البحث

عبارات مقترحة:

الله

أسماء الله الحسنى وصفاته أصل الإيمان، وهي نوع من أنواع التوحيد...

الحسيب

 (الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...

الحافظ

الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحافظ) اسمٌ...

لماذا منع الأعياد؟!

العربية

المؤلف إبراهيم بن محمد الحقيل
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب - الأديان والفرق
عناصر الخطبة
  1. لكل أمة أعيادها المكانية والزمانية .
  2. الأصل في الأعياد المنع والوقف .
  3. من وسائل الحفاظ على نقاء الإسلام .
  4. التحذير من التشبه بالكفار واتباع أهوائهم .
  5. وجوب اجتناب أعياد المشركين .
  6. حكم تهنئة النصارى بعيدهم ودلائلها .
  7. الأصول التاريخية لأعياد النصارى .

اقتباس

تَقَعُ هَذِهِ الْجُمْعَةُ المُبَارَكَةُ بَيْنَ أَكْبَرِ عِيدَيْنِ لِلنَّصَارَى، وَهُمَا: عِيدُ مِيلَادِ المَسِيحِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَعِيدُ رَأْسِ السَّنَةِ المِيلَادِيَّةِ، وَتَعُمُّ الِاحْتِفَالَاتُ بِهِمَا أَرْجَاءَ الْأَرْضِ، وَتُفْتَتَحُ الْبَرَامِجُ وَنَشَرَاتُ الْأَخْبَارِ بِالتَّهْنِئَةِ بِهِمَا، وَتُنْقَلُ شَعَائِرُ الِاحْتِفَالِ بِهِمَا لَحْظَةً بِلَحْظَةٍ فَتَصِلَ إِلَى الْعَالَمِ كُلِّهِ، وَلَا يَكَادُ يَسْلَمُ بَيْتٌ فِي الْأَرْضِ مِنْ وُصُولِ ذَلِكَ إِلَيْهِ، إِلَّا مَنْ حَصَّنَ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ وَوَلَدَهُ عَنْ ذَلِكَ. وَقَدْ يَسْتَغْرِبُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ هَذَا التَّشْدِيدَ فِي مَسْأَلَةِ الْأَعْيَادِ، وَمَنْعِهَا فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ مَعَ أَنَّهَا مُجَرَّدُ احْتِفَالَاتٍ حَسَبَ رُؤَاهُمْ. وَمَنْ قَرَأَ فِي تَارِيخِ الشَّعَائِرِ عَلِمَ كَيْفَ أَنَّهَا تَتَسَرَّبُ إِلَى النَّاسِ حَتَّى يَأْلَفُوهَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، ثُمَّ تَنْتَقِلُ إِلَيْهِمْ فَيَعْمَلُونَ بِهَا.

الخطبة الأولى:

(الحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا) [الكهف:1]، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا؛ خَصَّنَا بِأَفْضَلِ رَسُولٍ، وَأَكْمَلِ دِينٍ، وَأَحْسَنِ حَدِيثٍ، وَأَشْمَلِ شَرِيعَةٍ، وَجَعَلَنَا مِنْ خَيْرِ أُمَّةٍ، قَدِ اكْتَسَبَتْ خَيْرِيَّتَهَا بِإِيمَانِهَا، وَانْتِشَارِ الْحِسْبَةِ فِيهَا (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ) [آل عمران:110].

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ قَضَى بِبَقَاءِ الْإِسْلَامِ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ، فَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ، «يَدْعُونَ مَنْ ضَلَّ إلَى الْهُدَى، وَيَصْبِرُونَ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى، يُحْيُونَ بِكِتَابِ اللَّـهِ المَوْتَى، وَيُبَصِّرُونَ بِنُورِ اللَّـهِ أَهْلَ الْعَمَى... يَنْفُونَ عَنْ كِتَابِ اللَّـهِ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ المُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ الَّذِينَ عَقَدُوا أَلْوِيَةَ الْبِدْعَةِ، وَأَطْلَقُوا عَنَانَ الْفِتْنَةِ...».

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ صَاحِبُ المَقَامِ المَحْمُودِ، وَاللِّوَاءِ المَعْقُودِ، وَالْحَوْضِ المَوْرُودِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَمُشَفَّعٍ فِي الْحَشْرِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَطْرُقُ بَابَ الْجَنَّةِ فَيُفْتَحُ لَهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاسْتَمْسِكُوا بِدِينِكُمْ فَإِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، وَلَا تَغْتَرُّوا بِالدُّنْيَا؛ فَإِنَّ مَتَاعَهَا قَلِيلٌ، وَزَوَالَهَا سَرِيعٌ، وَإِنَّ الْحِسَابَ عَسِيرٌ «وَمَنْ نُوقِشَ الحِسَابَ هَلَكَ».

أَيُّهَا النَّاسُ: كُلُّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ لَهَا أَعْيَادُهَا الزَّمَانِيَّةُ وَالمَكَانِيَّةُ، وَلَهَا فِي أَعْيَادِهَا شَعَائِرُهَا وَأَعْمَالُهَا، وَتَحْتَفِلُ بِهَا بِحَسَبِ دِينِهَا أَوْ عَادَاتِهَا. وَأَكْثَرُ الْأُمَمِ -إِنْ لَمْ يَكُنْ كُلُّهَا- قَدِ اتَّخَذَتْ أَمَاكِنَ تُعَظِّمُهَا، وَأَزْمِنَةً تَخُصُّهَا بِالِاحْتِفَالِ فِيهَا، إِمَّا عَلَى وَجْهِ التَّعَبُّدِ؛ لِاعْتِقَادٍ فِي المَكَانِ أَوِ الزَّمَانِ المُعَظَّمِ عِنْدَهُمْ، وَإِمَّا لِحَدَثٍ وَقَعَ فِي ذَلِكُمُ المَكَانِ أَوِ الزَّمَانِ، وَإِمَّا لِعَادَةٍ تَوَارَثُوهَا وَلَا يَعْلَمُونَ سَبَبَهَا.

وَالتَّعْظِيمُ فِي الْإِسْلَامِ حَقٌّ لِلَّـهِ -تَعَالَى-، وَتَخْصِيصُ أَزْمِنَةٍ أَوْ أَمْكِنَةٍ بِأَعْمَالٍ تَعَبُّدِيَّةٍ لَيْسَ إِلَّا لِلَّـهِ -تَعَالَى-؛ فَهُوَ سُبْحَانَهُ خَالِقُ الزَّمَانِ وَالمَكَانِ، وَهُوَ -تَعَالَى- المُتَصَرِّفُ فِيهِمَا، المُدَبِّرُ لَهُمَا، فَيَشْرَعُ مَا يَشَاءُ مِنْ شَعَائِرِ التَّعَبُّدِ وَالتَّعْظِيمِ فِيهِمَا. وَمِنْ هُنَا كَانَتِ الْأَعْيَادُ عَلَى الْوَقْفِ، أَيْ: أَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا المَنْعُ، فَكُلُّ مَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ خُصَّ بِتَعْظِيمٍ أَوِ احْتِفَالٍ لِمَعْنًى فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَوِ المَكَانِ مُنِعَ مِنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ مِنَ الشَّرْعِ، وَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِلَا دَلِيلٍ فَقَدْ أَحْدَثَ فِي دِينِ اللَّـهِ -تَعَالَى- مَا لَيْسَ مِنْهُ.

وَالْقُرْآنُ الْكَرِيمُ جَاءَ فِيهِ اخْتِصَاصُ كُلِّ أُمَّةٍ بِأَعْيَادِهَا؛ تَنْبِيهًا لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يُحَافِظُوا عَلَى أَعْيَادِهِمْ، وَلَا يُشَارِكُوا غَيْرَهُمْ فِي أَعْيَادِهِمْ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ) [الحج: 67]، وَقَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ الْعِيدُ، فَلِكُلِّ أُمَّةٍ عِيدٌ يَحْتَفِلُونَ بِهِ. (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) [المائدة: 48]، وَالْأَعْيَادُ جُزْءٌ مِنَ الشِّرْعَةِ وَالمِنْهَاجِ، فَإِذَا كَانَتْ أُمَّةُ الْإِسْلَامِ مُخْتَصَّةً بِشِرْعَةٍ وَمِنْهَاجٍ أَنْزَلَهُ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى نَبِيِّهَا، وَلَا تَأْخُذُ مِنْ غَيْرِهَا شِرْعَةً وَلَا مِنْهَاجًا، كَانَتْ مُخْتَصَّةً بِأَعْيَادِهَا، وَلَا تُشَارِكُ الْأُمَمَ الْأُخْرَى فِي أَعْيَادِهَا، وَإِلَّا لمَا كَانَ لِذِكْرِ اخْتِصَاصِهَا بِمَنْسَكِهَا وَشِرْعَتِهَا وَمِنْهَاجِهَا أَيُّ فَائِدَةٍ.

وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْمَلُ عَلَى تَمَيُّزِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَنِ الْأُمَمِ الْأُخْرَى فِي شَرَائِعِهَا وَشَعَائِرِهَا، وَعِبَادَاتِهَا وَمَنَاسِكِهَا، وَيَمْنَعُ تَسَرُّبُ شَيْءٍ مِنْ عَادَاتِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ إِلَى المُسْلِمِينَ، وَيَحْرِصُ عَلَى مُخَالَفَةِ المُشْرِكِينَ، وَفِي آخِرِ حَيَاتِهِ حَرِصَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَكَثُرَتْ خِطَابَاتُهُ فِي هَذَا الشَّأْنِ، حَتَّى لَاحَظَ الْيَهُودُ ذَلِكَ فَقَالُوا: «مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

وَسَبَبُ هَذَا الْحِرْصِ النَّبَوِيِّ عَلَى حِيَاطَةِ دِينِ المُسْلِمِينَ بِسِيَاجٍ مَتِينٍ هُوَ لِأَجْلِ بَقَائِهِ كَمَا هُوَ نَقِيًّا لَمْ يَتَلَوَّثْ بِأَوْضَارِ الْآخَرِينَ، كَمَا قَدْ تَكَفَّلَ اللهُ -تَعَالَى- بِحِفْظِ الدِّينِ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9].

وَمِنْ سُنَّةِ اللَّـهِ -تَعَالَى- فِي خَلْقِهِ أَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- حِينَ يَأْذَنُ بِشَيْءٍ يَجْعَلُ لَهُ أَسْبَابًا يَعْمَلُهَا النَّاسُ. فَلَمَّا تَأَذَّنَ بِحِفْظِ الْإِسْلَامِ دَلَّ المُسْلِمِينَ عَلَى وَسَائِلِ حِفْظِهِ الَّتِي هِيَ: الدَّعْوَةُ إِلَى الدِّينِ الصَّحِيحِ لِيُنْشَرَ فِي الْأَرْضِ فَيَمْتَنِعُ مَحْوُهُ أَوْ تَحْرِيفُهُ أَوْ إِبْدَالُ غَيْرِهِ بِهِ. مَعَ مَنْعِ الْإِحْدَاثِ فِي الدِّينِ، وَالتَّشْدِيدِ فِيهِ؛ حَتَّى كَانَتِ الْبِدْعَةُ أَغْلَظَ مِنَ المَعْصِيَةِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ الْبِدْعَةَ أَخْطَرُ عَلَى الدِّينِ؛ فَالْعَاصِي يَعْلَمُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ، وَالمُبْتَدِعُ يَظُنُّ أَنَّهُ مُتَقَرِّبٌ، وَالمَعْصِيَةُ تَنْشَأُ عَنِ الشَّهْوَةِ، وَالْبِدْعَةُ تَنْتِجُ عَنِ الشُّبْهَةِ، وَالشُّبْهَةُ أَشَدُّ فَتْكًا بِالْقَلْبِ مِنَ الشَّهْوَةِ، وَإِنْ كَانَ كِلَاهُمَا شَرًّا.

وَلمَّا كَانَتِ الْأُمَمُ يَخْتَلِطُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ فَيَتَسَرَّبُ مَعَ الخُلْطَةِ شَيْءٌ مِنَ الْعَادَاتِ وَالْعِبَادَاتِ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ أَوْصَدَ هَذَا الْبَابَ بِمَنْعِ التَّشَبُّهِ بِالْكُفَّارِ، وَالتَّشْدِيدِ فِيهِ حَتَّى خَاطَبَ اللهُ -تَعَالَى- نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [الجاثية: 18]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) [البقرة: 145]، وَكُرِّرَ هَذَا المَعْنَى فِي الْقُرْآنِ عَشْرَ مَرَّاتٍ.

فَكُلُّ هَذَا التَّكْثِيفِ الْقُرْآنِيِّ فِي مَنْعِ التَّشَبُّهِ بِالْكُفَّارِ وَاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ مَا هُوَ إِلَّا لِأَجْلِ أَنْ لَا تَتَسَرَّبَ شَعَائِرُ الْكُفْرِ وَمَنَاسِكُهُ لِلْمُسْلِمِينَ فَتُصْبِحَ مِنْ عَادَاتِهِمْ أَوْ عِبَادَاتِهِمْ؛ وَلِذَا شَدَّدَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي مَسْأَلَةِ التَّشَبُّهِ، فَجَعَلَ المُتَشَبِّهَ بِالْكُفَّارِ مِنْهُمْ، فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ).

وَكُلَّمَا كَانَ التَّشَبُّهُ أَظْهَرَ كَانَ عَلَى الدِّينِ أَخْطَرَ، وَإِذَا كَانَ التَّشَبُّهُ فِي شَعِيرَةٍ كَبِيرَةً كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَظِيمَةً؛ فَلَيْسَ مَنْ تَشَبَّهَ بِهِمْ فِي شَيْءٍ لَا يَظْهَرُ وَلَا يُعْلَمُ عَنْهُ كَمَنْ تَشَبَّهَ بِهِمْ فِيمَا هُوَ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ، وَالظُّهُورُ دَرَجَاتٌ كَمَا أَنَّ المُجَاهَرَةَ بِالْإِثْمِ دَرَجَاتٌ، وَمُشَارَكَةُ الْكُفَّارِ فِي أَعْيَادِهِمْ أَوْ إِظْهَارُ الْفَرَحِ بِهَا هُوَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الظُّهُورِ، وَآخِرُ مَرَاحِلِ المُجَاهَرَةِ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَادَ هِيَ أَظْهَرُ الشَّعَائِرِ عِنْدَ الْأُمَمِ.

وَقَدْ ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «أَنَّ مِنْ أَصْلِ دُرُوسِ دِينِ اللَّـهِ وَشَرَائِعِهِ، وَظُهُورِ الْكُفْرِ وَالمَعَاصِي: التَّشَبُّهَ بِالْكَافِرِينَ، كَمَا أَنَّ مِنْ أَصْلِ كُلِّ خَيْرٍ: المُحَافَظَةَ عَلَى سُنَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَشَرَائِعِهِمْ؛ وَلِهَذَا عَظُمَ وَقْعُ الْبِدَعِ فِي الدِّينِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَشَبُّهٌ بِالْكُفَّارِ، فَكَيْفَ إِذَا جَمَعَتِ الْوَصْفَيْنِ؟»اهـ.

وَالمُلَاحِظُ فِي خِطَابَاتِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَنِ الْأَعْيَادِ أَنَّهُ يُرَكِّزُ عَلَى مَسْأَلَةِ اخْتِصَاصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَعْيَادِهَا، وَاخْتِصَاصِ الْأُمَمِ الْأُخْرَى بِأَعْيَادِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ...». وَمَعْنَى هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ: أَنَّ المُسْلِمِينَ يَخْتَصُّونَ بِأَعْيَادِهِمْ، وَلَا يُشَارِكُونَ غَيْرَهُمْ فِي أَعْيَادِهِمْ، وَإِلَّا لمَا كَانَ لِذِكْرِ هَذَا الِاخْتِصَاصِ فَائِدَةٌ.

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْإِبْدَالِ، فَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْفِطْرِ، وَيَوْمَ النَّحْرِ» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ). وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالمُبْدَلِ، وَإِلَّا لَكَانَ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِسُنَّةِ اللَّـهِ -تَعَالَى- الشَّرْعِيَّةِ فِي الْإِبْدَالِ.

وَلِعِلْمِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- بِالتَّشْدِيدِ الشَّرْعِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الْأَعْيَادِ فَإِنَّهُمْ مَا كَانُوا يُشَارِكُونَ الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى وَلَا المَجُوسَ فِي أَعْيَادِهِمْ فِي كُلِّ الْبُلْدَانِ الَّتِي فَتَحُوهَا، مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعِيشُونَ بَيْنَهُمْ وَيُخَالِطُونَهُمْ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ، وَيَسْتَعْمِلُونَهُمْ فِي حَاجَاتِهِمْ، وَيُحْسِنُ الْجَارُ مِنْهُمْ إِلَى جَارِهِ، وَيَعُودُهُ إِذَا مَرِضَ، وَيُعِينُهُ إِذَا احْتَاجَ، وَيُحْسِنُ إِلَيْهِ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ -تَعَالَى- بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْجِيرَانِ وَرَحْمَةِ الضُّعَفَاءِ.

وَإِطْبَاقُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عَلَى اجْتِنَابِ الْكُفَّارِ فِي أَعْيَادِهِمْ يَدُلُّ عَلَى خُطُورَةِ هَذَا الْأَمْرِ وَالتَّشْدِيدِ فِيهِ. حَتَّى شَرَطَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَلَى النَّصَارَى أَنْ لَا يُظْهِرُوا شَيْئًا مِنْ أَعْيَادِهِمْ، وَلَا يَحْتَفِلُوا بِهَا إِلَّا دَاخِلَ كَنَائِسِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ. وَهَذَا مِنْ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُخَالِفُوا عُمَرَ فِيمَا اشْتَرَطَهُ عَلَى النَّصَارَى.

فَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ وَالْعُلَمَاءُ بَعْدَهُمْ عَلَى وُجُوبِ اجْتِنَابِ أَعْيَادِ الْكُفَّارِ، وَتَحْرِيمِ مُشَارَكَتِهِمْ فِيهَا، أَوِ التَّشَبُّهِ بِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ شَعَائِرِهَا، أَوْ نَقْلِهَا إِلَى بِلَادِ المُسْلِمِينَ، أَوْ إِظْهَارِ الْفَرَحِ فِيهَا، أَوْ تَهْنِئَتِهِمْ بِهَا.

وَذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: أَنَّ مَنْ هَنَّأَهُمْ بِعِيدِهِمْ كَانَ كَمَنْ هَنَّأَهُمْ بِالسُّجُودِ لِصُلْبَانِهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ تَهْنِئَةِ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ بِكَبَائِرِهِمْ، فَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ تَهْنِئَةِ شَارِبِ الْخَمْرِ بِشُرْبِهَا، وَأَعْظَمُ مِنْ تَهْنِئَةِ الْقَاتِلِ بِالْقَتْلِ، وَأَعْظَمُ مِنْ تَهْنِئَةِ الزَّانِي بِالزِّنَا.

وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ الْعِيدَ شَعِيرَةٌ، وَمَا فِيهِ مِنْ مَظَاهِرِ الِاحْتِفَالِ هِيَ شَعَائِرُ الْعِيدِ، فَكَانَتِ التَّهْنِئَةُ بِالْعِيدِ تَهْنِئَةً بِشَعَائِرِ الْكُفْرِ، وَذَلِكَ أَعْظَمُ مِنَ التَّهْنِئَةِ بِالْكَبَائِرِ الَّتِي لَا تَصِلُ إِلَى حَدِّ الْكُفْرِ.

نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يَحْفَظَنَا وَالمُسْلِمِينَ مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ، وَأَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى دِينِهِ إِلَى أَنْ نَلْقَاهُ، وَأَنْ يُظْهِرَ دِينَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَعَظِّمُوا أَمْرَهُ فَلَا تَعْصُوهُ، وَلَا تَزِيدُوا شَيْئًا فِي دِينِهِ فَتَضِلُّوا (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلَاغُ المُبِينُ) [المائدة: 92].

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: تَقَعُ هَذِهِ الْجُمْعَةُ المُبَارَكَةُ بَيْنَ أَكْبَرِ عِيدَيْنِ لِلنَّصَارَى، وَهُمَا: عِيدُ مِيلَادِ المَسِيحِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَعِيدُ رَأْسِ السَّنَةِ المِيلَادِيَّةِ، وَتَعُمُّ الِاحْتِفَالَاتُ بِهِمَا أَرْجَاءَ الْأَرْضِ، وَتُفْتَتَحُ الْبَرَامِجُ وَنَشَرَاتُ الْأَخْبَارِ بِالتَّهْنِئَةِ بِهِمَا، وَتُنْقَلُ شَعَائِرُ الِاحْتِفَالِ بِهِمَا لَحْظَةً بِلَحْظَةٍ فَتَصِلَ إِلَى الْعَالَمِ كُلِّهِ، وَلَا يَكَادُ يَسْلَمُ بَيْتٌ فِي الْأَرْضِ مِنْ وُصُولِ ذَلِكَ إِلَيْهِ، إِلَّا مَنْ حَصَّنَ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ وَوَلَدَهُ عَنْ ذَلِكَ.

وَقَدْ يَسْتَغْرِبُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ هَذَا التَّشْدِيدَ فِي مَسْأَلَةِ الْأَعْيَادِ، وَمَنْعِهَا فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ مَعَ أَنَّهَا مُجَرَّدُ احْتِفَالَاتٍ حَسَبَ رُؤَاهُمْ. وَمَنْ قَرَأَ فِي تَارِيخِ الشَّعَائِرِ عَلِمَ كَيْفَ أَنَّهَا تَتَسَرَّبُ إِلَى النَّاسِ حَتَّى يَأْلَفُوهَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، ثُمَّ تَنْتَقِلُ إِلَيْهِمْ فَيَعْمَلُونَ بِهَا.

وَمِنْ أَقْرَبِ الْأَمْثِلَةِ عَلَى ذَلِكَ: هَذَانِ الْعِيدَانِ الْكَبِيرَانِ عِنْدَ النَّصَارَى؛ فَإِنَّ النَّصَارَى مُجْمِعُونَ عَلَى الِاحْتِفَالِ بِهِمَا مَعَ أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ دِينِ المَسِيحِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَالْكِريسْمِسُ الَّذِي هُوَ عِيدُ مَوْلِدِ المَسِيحِ نَقَلَهُ النَّصَارَى إِلَى دِينِهِمْ مِنْ دِينِ الرُّومَانِ الْوَثَنِيِّ، وَكَانَ فِي أَصْلِهِ عِيدًا لِلشَّمْسِ عِنْدَهُمْ، فَلَمَّا اعْتَنَقَ الرُّومَانُ النَّصْرَانِيَّةَ؛ جَامَلَهُمْ رُهْبَانُ النَّصَارَى فَأَبْقَوْا عَلَى عِيدِ الشَّمْسِ فِي مَوْعِدِهِ، وَأَدْخَلُوهُ فِي دِينِ المَسِيحِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- زَاعِمِينَ أَنَّ المَسِيحَ وُلِدَ فِي يَوْمِهِ، مَعَ أَنَّ المَسِيحَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وُلِدَ فِي فَصْلِ الصَّيْفِ لَا فِي فَصْلِ الشِّتَاءِ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ فِي قِصَّةِ أُمِّهِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ، وَهَزِّهَا بِجِذْعِ النَّخْلَةِ لِتُسَاقِطَ عَلَيْهَا رُطَبًا جَنِيًّا، وَالنَّخْلُ يُثْمِرُ فِي الصَّيْفِ لَا فِي الشِّتَاءِ.

وَأَمَّا عِيدُ رَأْسِ السَّنَةِ فَكَانَ مِنْ أَعْيَادِ الْيُونَانِ وَالرُّومَانِ لِآلِهَةٍ عِنْدَهُمْ جَعَلُوهَا رَمْزَ الْقُوَّةِ، فَلَمَّا دَخَلَ الرُّومَانُ فِي النَّصْرَانِيَّةِ أَبْقَوْا هَذَا الْعِيدَ وَجَعَلُوهُ مُنَاسَبَةً لِختَانِ المَسِيحِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ لِأَنَّهُ خُتِنَ فِيهِ حَسَبَ زَعْمِهِمْ. ثُمَّ غَلَبَتْ عَلَيْهِ تَسْمِيَتُهُ بِوَقْتِهِ وَهُوَ رَأْسُ السَّنَةِ. وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ أَنَّ النَّصَارَى الَّذِين جَعَلُوا لِختَانِ المَسِيحِ عِيدًا لَا يُخْتَنُونَ.

وَالْأُصُولُ الْوَثَنِيَّةُ لِهَذَيْنِ الْعِيدَيْنِ الْكَبِيرَيْنِ عِنْدَ النَّصَارَى قَدْ أَثْبَتَهَا عَدَدٌ مِنَ الْبَاحِثِينَ النَّصَارَى فِي أُصُولِ المُعْتَقَدَاتِ وَتَوَارِيخِهَا. وَالنَّصَارَى قَدِ اكْتَمَل تَغْيِيرُهُمْ لِدِينِ المَسِيحِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَإِبْدَالُ الشَّعَائِرِ الْوَثَنِيَّةِ بِهِ بَعْدَ رَفْعِ المَسِيحِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِثَلَاثَةِ قُرُونٍ فَقَطْ، بَيْنَمَا بَقِيَ الْإِسْلَامُ غَضًّا طَرِيًّا كَمَا أُنْزِلَ، وَنَحْنُ نَعِيشُ فِي قَرْنِهِ الْخَامِسَ عَشَرَ، وَالْفَضْلُ لِلَّـهِ -تَعَالَى- الَّذِي قَضَى بِذَلِكَ قَدَرًا، وَهَيَّأَ أَسْبَابَهُ الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي مِنْهَا: مَنْعُ الِابْتِدَاعِ وَمَنْعُ التَّشَبُّهِ؛ لِيُحَصَّنَ المُسْلِمُونَ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي دِينِهِمْ أَوْ نَقْصِهِ.

فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ مِنَ التَّهْوِيلِ: التَّحْذِيرَ مِنِ ابْتِدَاعِ أَعْيَادٍ، وَالتَّحْذِيرَ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالْكُفَّارِ فِي أَعْيَادِهِمْ، فَإِنَّمَا مَبْنَى ظَنِّهِ عَلَى الْجَهْلِ أَوِ الْهَوَى، فَمَا تَغَيَّرَ دِينُ النَّصَارَى مِنَ التَّوْحِيدِ إِلَى التَّثْلِيثِ، وَمِنَ الشَّعَائِرِ الرَّبَّانِيَّةِ إِلَى الشَّعَائِرِ الْوَثَنِيَّةِ إِلَّا لِأَنَّ رُهْبَانَهُمْ وَحُرَّاسَ دِينِهِمْ تَسَامَحُوا فِي مَسْأَلَتَيِ الِابْتِدَاعِ وَالتَّشَبُّهِ، حَتَّى اضْمَحَلَّ الْحَقُّ مِنْ دِينِهِمْ وَامْتَلَأَ بِالْبَاطِلِ.

وَكَثْرَةُ المُشَارِكِينَ فِي الْبَاطِلِ وَالْفَرِحِينَ بِهِ لَا تُحِيلُ الْبَاطِلَ إِلَى حَقٍّ، وَلَا تُهَوِّنُ مِنْ شَنَاعَةِ الْبِدْعَةِ، وَلَا تَجْعَلُ كَبَائِرَ الذُّنُوبِ صَغَائِرَ (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [الأنعام:116].

وَالَّذِينَ أَلِفَتْ أَسْمَاعُهُمْ سَمَاعَ الِاسْتِغَاثَةِ بِغَيْرِ اللَّـهِ -تَعَالَى-، وَأَلِفَتْ أَعْيُنُهُمْ مُشَاهَدَةَ الطَّوَافِ حَوْلَ الْقُبُورِ لَا يَسْتَعْظِمُونَ ذَلِكَ وَهُوَ شِرْكٌ؛ فَالْعِبْرَةُ بِالشَّرْعِ لَا بِمَا أَلِفَ النَّاسُ وَاعْتَادُوا. (وَإِذَا قِيلَ لهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) [المائدة: 104].

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...