الوارث
كلمة (الوراث) في اللغة اسم فاعل من الفعل (وَرِثَ يَرِثُ)، وهو من...
العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
هناك أعمال عشرة إذا قام بها الإنسان في حياته, واعتنى بها أثناء حياته, يجري له ثوابها وهو في قبره بعدما يموت, وهي تعليم العلم النافع, وإجراء الأنهار, وحفر الآبار, وغرس النخيل والأشجار, وبناء المساجد, وتوريث المصاحف, وتربية الأبناء حتى يكونوا صالحين داعين لوالديهم بالرحمة والخير, وبناء الدور ووقفها على المحتاجين, والصدقات الجارية, والرباط في الثغور.
الحمد لله المحمود على كل حال, الموصوف بصفات الكمال والجلال, له الحمد في الأولى والآخرة, وإليه الرجعى والمآل, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى الصحب والآل.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله تعالى, وراقبوه –سبحانه- مراقبة من يعلم أن ربه يسمعه ويراه, ثم اعلموا -رحمكم الله- أن من عظيم نعم الله على عباده المؤمنين, أن هيَّأ لهم أبوابًا من الخير والإحسان عديدة, يقوم بها العبد الموفَّق في هذه الحياة, ويجري ثوابها عليه بعد الممات, فأهل القبور في قبورهم مرتهنون, وعن الأعمال منقطعون, وعلى ما قدموا في حياتهم محاسبون مجزيون, بينما هذا الموفَّق في قبره الحسنات عليه متوالية, والأجور والأفضال عليه متتالية, ينتقل من دار العمل ولا ينقطع عنه الثواب, تزداد درجاته وتتنامى حسناته, وتتضاعف أجوره وهو في قبره, فما أكرمها من حال، وما أجمله وما أطيبه من مآل!!
عباد الله: وقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمورًا سبعة يجري ثوابها على الإنسان في قبره بعدما يموت, وذلك فيما رواه البزار في مسنده بإسناد حسن من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سبع يجري للعبد أجرهن وهو ميت في قبره: من علَّم علمًا، أو أجرى نهرًا، أو حفر بئرًا، أو غرس نخلاً، أو بنى مسجدًا، أو ورّث مصحفًا، أو ترك ولدًا يستغفر له بعد موته".
وتأمل -أخي المسلم- مليًّا هذه الأعمال, واحرص على أن يكون لك منها حظ ونصيب ما دمت في دار الإمهال, وبادر إليها أشد المبادرة، قبل أن تنقضي الأعمار وتنصرم الآجال. وإليك بعض البيان والإيضاح لها:
أما أولاً: تعليم العلم, والمراد بالعلم هنا العلم النافع الذي يبصّر الناس بدينهم, ويعرفهم بربهم ومعبودهم, ويهديهم إلى صراطه المستقيم, العلم الذي يعرف به الهدى من الضلال, والحق من الباطل، والحلال من الحرام, وهنا -عباد الله- يتبين عظيم فضل العلماء الناصحين والدعاة المخلصين, الذين هم في الحقيقة سراج العباد ومنار البلاد, وقوام الأمة وينابيع الحكمة, حياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة, فهم يعلِّمون الجاهل، ويذكِّرون الغافل، ويرشدون الضال, لا يتوقع لهم بائقة، ولا يخاف منهم غائلة, وعندما يموت الواحد منهم, تبقى علومه بين الناس موروثة، ومؤلفاته وأقواله بينهم متداولة, منها يفيدون، وعنها يأخذون, وهو في قبره تتوالى عليه الأجور ويتتابع عليه الثواب, وقديمًا كانوا يقولون: يموت العالم ويبقى كتابه, بينما الآن حتى صوت العالم يبقى مسجلاً في الأشرطة المشتملة على دروسه العلمية, ومحاضراته النافعة، وخطبه المفيدة, فينتفع به أجيال لم يعاصروه ولم يكتب لهم لقيه, ومن يساهم في طباعة الكتب النافعة, ونشر المؤلفات المفيدة، وتوزيع الأشرطة العلمية والدّعوية, فله حظ وافر من ذلك الأجر إن شاء الله.
ثانيًا: إجراء النهر, والمراد شق جداول الماء من العيون والأنهار؛ لكي تصل المياه إلى أماكن الناس ومزارعهم, فيرتوي الناس، وتسقى الزروع، وتشرب الماشية, وكم في مثل هذا العمل الجليل من الإحسان إلى الناس, والتنفيس عنهم بتيسير حصول الماء الذي به تكون الحياة, بل هو أهم مقوماتها, ويلتحق بهذا مدّ الماء عبر الأنابيب إلى أماكن الناس ومواطن حاجتهم, ويلتحق بهذا أيضًا وضع برادات الماء في أماكن الناس ومواطن احتياجهم.
ثالثًا: حفر الآبار, وهو نظير ما سبق, وقد جاء في السنة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينما رجل بطريق فاشتد عليه العطش, فوجد بئرًا فنزل فيها فشرب ثم خرج, فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش, فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني, فنزل البئر فملأ خفه ماءً، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له", قالوا: يا رسول الله: وإن لنا في البهائم لأجرًا؟! قال: "في كل ذات كبد رطب أجر". متفق عليه. فكيف -عباد الله- بمن حفر البئر وتسبب في وجودها حتى ارتوى منها خلق, وانتفع بها كثيرون.
رابعًا: غرس النخل, ومن المعلوم أن النخل سيد الأشجار وأفضلها وأنفعها وأكثرها عائدة على الناس, فمن غرس نخلاً وسبَّل ثمره إلى المسلمين, فإن أجره يستمر كلما طعم من ثمره طاعم, وكلما انتفع بنخله منتفع من إنسان أو حيوان, وهكذا الشأن -عباد الله- في غرس كل ما ينفع الناس من الأشجار, وإنما خصّ هذا النخل بالذكر لفضله وتميزه.
خامسًا: بناء المساجد التي هي أحب البقاع إلى الله، والتي (أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [النور: 36], وإذا بني المسجد أقيمت فيه الصلاة, وتلي فيه القرآن، وذكر فيه الله, ونشر فيه العلم، واجتمع فيه المسلمون, إلى غير ذلك من المصالح العظيمة, ولبانيه أجر في ذلك كله, وقد ثبت في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من بنى مسجدًا يبتغي به وجه الله بنى له بيتًا في الجنة". متفق عليه.
سادسًا: توريث المصحف, وذلك يكون بطباعة المصاحف, وشرائها ووقفها في المساجد ودور العلم؛ حتى يستفيد منها المسلمون, ولواقفها أجر عظيم كلما تلا في ذلك المصحف تالٍ, وكلما تدبر فيه متدبِّر, وكلما عمل فيه عامل.
سابعًا: تربية الأبناء وحسن تأديبهم, والحرص على تنشئتهم على التقوى والصلاح؛ حتى يكونوا أبناءً بررة وأولادًا صالحين, فيدعون لأبويهم بالخير، ويسألون الله لهم المغفرة والرحمة, فإن هذا مما ينتفع به الميت في قبره.
عباد الله: وقد ورد في المعنى المتقدم أحاديث أخرى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-, منها ما رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته عالمًا علمه ونشره, وولدًا صالحًا تركه, ومصحفًا ورّثه, أو مسجدًا بناه, أو بيتًا لابن السبيل بناه, أو نهرًا أجراه, أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه بعد موته". وهو حديث حسن. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية, أو علم ينتفع به, أو ولد صالح يدعو له". وقد فسر جماعة من أهل العلم الصدقة الجارية بأنها الأوقاف, أن يحبس الأصل وتُسبل منفعته, وجل الخصال المتقدمة داخلة في الصدقة الجارية, وقوله في حديث أبي هريرة: "أو بيتًا لابن السبيل بناه", فيه فضل بناء الدور ووقفها لينتفع بها المسلمون, سواء ابن السبيل أو طلاب العلم أو الأيتام أو الأرامل أو الفقراء والمساكين, وكم في هذا من الخير والإحسان, وقد تحصل لنا بما تقدم جملة من الأعمال المباركة إذا قام بها العبد في حياته جرى له ثوابها بعد الممات.
نسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفقنا وإياكم لكل خير, وأن ييسر لنا أبواب البر والخير والإحسان, وأن يهدينا سواء السبيل, أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عظيم الإحسان, واسع الفضل والجود والامتنان, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله تعالى...
وإن مما يجري على المسلم ثوابه, وهو ميت في قبره، غير ما تقدم، الرّباط في الثغور في سبيل الله لصد الأعداء وحراسة المسلمين؛ لما ثبت في صحيح مسلم من حديث سلمان الفارسي -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه, وإنْ مات جرى عليه عمله الذي كان يعمل, وأُجري عليه رزقه وأَمن الفتان", أي إنه في قبره ينمو له عمله إلى يوم القيامة, ويأمن -بإذن الله- من فتنة القبر.
عباد الله: وعلى هذا فهناك أعمال عشرة إذا قام بها الإنسان في حياته, واعتنى بها أثناء حياته, يجري له ثوابها وهو في قبره بعدما يموت, وهي تعليم العلم النافع, وإجراء الأنهار, وحفر الآبار, وغرس النخيل والأشجار, وبناء المساجد, وتوريث المصاحف, وتربية الأبناء حتى يكونوا صالحين داعين لوالديهم بالرحمة والخير, وبناء الدور ووقفها على المحتاجين, والصدقات الجارية, والرباط في الثغور.
نسأل الله -جلّ وعلا- أن يوفقنا وإياكم لكل خير. واعلموا -رعاكم الله- أن الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت, والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني. وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على إمام المتقين وسيد الأوّلين الآخرين محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرًا". اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد, وباركْ على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد, وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي, وارض اللهم عن الصحابة أجمعين, وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين, وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين, اللهم أعز الإسلام والمسلمين, اللهم أعز الإسلام والمسلمين, وأذل الشرك والمشركين, ودمر أعداء الدين, اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك -صلى الله عليه وسلم- وعبادك المؤمنين, اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا, واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين, اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى, وأعنه على البر والتقوى, وسدده في أقواله وأعماله, وارزقه البطانة الصالحة يا ذا الجلال والإكرام, اللهم وفق جميع ولاة أمر المسلمين للعمل بكتابك، واتباع سنة نبيك -صلى الله عليه وسلم-, واجعلهم رأفة ورحمة على عبادك المؤمنين.
اللهم إنا نسألك الهدى والسداد, اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى, اللهم آتِ نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها, اللهم إنا نسألك من الخير كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم, ونعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم, اللهم إنا نسألك من خير ما سألك منه عبدك ورسولك محمد -صلى الله عليه وسلم-، ونعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ورسولك محمد -صلى الله عليه وسلم-.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر، اللهم أصلح ذات بيننا، وألف بين قلوبنا، واهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقواتنا وأزواجنا وذرياتنا وأموالنا، واجعلنا مباركين أينما كنا.
اللهم اغفر لنا ذنبنا كله: دقه وجله، أوله وآخره، سره وعلنه، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك أنت الغفور الرحيم.