقد مضى الحجاج إلى ربِه، وإنك حين تقدُمُ على اللهِ ستجدُ أن أحقرَ ذنبٍ ارتكبتَه في الدنيا أشدّ على نفسِك من أعظمِ ذنبٍ اقترفَه الحجاج (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس: 37] واعلم يا ابن أخي أن اللهَ -عز وجل- سوف يقتصُ من الحجاجِ لمن ظلمَهم، كما سيقتصُ للحجاجِ ممن ظلموه، فلا تشغلنا نفسك بعد اليومِ بعيبِ أحد ولا تتبعَ عثراتِ أحد".
فمن سلك هذا السبيل فيرجى له الثواب والسداد وعدم التبعة يوم القيامة بما يقول، ومن أخل بشيء -مما سبق- فقد وقف على حفرة من حفر النار فلينظر موضع قدمه؛ أن تزل وهو لا يشعر ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إننا من خلال هذه القواعد لا ندعو إلى السكوت عن أخطاء العلماء وكتاباتهم، ولكن بطرح هادئ هادف يحاط بسياج من الأدب والتثبت والعدل بعيدًا عن القيل والقال والانفعالات والمهاترات.
فما أحرانا بأن نتربى على هذه المعالم ونربي عليها أجيالنا وشبابنا قبل أن نستيقظ يومًا فنجدنا أمة مشتتة يلعن بعضها بعضا وبلا مرجعية شرعية ولا قيادة علمية؛ فيتخذ الناس رؤوسًا جهالاً وتنشأ التصرفات الهوجاء.
نسأله تعالى أن يجعل العدل لنا ميزانًا والحق لنا فرقانًا، وأن يخلصنا من حقوق العباد؛ إنه الهادي إلى سبيل الرشاد.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد...