الجبار
الجَبْرُ في اللغة عكسُ الكسرِ، وهو التسويةُ، والإجبار القهر،...
العربية
المؤلف | خالد القرعاوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه - التاريخ وتقويم البلدان |
قَصَصُ القُرآنِ الكَرِيمِ أَحْسَنُ القَصَصِ وَأَصْدَقُها وَأَبْلَغُها وَأَنْفَعُها لِلعِبَادِ والبِلادِ لِمَا لَهَا مِنْ نُبْلِ الغَايةِ وَجَمِيلِ الأَثَرِ على الدِّينِ وَالنَّفسِ وَالمُجتَمَعِ!.. وَإنَّنا بَينَ يَدَيْ قِصَّةِ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَانُوا يَسْكُنُونَ عَلى سَاحِلِ بَحْرٍ مَليءٍ بِالأَسْمَاكِ وَالصَّيدِ والنِّعَمِ، كَانَ أَهْلُ القَرْيَةِ مِنْ اليَهُودِ، وَيَعبُدُونَ اللهَ -تَعَالَى- عَلى شَرِيعَةِ وَدِينِ مُوسَى -عَلَيهِ السَّلامُ-، وَكَانَ عَمَلُهُمُ الذِي يَتَكَسَّبُونَ مِنْهُ هُوَ صَيدُ الحِيتَانِ، فَكَانُوا يَخْرُجُونَ لِلصَّيدِ كُلَّ يَومٍ إلاَّ يَومَ السَّبْتِ! لأنَّهُم قَدْ عَظَّمُوهُ وَجَعَلُوهُ خَيرَ أَيَّامِ الأُسْبُوعِ، فَشَرِيعَتُهُم فِي التَّورَاةِ تُحَرِّمُ عَلَيهمُ العَمَلَ فِيهِ!
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ قَصَّ عَلينا ما هُوَ عِبرةٌ لِأُولي الأَلبَابِ، نَشهدُ ألاَّ إلهَ إلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ بِلا ارْتِيَابٍ وَنَشهَدُ أَنَّ نَبِيَّنا مُحمَّدًا عَبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، بَعَثَهُ اللهُ بِأكْمَلِ الأخلاقِ والآدَابِ، اللَّهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَليهِ، وعلى جَمِيعِ الآلِ والأَصحَابِ والتَّابِعِينَ لَهمْ بِإحسَانٍ وإيمَانٍ إلى يَومِ المآبِ.
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ حَقَّ التَّقوى، وَأَعِدِّوا لِيومِ المَعَادِ عُدَّتهُ، ولا تَغُرَّنَّكمُ الحَيَاةُ الدُّنْيا.
أَيَّها المُسلِمُونَ: قَصَصُ القُرآنِ الكَرِيمِ أَحْسَنُ القَصَصِ وَأَصْدَقُها وَأَبْلَغُها وَأَنْفَعُها لِلعِبَادِ والبِلادِ لِمَا لَهَا مِنْ نُبْلِ الغَايةِ وَجَمِيلِ الأَثَرِ على الدِّينِ وَالنَّفسِ وَالمُجتَمَعِ! فلَقَدْ ضَرَبَ اللهُ الأَمْثَالَ فِي القُرَآنِ وَجَعَلَ لِذلِكَ هَدَفاً فَقَالَ جَلَّ وعَلا: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).
أيُّها المُؤْمِنُونَ: وَإنَّنا بَينَ يَدَيْ قِصَّةِ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَانُوا يَسْكُنُونَ عَلى سَاحِلِ بَحْرٍ مَليءٍ بِالأَسْمَاكِ وَالصَّيدِ والنِّعَمِ، كَانَ أَهْلُ القَرْيَةِ مِنْ اليَهُودِ، وَيَعبُدُونَ اللهَ -تَعَالَى- عَلى شَرِيعَةِ وَدِينِ مُوسَى -عَلَيهِ السَّلامُ-، وَكَانَ عَمَلُهُمُ الذِي يَتَكَسَّبُونَ مِنْهُ هُوَ صَيدُ الحِيتَانِ، فَكَانُوا يَخْرُجُونَ لِلصَّيدِ كُلَّ يَومٍ إلاَّ يَومَ السَّبْتِ! لأنَّهُم قَدْ عَظَّمُوهُ وَجَعَلُوهُ خَيرَ أَيَّامِ الأُسْبُوعِ، فَشَرِيعَتُهُم فِي التَّورَاةِ تُحَرِّمُ عَلَيهمُ العَمَلَ فِيهِ!
وَكَانُوا بِدَايَةَ الأَمْرِ يَلْتَزِمُونَ بِشَرِيعَتِهِم وَتَعَالِيمِهِمْ! فَمُجْتَمَعُهُمْ آنَذَاكَ خَلِيطٌ مِنْ العُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَالفَاسِدِينَ وَالمُفْسِدِينَ!
أَتْرُكُكُمْ يَا رَعَاكُمُ اللهُ: مَعَ الآياتِ وَهِيَ تَحْكِيْ خَبَرَهُم، قَالَ تَعَالَى: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [الأعراف: 163].
هَكَذَا ابتَلاهُمُ اللهُ تَعَالى: إذا كَانَ يَومُ السَّبْتِ الذي يَرْتَاحُونَ فِيهِ، وَيَتَفَرَّغُونَ فِيهِ لِلْعِبَادَةِ، وَيَومٌ حُرِّمَ عَلَيهمُ الصَّيدُ فِيهْ! تَأتِي الحِيتَانُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ! فَتَكْثُرُ وَتَقْرُبُ حَتَّى يَرَونَهَا طَافِيَةً عَلى المَاءِ قَرِيبَةً مِنْ السَّاحِلِ، وَفِي مُتَنَاوَلِ أيْدِيهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنْ هَذَا!
فَإِذَا انْقَضَى يَومُ السَّبْتِ اخْتَفَتِ الحِيتَانُ والأسْمَاكُ تَمَامَاً، إِلى السَّبْتِ الآخَرِ فَتَعُودُ مَرَّةً أُخْرَى! سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ! لِمَ كُلُّ هَذا التَّعْذِيبِ والابْتِلاءِ والامْتِحَانِ؟ وَما الحِكْمَةُ مِنْ ذلِكَ؟! قَالَ اللهُ: (كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [الأعراف: 163].
نَعَمْ بِسَبَبِ فِسْقِهِمُ، وَفُجُورِهِمُ الْمُسْتَمِرِّ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، وَاعْتِدَائِهِمْ حُدُودَ شَرْعِهِ. أَرَادَ اللهُ أنْ يَبْتَلِيَهُمُ. فَلَيسَ عَبَثًا مِن اللهِ –سُبْحَانَهُ-، وَلا لِأَجْلِ التَّضْيِيقِ عَلَيهِم، وَلَكِنَّهُمُ كَانُوا يَستَحِقُّونَ مِثْلَ هَذِهِ المُعَامَلَةِ! عِظَةً لَهُم وَعِبْرَةً لِغيرِهمْ.
عِبَادَ اللهِ: هَكَذا بَعْضُ الأَشْخَاصِ وَبَعضُ المُجْتَمَعاتِ تَجَرُّ عَلى نَفْسِهَا البَلاءَ جَرَّاً بِبُعْدِها عَنْ شَرْعِ رَبِّهَا أو العَبَثِ بِتَعَالِيمِهِ أو تَهْمِيشِ شَعَائِرِهِ! فَيَحصُلُ لَهُمُ النَّكَدُ وَالضِّيقُ وَكَثْرَةُ الفِتَنِ. وَلَو أَنَّهُم آمَنُوا بِرَبِّهِم وَاتَّقَوْهُ، لَيَسَّرَ اللهُ أُمُورَهُم، وَسَاقَ لَهُمُ الرِّزْقَ، وَكَفَاهُمْ شَرَّ الفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْها وَمَا بَطَنَ: (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر: 43].
ظَلَّتِ القَرْيَةُ أَيَّامًا وَأَسَابِيعَ عَلى هَذَا الحَالِ، لا يَجِدُونَ صَيدْا، وَنُفُوسُهُم وَأَرْزَاقُهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ فِيها! حَتَّى وَسْوَسَ الشَّيطَانُ الرَّجِيمُ لِأَحَدِهِمْ بِحِيلَةٍ مَاكِرَةٍ، فَكَانَ يَأتِي يَومَ الجُمُعَةِ فَيحَفِرُ بِجَانِبِ الشَّاطِئِ حُفْرَةً عَمِيقَةً، وَيَضَعُ شِبَاكَهُ وَأَحْبُلَهُ فِيهَا فَتَمْسِكُ الأَسْمَاكَ يَومَ السَّبْتِ وَتَصِيدُها! فَيَأتِي يَومَ الأَحَدِ وَيَأْخُذُ حَصِيلَةَ السَّبْتِ! وَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ شَيئًا!
تَسَامَعَ النَّاسُ أَنَّ فُلانًا قَدْ صَارَ يَأْكُلُ سَمَكًا! فَصَاروا يَسْأَلُونَهُ كَيفَ حَصَلْتَ عَلَيهِ، فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا فَعَلَ.. تَصَوَّرُوا يَا كِرامُ: بَدَلَ أَنْ يَنْصَحُوهُ، وَيَعِظُوهُ وَيَمْنَعُوهُ وَيَزْجُرُوهُ، إِذَا هُمْ يَستَحْسِنُونَ فِعْلَهُ وَيُشَجِّعُوا حِيلَتَهُ، وَيَسيرِونَ عَلى طَرِيقَتِهِ، كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ سِرًّا بَادِئَ الأَمْرِ، حَتَّى كَثُرَ صَيدُهُم، وَبَاعُوهَا فِي الأَسْوَاقِ، وَجَاهُروا بِالصَّيدِ بِمِثْلِ تِلْكَ الحِيَلِ!
وَكَانَتْ هَذِهِ بِدَايَةُ الكَارِثَةِ. فَصَارَ تَعَاوُنٌ جَمَاعِيٌّ مُحَرَّمٌ، وَمَعْصِيَةٌ لِلخَالِقِ جَهَارًا نَهَارًا!
حَمَانَا اللهُ وإيَّاكُمْ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ وَشَرٍّ.
هَلَ تَصَوَّرْتُم يَا مُؤمِنُونَ: شَخْصٌ وَاحِدٌ سَنَّ سُنَّةً سَيئَةً وَخَرَقَ فِي مُجْتَمَعِهِ خَرْقًا وَاسِعَاً! فَتَتَابَعَ أُنَاسٌ لِرَأيِهِ وَأُعْجِبُوا بِصَنِيعِهِ، فَأَدَّى بِهَلاكِ أُمَّةٍ كَامِلَةٍ لَقَدْ صَدَقَ رَسُولُنا -صلى الله عليه وسلم- حِينَ قَالَ كَمَا في الصَّحيحِ: «وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ».
وَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ، مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ، مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ».
حَقَّاً أيُّها المُؤمِنُونَ: هَذا وَاقِعٌ فِي كَثِيرٍ مِن المُجْتَمَعاتِ اليومَ! فإلى اللهِ المُشْتَكَى وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الوَكِيلُ.
وأستَغفِرُ اللهَ فاستَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إليهِ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحمدُ للهِ جَعَلَ كِتَابَهُ لِكُلِّ خَيرٍ هَادِيًا، وَعَمَّا سِواهُ كَافِياً، نَشهدُ ألاَّ إِلهَ إلاَّ اللهُ وحدَه لا شَريكَ لَه المَلِكُ الوَهَّابُ، يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ وَيَنْزِعُهُ عَمَّنْ يَشَاءُ، وَنَشهدُ أنَّ نَبِيَّنَا مُحمَّدَاً عبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، بَعثَهُ اللهُ بَخيرِ دِينٍ وأَصدَقِ كِتَابٍ، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليهِ، وعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ، والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومِ الحِسَابِ.
أمَّا بعدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
عبادَ اللهِ: لا زِلْنَا نَعْتَبِرُ بِقِصَّةِ أصْحَابِ السَّبْتِ حينَ احتَالُوا على أوَامِرِ اللهِ وَشَرْعِهِ وَكَيفَ أنَّ أُنَاسًا وَافَقُوهُ وَسَوَّقُوا لَهُ وَشَجَّعُوهُ!
وَلِسَائِلٍ أنْ يَقَولَ: مَا أَحوَالُ بَقِيَّةِ النَّاسِ تُجَاهَ عِصْيَانَ بَنِي قَومِهِمْ لِأَوَامِرِ اللهِ تَعالى؟! فَالجَوابُ مَا ذَكَرَهُ اللهُ بِقَولِهِ: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [الأعراف: 164- 165].
عِبَادَ اللهِ: افْتَحُوا مَعِي قُلُوبَكُمْ وَعُقُولَكُمْ وَتَفَكَّرُوا فِيمَا أقُولُ -وَبِاللهِ التَّوفِيقُ وَعَليهِ التُّكلانُ-: لَقَد انْقَسَمَ النَّاسُ فِي القَريَةِ تُجَاهَ المُنْكَرِ وَالعُصَاةِ إلى ثَلاثَةِ أقْسَامٍ؛ الأَوَّلُ: فِرْقَةُ الْعَادِينَ التي فَكَّرَتْ فِي الحِيلَةِ الشَّيطَانِيَّةِ وَخَطَّطَتْ وَمَارَسَتْ خِفْيَةً، ثُمَّ أَعْلَنَتْ! وَاستَمَرَّتْ عَلَى المَعْصِيَةِ رَغْمَ تَحذِيرَاتِ المُخْلِصِينَ مِنْ قَومِهِم! هَذِهِ الطَّائِفَةُ مَاذَا حَصَّلَتْ؟ وَمَا مَصِيرُهَا؟ هَل انْتَصَرَتْ فِعْلاَ عَلى المُتَشَدِّدِينَ مِنْ بَنِي قَومِهِمْ (فِي نَظَرِهِمْ)؟ هَلْ تَمَتَّعُوا بِتِلْكَ الَّلذَّةِ المُحَرَّمَةِ؟
الجَوَابُ مَا بَيَّنَهُ اللهُ تَعالى: بِالطَّبْعِ: لا. ثُمَّ واللهِ لا! فَحِينَ انْهَارَتْ عَزَائِمُهُم أَمَامَ شَهْوَةِ بُطُونِهِم وَفُرُوجِهِم، وَعَصَوا أَمْرَ رَبِّهِمْ، وَانْتَكَسُوا إلى عَالِمِ الحَيَوَانِ وَتَخَلَّوا عَنْ خَصَائِصِ الإنْسَانِ المُتَّقِي لِرَبِّهِ المُتَّبِعِ لِأَمْرِهِ، صَيَّرَهُمُ اللهُ –تَعَالى- إِلى حَيثُ أَرَادُوا لِأَنْفُسِهِم مِنْ الانْتِكَاسِ وَالهَوَانِ: (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) [الأعراف: 166].
قَالَ الشيخُ السَّعدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: "لَمَّا قَسَوا فَلَمْ يَلِينُوا، وَلا اتَّعَظُوا، قَلَبَهُمُ اللهُ بِإذْنِهِ قِرَدَةً خَاسِئِينَ، وَأَبْعَدَهُم مِنْ رَحْمَتِهِ"!
اللهُ أكْبَرُ: لَقَد عَذَّبَهُمُ اللهُ عَذَابًا نَفْسِيَّاً وَبَدَنِيَّاً، نَسْألُ اللهَ العَافِيَةَ وَالسَّلامَةَ مِمَّا وَقَعُوا فِيهِ.
أَمَّا القِسْمُ الثَّانِيِ مِن أُنَاسِ تِلكَ القَرْيَةِ: فَهُمُ العُلَمَاءُ وَالمُصْلِحُونَ، الْوَاعِظُوَنَ، الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ والنَّاهُونَ عَنْ المُنْكَرِ، الَّذِينَ أَزْعَجَهُمُ مَخَالَفَةُ بَنِي قَومِهِم لِأَوَامِرِ اللهِ وَاحْتِيَالُهُمْ عَلى شَرْعِهِ، فَقَامُوا بِوَاجِبِ النُّصْحِ وَالتَّوجِيهِ وَالإنْكَارِ. يَدْفَعُهُم إِلى ذَلِكَ غَيرَتُهُمْ عَلى دِينِ اللهِ أَنْ يُنْتَقَصَ! وَلَمَّا سُئِلُوا لِمَا هَذا الحَمَاسُ والانْدِفَاعُ والإنكَارُ؟ قَالَ الوَاعِظُونَ: (مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ)، أَي: لِنُعْذَرَ فِيهِمْ أَمَامَ اللهِ تَعالى! فَقَد أَدَّينَا مَا وَجَبَ عَلينَا!
وَفَائِدَةٌ أخْرَى قَدْ تَحْصُلُ بِسَبِبِ أَمْرِنا وَنَهْيِنا: (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)، فَلَعَلَّهُم يَتْرُكُونَ المَعْصِيَةَ فَلا يَأْسَ مِنْ هِدَايَتِهِمْ، فَلَرُبَّمَا نَفَعَ الوَعْظُ فِيهِمْ، وَأَثَّرَ الُّلومُ علَيهِمْ.
فِي صَحِيحِ مُسلِمٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ». وَهذا الصِّنْفُ يا رَعَاكُمُ اللهُ: هُمُ النَّاجُونَ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيا وَالآخِرَةِ: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) [الأعراف: 165].
عِبادَ اللهِ: أمَّا القِسْمُ الثَّالِثُ: فَهُم أُنَاسٌ صَالِحُونَ فِي أنْفُسِهِمْ، وَقَدْ كَرِهُوا مَا عَلَيهِ قَومُهُمْ مِنْ المُنْكَرَاتِ، وَلَكِنَّهُم كَانُوا سَلْبِيِّينَ فَلَمْ يُحَرِّكُوا سَاكِنَاً وَلَمْ يَقُومُوا بِوَاجِبِهِمُ الشَّرْعِيُّ. بَلْ مِنْ شِدَّةِ يَأْسِهْمُ مِن أَوضَاعِ قَومِهِمُ حَاوَلُوا تَثْبِيَطَ المُصْلِحِينَ! فَقَالوا: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا)؟! حَتَّى وَصِلَ بِهِمُ الحَالُ إلى لَومِ الْوَاعِظِينَ. فَقَالوا لَهُمُ: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا).
كَأنَّهُم يَقُولُونَ أتْرُكُوهُم لا فَائِدَةَ مِن نُصْحِهِمُ فَقَدْ قَضَى اللهُ عَلَيْهِمْ بِالْهَلَكَةِ أَوِ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ!
وَقَدْ اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ فِي نَجَاةِ هَؤُلاءِ أَو هَلاكِهِم، وَقِيلَ سَكَتَ عَنْهُمُ الرَّبُّ جَلَّ وَعَلا تَهْوِينَاً وَتَحْقِيرَاً لِشَأْنِهِمُ!
لِلحَقِّ يا مُؤمِنُونَ: لِهذهِ القِصَّةِ ولانْقِسَامِ النَّاسِ تُجَاهَهَا عِدَّةُ دُرُوسِ وَوَقَفاتٍ لا يَحْسُنُ أنْ نُهْمِلَهَا ولا أنْ نَخْتَزِلَهَا لَعَلَّيِ أتَطَرَّقَ لَها فِي جُمُعَةٍ قَادِمَةٍ بِإذْنِ اللهِ، خَاصَّةً وَأنَّنا بِأَمَسِّ الحَاجَةِ لِكَيفِيَّةِ التَّعامُلِ مَعَ مُتَغَيِّراتِ حَيَاتِنَا وَمُجْتَمَعَاتِنَا.
أيُّها المُؤمِنونَ: عَشَرَةُ أيَّامٍ على رَمَضَانَ فَهْلْ مِنْ تَوبَةٍ صَادِقَةٍ؟ وَدَمْعَةٍ مُخْلِصَةٍ؟ خَاصَّةً وأنَّنا مُثْقَلُونَ بالأوزَارِ، نَسْألُ اللهَ أنْ يَتَدَارَكَنا بِرحْمَتِهِ وَرِضْوَانِهِ، وَمَنْ كانَتْ عليهِ أيَّامٌ مِن رَمَضَانَ المَاضِي، فَليُبادِرْ بِقَضَائِها وَلْيُذَكِّرَ أهلَ بَيتِهِ بِذلِكَ.
فاللهم أصلح لنا نيَّاتِنا وذُريَّاتِنَا. اللهم ارزقنا وإيَّاهم البِرَّ والتَّقوى ومن العمل ما ترضى. اللهم اجعل مستقبلنا خيرا من ماضينا وتوفَّنا وأنتَ راضٍ عنا. اللهم اكفنا وإيَّاهم الفواحشَ والفِتَنَ مَا ظَهَرَ مِنها وَما بَطَنَ. اللهم أحفظهم عن رفقةِ السُّوء، وعملِ السُّوء. اللهم أصلح شبابَ المسلمين وأهدهم سُبَلَ السَّلام وجَنِّبهم الفواحشَ والآثامَ.
اللهم أبرم لهذه الأُمَّةِ أَمْرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ الطَّاعةِ ويُذلُّ فيه أهلُ المعصيةِ ويؤمرُ فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر يا ربَّ العالمين. اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشِّرك والمشركينَ، ودمِّر أعداءَك أعداءَ الدِّينِ. اللهم وفِّق ولاةَ أمورنا لِمَا تُحبُّ وترضى وأعنهم على البرِّ والتقوى.
اللهم أَعِنْ إخوَانَنَا في سُوريا والفَلُّوجَةِ ولا تُعِنْ عَلَيهم، وانصُرهم ولا تَنْصُرْ عَلَيهم، وامكُرْ لهم ولا تَمْكُرْ عَلَيهم، وأهدهم ويَسِّر الهُدَى لهم، وانصرهم على من بَغَى عَلَيهم. اللهم انصُرْ جُنُودَنا واحفظ حُدُودَنا والمُسلِمِينَ أجمَعينَ.
اللَّهُمَّ اهْزِمِ طواغيتَ العصرِ وجُنْدَهم، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ يا ربَّ العالمين. اغفر لنا ولِوالِدينا والمُسلمينَ أجمعينَ. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله اذكروا الله العظيم الجليلَ يذكركم واشكروه على عموم نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.