العربية
المؤلف | عبد الله بن محمد الطيار |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
فتأمَّلوا نعم الله على عباده التي لا تعد ولا تحصى؛ فلقد دخل علينا فصل الشتاء، وهو فصل على الرغم من شدته وقسوته إلا أنه يحوي الكثير من الخيرات، والمنح الربانية، والحديث عن الشتاء حديث ذو شجون؛ فهو بستان الطاعة، وميدان العبادة، وفيه تنزل البركات وتنشر الرحمات...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ورضي الله عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وراقبوه في السر والنجوى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].
عباد الله: إن من الأمور النافعة التي تجلب الخير وعظيم الأثر في حياة العبد التفكرّ في آيات الله، وعجائب مخلوقاته؛ فإن ذلك يزيد الإيمان ويقوي اليقين، ويُعْظمُ الصّلة بالله -جل وعلا-: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران:١٩٠-١٩١].
ومن آيات الله الباهرات في هذا الكون العظيم اختلافُ الأحوال، وتقلب الليل والنهار، وتعاقب الحرّ والبرد، والصيف والشتاء، والربيع والخريف، ولله الحكمة البالغة في شأنه وتدبيره.
فتأمَّلوا -أيها المؤمنون- نعم الله على عباده التي لا تعد ولا تحصى؛ فلقد دخل علينا فصل الشتاء، وهو فصل على الرغم من شدته وقسوته إلا أنه يحوي الكثير من الخيرات، والمنح الربانية، والحديث عن الشتاء حديث ذو شجون؛ فهو بستان الطاعة، وميدان العبادة، وفيه تنزل البركات وتنشر الرحمات من رب العالمين، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِى يُنَزّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِىُّ الْحَمِيدُ) [الشورى: 28].
وقد ذكر الله الشتاء في كتابه في قوله تعالى: (رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ) [قريش:2].
ويتميز فصل الشتاء بقصر النهار وطول الليل، وكثرة الضباب وتكاثف السحاب، واشتداد الهواء وبرودة الجو، وكثرة الصواعق ونزول الأمطار بإذن الله، وتساقط أوراق الشجر ونقص الثمار، وانحباس الدواب في جحورها وتجمد المياه، وقلة الحركة إلى غير ذلك من الآيات.
ولقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- يعتنون بالشتاء ويفرحون بقدومه ويحثون الناس على اغتنامه؛ فها هو عمر -رضي الله عنه- كان يتعاهد رعيته إذا جاء الشتاء ويوصيهم بالاستعداد له، فيقول لهم: "إن الشتاء قد حضر وهو عدو، فتأهبوا له أهبته من الصوف والخفاف والجوارب، سريعٌ دخوله، بعيدٌ خروجه".
وكان علي -رضي الله عنه- يقول: "اتقوا الشتاء في أوله، وتعرضوا له في آخره، يفعل بالأجساد كما يفعل بالأشجار؛ أوله محرق، وآخره مورق".
عباد الله: إن فصل الشتاء يحوي الكثير من المواعظ ولذا سنقف بعض الوقفات حول ذلك فنقول:
* شدة برد الدنيا يذكر بزمهرير جهنم؛ فهذا البرد الذي نعاني منه في بعض الأحيان ونتمنى سرعة ذهابه إنما هو نَفسٌ من أنفاس النار، وجزءٌ من عذابها وزمهريرها؛ فإن الله تعالى يعذب أهل النار بالبرد كما يعذبهم بالحر؛ فمهما اشتد البرد أو الحر على العبد في هذه الحياة وقاسى منه وتألم؛ فإن ذلك لا يعدو أن يكون نفساً واحداً من أنفاس النار والعياذ بالله.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اشتكت النّار إلى ربّها فقالت: يا رب. أكل بعضي بعضاً فجعل لها نفسين؛ نفسٌ في الشتاء ونفسٌ في الصيف، فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها وشدة ما تجدون من الحر من سمومها"؛ فعلينا أن نتذكر ونحن نفرُّ من برد الدنيا ونتقيه، ونستعد له بما نجد من ملابس ووسائل تدفئة أن نتذكر زمهرير جهنم الذي لا واقي منه إلا التقوى والعمل الصالح بعد رحمة الله وفضله.
* ومن العظات أيضاً: الصواعق والمطر والبرد والرعد والبرق؛ فكل هذه الآيات نراها بأعيننا ونسمعها بآذاننا وترتجف قلوبنا خوفاً وهلعاً من شدتها وقسوتها، يقول الله -جل وعلا-: (أًلَمَ تَرَ أَنَ اللهَ يُزجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَينَهُ ثُمَّ يَجعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الوَدقَ يَخرُجُ مِن خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنَ يَشَاءُ وَيَصرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرقِهِ يَذهَبُ بِالأَبصَارِ) [النور:43]. وقال تعالى: (وَيُرسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُم يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ المِحَالِ) [الرعد:13].
وروى الترمذي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: أقبلت يهود إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقالوا: يا أبا القاسم أخبرنا عن الرعد، ما هو؟ قال: "ملك من الملائكة موكل بالسحاب، معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله. فقالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر. قالوا: صدقت (صححه الألباني).
* ومن العظات أيضاً: أن الشتاء غنيمة العابدين؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما حث أصحابه على اغتنامه فقال: "الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة" (رواه أحمد، وحسنه الألباني).
وكان عمر رضي الله عنه يقول: "الشتاء غنيمة العابدين ".
وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: "مرحبًا بالشتاء، تنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام".
وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "نعم زمان المؤمن الشتاء ليله طويل يقومه، ونهاره قصير يصومه"، ولقد كان المجتهدون يبكون على التفريط -إن فرطوا- في ليالي الشتاء بعدم القيام، وفي نهاره بعدم الصيام.
* ومن العظات أيضاً: فرح النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمطر عند نزوله: فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يفرح حين نزول المطر، ويستبشر الخير منه؛ لأنه يعلم أنه غيث يغيث الله به أهل الأرض بعد أن أصابهم القحط والوهن، وكان -صلى الله عليه وسلم- يحسر عن رأسه حتى يصيبها غيث السماء الطاهر؛ فعن أنس -رضي الله عنه- قال: "أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَطَرٌ، قَالَ: فَحَسَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثَوْبَهُ حَتَّى أَصَابَهُ مِنْ الْمَطَرِ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا، قَالَ: "لِأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ تَعَالَى" (رواه مسلم). وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى المطر يقول: "اللهم صيباً نافعاً" (رواه البخاري). وبعد نزوله يقول: "مُطرنا بفضل الله ورحمته" (رواه البخاري ومسلم).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [فصلت:39].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن الحياة الطيبة لا تكون إلا بتقواه والعمل بما يرضيه.
عباد الله: ومن مواعظ الشتاء أيضاً:
* مواساةُ الفقراء والمساكين: فإن مما يؤمر به المسلمون في فصل الشتاء وغيره مواساةَ الفقراء والمساكين بما يدفع عنهم البَردَ، وفي ذلك فضل عظيم وثواب جزيل؛ فقد روى الترمذي من حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- مرفوعًا: "من أطعم مؤمنًا على جوع، أطعمه الله يوم القيامة من ثمار الجنة، ومن سقاه على ظمأ، سقاه الله من الرحيق المختوم، ومَن كساه على عري، كساه الله من خضر الجنة"؛ أي: من حلل الجنة الخضراء؛ فلا تبخلوا على أنفسكم في شراء ما يحتاجه الفقراء من كسوة تخفف عنهم برد الشتاء وشدته لا سيما وأنتم تعرفون أحوال إخوة لكم في طول البلاد الإسلامية وعرضها ممن مستهم الحاجة ووقع عليهم الظلم بشتى صوره، وتسلط عليهم الطغاة؛ فلا مأوى لهم، ولا طعام ولا شراب ولا كساء، وأحوالهم في الشتاء تزداد سوءاً؛ فإذا تلحفتم بما يدفئكم في الليل البارد فاذكروهم وجودوا لهم من فضول أموالكم.
* ومن المواعظ أيضاً: الصبر على الطاعات وتحمل الأذى في سبيل الله؛ لأن في فصل الشتاء يشتد البرد، وتصعب الطاعة، ويكثر الكسل، وتميل النفس إلى الدعة والراحة؛ فالذي يتذكر نعيم الجنة، وعظم ما فيها، ومن صبَّر نفسه على طاعة الله، وجاهدها حصَّل خيرا كثيراً؛ فالصبر دليل على محبة الله تعالى، وقوة الإيمان، والحرص على رضا الرحمن.. ومن صبر قليلاً فاز كثيراً. يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟! إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط" (رواه مسلم).
* ومن المواعظ السبق إلى الخيرات باغتنام الأوقات؛ كصيام النهار لقصره، وقيام الليل لطوله، والإكثار من الذكر وقراءة القرآن وحضور مجالس العلم، والدعوة إلى الله.
أسأل الله تعالى أن يبارك لنا في أعمارنا، وأن يعيننا على كل عمل صالح يرضيه عنا، وأن يوفقنا وإياكم للتزود للدار الآخرة إنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال -جل من قائل عليماً-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: ٥٦].