القهار
كلمة (القهّار) في اللغة صيغة مبالغة من القهر، ومعناه الإجبار،...
العربية
المؤلف | عبدالله بن صالح القصير |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - أهل السنة والجماعة |
بل هم قوم يفتنون ويسعون بكل فتنة؛ ليفتنوا الناس عن دينهم، ويصدوهم عن سبيل ربهم بزخرف القول وما لهم من الجاه والطَول؛ وكونهم من بني جلدتهم ويكلمونهم بألسنتهم، وهم في الحقيقة دعاة على أبواب جهنم، يدعون الناس إلى خبيث الأفكار والاعتقادات ويزينون لهم قبيح المعاصي وعظيم المنكرات وسيء القول وفاحش الكلمات، ...
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، ومالك الملك في الدنيا ويوم الدِّين.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المصطفى، والرسول المجتبى، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وقد دل أمته على خير ما يعلمه لهم في الدنيا والأخرى، وأنذرهم من شر ما يعلمه لهم في الحاضر والعقبى، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه (فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف:157].
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وسارعوا في سائر أوقاتكم وأحوالكم إلى ما يحب ويرضى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واسألوا ربكم العافية من عظيم البلى واللطف فيما يجريه عليكم من القضاء، والنجاة من الفتن فإنها في زمانكم تترى.
أيها المسلمون: لا شك أننا في زمان قل فيه العلم، وفشا فيه الجهل، وضعفت فيه التقوى، وغلب فيه الهوى، فأوثرت فيه –من الكثيرين- الدنيا على الأخرى، وهام ضعفاء الإيمان في أودية الضلال، وصار أهل الزيغ والنفاق يكيدون لإفساد المجتمع في الحال والمآل، يمكرون بخفاء، وينافقون بجلاء (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [الصف:8-9] (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ) [محمد:29-30].
يفسدون في الأرض ويقولون إنما نحن مصلحون، إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً، يريدون أن يجمعوا بين الدين وشهوات المنحرفين المغرضين وأنظمة الجاهلين (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة:50].
بل هم قوم يفتنون ويسعون بكل فتنة؛ ليفتنوا الناس عن دينهم، ويصدوهم عن سبيل ربهم بزخرف القول وما لهم من الجاه والطَول؛ وكونهم من بني جلدتهم ويكلمونهم بألسنتهم، وهم في الحقيقة دعاة على أبواب جهنم، يدعون الناس إلى خبيث الأفكار والاعتقادات ويزينون لهم قبيح المعاصي وعظيم المنكرات وسيء القول وفاحش الكلمات، فهم في الحقيقة من فتن الدنيا وعظيم البلاء (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) [محمد:31-33].
أيها المسلمون: إن الفتن لها من شياطين الإنس مرتزقة يحترفونها ويدعون الناس إليها، ويُدخلونها على الناس؛ إما من أبواب الشهوات، أو من أبواب الشبهات، وهي من أي باب تدخل على المرء، فغايتها إفساد الدين؛ ليصبح المرء من الخاسرين في الدارين.
فمن الناس من إذا وردت عليه الشبهة أو عرضت له أو دعي إلى شهوة - أخذته الغيرة على دينه، واسترخص في سبيل المحافظة على دنياه وسائر ما يهواه، والتجأ إلى ربه وسأله العصمة من الفتن بحوله تعالى وقوته، وأخذ بما شرع الله وقدره أسباباً للنجاة من الفتن، ووقاية من أخطار المصائب والمحن، فثبته الله على دينه، وزاده من هداه، وجعل له فرقاناً عند اشتباه الأمور؛ فلزم الطاعة، وصبر على المصيبة، واحتسب عند الله جزيل المثوبة وجميل العاقبة في العاجلة والآجلة.
قال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [التغابن:11] وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الأنفال:29] وقال تعالى: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال:46].
وقال سبحانه: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر:10] وقال سبحانه: (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ) [الزمر:17-18].
فيحفظهم الله ويحفظ لهم دينهم ودنياهم وأخراهم، ويحفظ بهم من شاء من عباده لما ثبتوا على الدين صابرين، وجاهدوا في الله مستيقنين؛ فإنه بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24].
ومن الناس من إذا عرضت له الشهوة أو أوردت عليه الشبهة آثر دنياه على دينه، وزال صبره وشك في يقينه؛ فاقتحم الشهوات، وتذرع بالشبهات، وسار خلف كل ناعق، واتبع كل أفاك ومنافق، فصار من الغاوين، وانضم إلى حزب الشيطان الخاسرين؛ فهلك بنفسه، وأهلك بعمى ضلالته سواه (وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) [النساء:107-108].
وغداً (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولا) [الفرقان:27-29].
وصدق الله العظيم إذ يقول أيضاً: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) [الزخرف:36-38].
وهكذا كل داع إلى فتنة يكون مع من أضلَّه (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) [الحشر:16-17].
أيها المسلمون: وإذا كانت الفتن تجلب على العبد خسارة الدنيا والآخرة؛ لأنها تفقده دينه، وتورثه غضب ربه، وشقاء العاجلة والآجلة، وإذا كان مرتزقة الفتن وسماسرة الباطل بين أظهرنا ومن بني جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ويدخلون علينا من بابي الشهوات أو الشبهات - فعلينا الحذر والجد في اتقاء الخطر، ولا حول ولا قوة إلا بالله قاهر المتجبرين، وعالم خائنة الخائنين، والذي وعد أنه مع الصادقين، ويحب الصابرين، ولا يضيع أجر المحسنين.
ومن الأسباب التي جعلها الله عصمة من المحن، ونجاة من الفتن - لزوم طاعة الله تعالى بفعل الفرائض والواجبات، وخصوصاً فرائض الصلوات مع الجماعات، وتكميلها بالنوافل والمستحبات؛ فإنها سبب لولاية الله وحفظه وتثبيته لعبده ومحبته، وحفظه له في حواسه وجوارحه، وإجابة دعوته، والإكثار من الزكوات والنفقات الواجبة والمستحبة؛ فإنها مكفرة للخطيئة، ومدفعة للبلاء، ومجلبة للنعماء، ورفعة للدرجات.
ومنها الإلحاح على الله بالدعاء (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران:8].
" اللهم مُقلِّبَ القلوب ثَبِّت قلوبنا على دينك، اللهم مُصَرِّفَ القلوب، صَرِّف قلوبنا على طاعتك" فإن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن.
ومنها لزوم جماعة المسلمين وإمامهم، والحرص على جمع كلمتهم وإشاعة الألفة بينهم، والإخلاص في نصيحتهم، والحذر من كل من يسعى لإحداث الفرقة والشقاق بينهم لتفريق كلمتهم وتحزيبهم ضد بعضهم.
وأما ما اشتبه من الأمور الواردة فإنه لا يحكم له أو عليه، ولا يقبل ولا يرد؛ حتى يتبين أمره بالرجوع بشأنه إلى أهل العلم بالكتاب والسنة، ومن يَلُونَ الأمر عملاً بقوله تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلّا قَلِيلا) [النساء:83].
فمن تكلم في المشتبه من الأمور بالظن اتباعاً للهوى ولم يرده إلى أولي الأمر فيه - فقد اتبع الشيطان، ومن اتبع الشيطان كان من الغاوين وأصبح من الخاسرين في الدارين.
ألا وإن مرتزقة الفتن لا يعرضون على الناس الباطل الخالص، ولا يرفضون أمام الناس الحق المبين، وإنما يلبسون عليهم الحق بالباطل؛ ليصدوا عن سبيل الله، ويبغونها عوجاً تحت ستار دعوى الإصلاح والتغيير والتجديد والتطوير. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال:24-25].
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات:180-182].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعاً بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم