اللطيف
كلمة (اللطيف) في اللغة صفة مشبهة مشتقة من اللُّطف، وهو الرفق،...
العربية
المؤلف | أحمد عبدالرحمن الزومان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصلاة |
ومن أخَّر صلاة النهار، فصلاَّها بالليل أو صلاة الليل؛ فصلاَّها بالنَّهار؛ فهذا الذي فعله غير الذي أمر به وغير ما شرعه الله ورسوله، فلا يكون صحيحًا ولا مقبولاً؛ والله -سبحانه- قد جعل لكلِّ صلاة وقتًا محدودَ الأول والآخر، ولم يأذن في فعلها قبل دخول وقتها، ولا بعد خُرُوج...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستتغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهدِه الله، فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل، فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18]، أمَّا بعد:
عباد الله: من العبادات التي فَرَضَها الله على عباده عباداتٌ لها وقت مُحدَّد، فلا يجوز الإتيانُ بِهَا قبل وقتها، ولا يَجوز تأخيرُها عن وقتها المحدَّد، ومن ذلك الصلاة، وإنَّما دلَّ الدَّليل على جواز تقديم الصلاة عن وقتها للعُذر؛ فيجوز أن تُقدَّم الصلاةُ عن وقتها أو تُؤخَّر؛ فتجمع مع التي تليها؛ فتجمع صلاة الظُّهر مع العصر، والمغرب مع العشاء، وكذلك إذا فات وقتها بعُذر نوم ونسيان، وَجَب قضاؤها.
أمَّا تعمُّد تأخير الصَّلاة عن وقتها، ثُمَّ قضاؤها بعد ذلك، كمن لا يُصلِّي صلاةَ الفجر إلاَّ بعد طُلُوع الشمس، أو يُؤخِّر صلاة العصر إلى بعد غروب الشَّمس؛ فالمحقِّقون من أهل العلم يَرَون عدم صحة القضاء، وأنَّه لو قضاها لم يؤجر عليها، ولا تبرأ ذِمَّته بها، بل الواجب عليه التوبة والإكثار من الأعمال الصَّالحة؛ لتكفِّر خطيئةَ ترك الصَّلاة؛ فأسوق جملة من كلام أهل العلم؛ لعلَّ ذلك يوقظ المفرطين، ومن له ولاية عليهم.
قال ابن القيِّم -رحمه الله- مقرِّرًا لهذه المسألة أسوق كلامه مُختصرًا: "ما وقته أوسع من فعله كالصلاة فِعْلُه في وَقْته شرطٌ في كَوْنه عبادة مأمورًا بها؛ فإنَّه إنَّما أمر به على هذه الصِّفة؛ فلا تكون عبادة على غيرها؛ فما أَمَر الله به في الوقت، فتَرْكُه المأمورَ حتَّى فات وقته لم يُمكن فعله بعدَ الوقت شرعًا؛ ولهذا لا يُمكن فعل الجُمُعة بعد خروج وَقْتها، ولا الوقوف بعرفة بعد وقته، ولا مشروع إلاَّ ما شرعه الله ورسوله، وهو -سبحانه- ما شرع فِعْلَ الصلاة والصِّيام والحج إلاَّ في أوقات مُختصة به؛ فإذا فاتت تلك الأوقات لم تكن مشروعة، ولم يشرع الله -سبحانه- فعل الجمعة يوم السبت، ولا الوقوف بعرفة في اليوم العاشر، ولا الحج في غير أشهره.
ومن أخَّر صلاة النهار، فصلاَّها بالليل أو صلاة الليل؛ فصلاَّها بالنَّهار؛ فهذا الذي فعله غير الذي أمر به وغير ما شرعه الله ورسوله، فلا يكون صحيحًا ولا مقبولاً؛ والله -سبحانه- قد جعل لكلِّ صلاة وقتًا محدودَ الأول والآخر، ولم يأذن في فعلها قبل دخول وقتها، ولا بعد خُرُوج وقتها، والمفعول قبل الوقت وبعده أمرٌ غير المشروع؛ فلو كان الوقت ليس شرطًا في صِحَّتها، لكان لا فرق في الصِّحة بين فعلها قبل الوقت وبعده؛ لأنَّ كلتا الصَّلاتين صلاَّها في غير وقتها؛ فكيف قبلت من هذا المفرِّط بالتفويت، ولم تقبل من المفرط بالتعجيل؟!
وقد أمر الله -سبحانه- المسلمين حال مواجهة عدوِّهم أن يصلوا صلاةَ الخوف، فيقصروا من أركانها، ويفعلوا فيها الأفعالَ الكثيرة، ويستدبروا فيها القبلة، ويسلمون قبل الإمام، بل يصلُّون رجالاً وركبانًا، حتَّى لو لم يُمكنهم إلا الإيماء، أَتَوا بها على دوابِّهم إلى غير القبلة في وقتها، ولو قبلت منهم في غير وقتها وصحَّت، لجاز لهم تأخيرها إلى وقت الأمن وإمكان الإتيان بها، وهذا يدل على أنَّها بعد خروج وقتها لا تكون جائزة ولا مقبولة منهم مع العُذر الذي أصابهم في سبيله وجهاد أعدائه، فكيف تقبل من صحيحٍ مقيمٍ لا عذر له الْبَتَّةَ وهو يسمع داعيَ الله جهرة، فيدعها حتى يخرج وقتها، ثم يصليها في غير الوقت؟! وكذلك لم يفسح في تأخيرها عن وقتها للمريض، بل أمره أنْ يصلي على جنبه بغير قيام ولا ركوع ولا سجود إذا عَجَز عن ذلك، ولو كانت تقبل منه وتصح في غير وقتها، لجاز تأخيرها إلى زمن الصِّحَّة.
فأخبرونا: أيُّ كتابٍ أو سنة أو أَثَرٍ عن صاحب نطق بأنَّ من أخر الصلاة وفوَّتَها عن وقتها الذي أمر الله بإيقاعها فيه عمدًا يقبلها الله منه بعد خروج وقتها، وتصح منه، وتبرأ ذمته منها، ويثاب عليها ثواب من أدَّى فريضته؟! هذا والله ما لا سبيلَ لكم إليه البتة، حتَّى تقوم الساعة ونحن نُوجِد لكم عن أصحاب رسول الله مثل ما قلناه وخلاف قولكم.
فصل في قول أبي بكر الصديق الذي لم يُعلَم أن أحدًا من الصحابة أنكره عليه؛ قال عبدالله بن المبارك: "أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن زيد: أن أبا بكر قال لعمر بن الخطاب: إنِّي موصيك بوصية إنْ حفظتها: إنَّ لله حقًّا بالنهار لا يقبله باللَّيل، وحقًّا بالليل لا يقبله بالنَّهار... فهذا أبو بكر قال: إنَّ الله لا يقبل عَمَل النهار بالليل، ولا عمل الليل بالنَّهار، ومن يُخالفنا بهذه المسألة يقولون بخلاف هذا صريحًا، وأنَّه يقبل صلاةَ العشاءِ الآخرة وقت الهاجرة، ويقبل صلاةَ العصر نصف النَّهار... فهذا قول أبي بكر، وعمر، وابنه عبدالله، وسعد بن أبي وقاص، وسلمان الفارسي، وعبدالله بن مسعود، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وبديل العقيلي، ومحمد بن سيرين، ومطرف بن عبدالله، وعمر بن عبدالعزيز رضي الله عنهم وغيرهم".
وقال ابن حزم في "المحلى: "من تعمَّد ترك الصَّلاة حتى خرج وقتها، فهذا لا يقدر على قضائها أبدًا؛ فليكثر من فعل الخير وصلاة التطوُّع؛ ليثقل ميزانه يوم القيامة، ولْيَتُب وليستغفر الله -عز وجل-".
وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في الاختيارات: "تارك الصلاة عمدًا لا يشرع له قضاؤها، ولا تصحُّ منه، بل يكثر من التطوُّع، وكذا الصوم، وهو قول طائفة من السَّلف؛ كأبي عبدالرحمن صاحب الشافعي، وداود وأتباعه، وليس في الأدلة ما يُخالف هذا بل يوافقه".
وقال ابن رجب في "فتح الباري: "المعذور إنَّما أمره بالقضاء؛ لأنَّه جعل قضاءه كفَّارة له، والعامد ليس القضاء كفَّارة له؛ فإنه عاصٍ تلزمه التوبة من ذنبه بالاتِّفاق، والعامد لم يأتِ نصٌّ بأن القضاء كفَّارة له، بل ولا يدل عليه النظر؛ لأنَّه عاصٍ آثم يَحتاج إلى توبة، كقاتل العمد، وحالف اليمين الغموس، وقد نص الإمام أحمد في رواية ابنه عبدالله: على أن المصلي لغير الوقت كالتارك للصلاة في استتابته وقتله، فكيف يؤمر بفعل صلاة حكمها حكم ترك الصلاة؟... ولا يُعرف عن أحد من الصَّحابة في وجوب القضاء على العامد شيء، بل ولم أجد صريحًا عن التابعين - أيضًا - فيه شيئًا، إلا عن النخعي، وقد وردت آثارٌ كثيرة عن السَّلف في تارك الصلاة عمدًا أنَّه لا تقبل منه صلاة، كما رُوي عن الصديق -رضي الله عنه-".
وقال الشيخ محمد بن عثيمين: "لو أنَّ الإنسان ترك الصَّلاة حتَّى خرج وقتها عمدًا بلا عذر، فهنا لا يقضي الصلاة؛ لأنَّه لو قضاها لم تقبل منه؛ قال النبي -صلَّى الله عليه وسلم-: "مَن عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد"، أي: مردود عليه، أمَّا لو أخرها لعذر كنوم ونسيان، فيقضيها ولا حرج".
وقال الألباني: "هذه الصلاة لا مجالَ لتداركها وقضائها؛ لأنَّها إذا صليت في غير وقتها؛ فهو كمن صلاها قبل وقتها، ولا فَرْقَ، وجملة القول: إنَّ القول بوجوب قضاء الصلاة على من فوَّتَها عن وقتها عمدًا مما لا ينهض عليه دليل، ولذلك لم يقل به جماعة من المحقِّقين مثل أبي محمد بن حزم والعز بن عبدالسلام الشافعي، وابن تيمية وابن القيم، والشوكاني وغيرهم".
معاشر المؤمنين: أكثرت النَّقل في مسألة أنَّ مَن ترك الصَّلاة متعمدًا حتى خرج وقتها أنَّه لا يقضيها، ولو قضاها لم تقبل منه، وعرفنا أنَّه قول الصحابة ومن بعدهم من علماء الأمة المحققين من فُقهائهم ومحدِّثيهم، وإن كانت المسألة ليست من مسائل الإجماعِ، بل جمهور المتأخرين على القول بالقضاء؛ فليست المسألة مسألة معصية فقط، بل مسألة ترك الصَّلاة، فالقاضي تارك للصلاة؛ لأنَّه لم يصلِّ صلاة شرعية؛ فإنْ كان هناك إيمانٌ سوف يكون ذلك زاجرًا عن التأخُّر بغير عذر، وإن كانت الأخرى، فما لجرح بميت إيلامُ.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي يَسَّر لعباده من الرُّخص ما يرفع عنهم به الحرج، والصَّلاة والسلام على مَن إذا خُيِّر بين أمرين، اختار أيسرهما ما لم يكن إثْمًا، فإن كان إثْمًا، كان أبعد الناس منه، وبعد:
أيها المؤمنون: حدَّ النبي للصلوات أوقاتًا؛ فكلُّ صلاة لها أوَّل الوقت وآخره؛ فيجوز تأخير الصلاة آخر وقتها من غير إثْم؛ "فعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "أنَّه أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصَّلاة؛ فلم يرد عليه شيئًا، قال: فأقام الفَجْر حين انشقَّ الفجر والناس لا يكاد يَعْرِفُ بعضُهم بعضًا، ثم أمره، فأقام بالظهر حين زالت الشَّمس، والقائل يقول: قد انتصف النَّهار، وهو كان أعلم منهم، ثم أمره، فأقام بالعصر والشَّمس مرتفعة، ثم أمره، فأقام بالمغرب حين وقعت الشمس، ثم أمره، فأقام العشاء حين غاب الشَّفق، ثُمَّ أخَّر الفجر من الغد، حتَّى انصرف منها، والقائل يقول: قد طلعت الشَّمس أو كادت، ثم أخر الظهر حتَّى كان قريبًا من وقت العصر بالأمس، ثم أخَّر العصر حتَّى انصرف منها، والقائل يقول: قد احْمَرَّت الشمس، ثم أخَّر المغرب، حتَّى كان عند سقوط الشفق، ثم أخَّر العشاء حتَّى كان ثلث اللَّيل الأول، ثُمَّ أصبح، فدعا السائل، فقال الوقت بين هذين" (رواه مسلم).
فأخَّر النبي صلاةَ الفجر في اليومِ الثاني حتَّى انصرف منها، والقائل يقول: قد طلعتِ الشَّمس أو كادت، وأخر العصر في اليوم الثاني حتى انصرف منها، والقائل يقول قدِ احْمَرَّت الشمس؛ وهذا لبيان وقت الجواز من غير ضرورة؛ ففي هذا تَوْسِعَة على العباد، فمثلاً بعض المساجد يراعي الإمامُ أحوالَ بعض المأمومين، فيؤخر صلاة العصر وصلاة الفجر إلى آخر الوقت، وهذا جائز من غير كراهة، وكذلك مَن لا تلزمه الجماعة من أهل الأعذار، كالمريض، والنساء يَجوز لهم أنْ يؤخروا الصَّلاة إلى آخر وقتها، وإن كان الأفضلُ المبادرة أوَّل الوقت على تفصيل لا يتَّسع المقام لذكره.
لكن يَجب التفريقُ بين كون الإمام يؤخِّر الصَّلاة وبين جَعْلِ المسجد تتوارد عليه جماعات، فتسلم جماعة وتأتي أخرى وهكذا، كما هو الحال في بعض مساجد محطات الوقود داخل المدن، فهذا ليس بمشروع، فقد سُئل الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله-: "الجماعة الثانية التي تقام بعد الجماعة الأصلية، هل عليها أذان أو إقامة فقط؟ فأجاب عليها إقامة فقط، وليس عليها أذان، لكن بقينا هل تشرع أو لا تشرع"؟
والصوابُ: أنَّها مشروعة، إلاَّ إذا اتُّخِذَت عادة، بأن يقال: هؤلاء الجماعة، قالوا: سوف ننتظر حتَّى تنتهي الجماعة الأولى، ثم نذهب ونقيم جماعة، هذا الفعل بدعة ولا يَجوز، لكن لو فُرِضَ أن جماعةً دخلوا المسجد، ووجدوا النَّاس قد صلَّوْا، هل نقول: صلوا فُرادى أو صلوا جماعة؟ الثاني بلا شك، نقول: صلوا جماعة، هكذا أمر النَّبِي صلَّى الله عليه وسلَّم فإنَّه دخل رجل قد فاتته الصَّلاة، فقال: "ألاَ رجل يتصدَّق على هذا، فيصلي معه"؛ فأمر مَن صلَّى أنْ يقيمَ جماعة بهذا، فكيف بمن لا يصلي؟
عباد الله: من المعلوم أن من بَذَل وُسعه لأداء الصَّلاة في الوقت، ثُمَّ خرج وقتها؛ يَجب عليه أنْ يَقضِيَها متى زال عُذْره، فمتى استيقظ النَّائم، وجب عليه القَضَاء، ويَحرم عليه التأخُّر؛ لأنَّ هذا وقت الصَّلاة في حَقِّه، ومثله النَّاسي، فيجب أنْ يقضيَ متى ما تذكَّر، ويَحرم التأخير؛ ففي حديث أبي قتادة -رضي الله عنه- الطويل في قِصَّة نوم النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: "ليس في النَّوم تفريطٌ، إنَّما التفريطُ على من لم يصلِّ الصَّلاة حتى يَجيء وقت الصَّلاة الأخرى، فمن فَعَل ذلك، فليصلها حين ينتبه لها" (رواه مسلم).
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال نبي الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "من نسي صلاةً، أو نام عنها، فكفَّارتها أنْ يُصليها إذا ذكرها" (رواه البخاري ومسلم) واللفظ له، و"صلاة" نكرة في سياق الشَّرط، فتعم كل صلاة فرضًا ونفلاً؛ فما فاته صلاة من الصَّلوات فرضًا أو نفلاً بعذر يقضي، وما لا، فلا.
وصلوا الله وسلموا...