المليك
كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...
العربية
المؤلف | عبدالله بن عبده نعمان العواضي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحياة الآخرة |
الحياة البرزخية هي حياة من عالم الغيب لا يدركها أهل الدنيا، فكل من مات حصل له في القبور من النعيم أو العذاب ما كُتب له، وإن لم يرَ الأحياء ذلك، سواء دفن الميت في التراب، أم أكلته السباع، أم حُرِّق حتى صار رماداً ونسف في الهواء، أم غرق في...
الخطبة الأولى:
الحمد لله حمداً حمداً، والشكر له شكراً شكراً، أحمده على نعمه الغزيرة، وأشكره على آلائه الكثيرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين-، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء1]، (يَا أَيَّهَا الَّذِينَ آَمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَ قُولُواْ قَولاً سَدِيداً * يُصلِحْ لَكُم أَعْمَالَكُم وَ يَغْفِرْ لِكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ مَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيمَاً) [ الأحزاب70-71]، أما بعد:
أيها الناس: جاء في مصنف ابن أبي شيبة، ومسند الإمام أحمد، ومستدرك الحاكم، وشعب الإيمان للبيهقي بسند صحيح عن البراء بن عازب -رضي الله عنه-ما- قال: "خرجنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولمّا يُلحد؛ فجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجلسنا حوله، وكأن على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت في الأرض، فرفع رأسه فقال: "استعيذوا بالله من عذاب القبر، مرتين أو ثلاثًا، ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مدّ البصر، ثم يجئ ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه".
"فيقول: أيتها النفس الطيبة، أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، قال: فيصعدون بها فلا يمرون - يعنى بها على ملأ من الملائكة - إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له فيُفتح لهم، فيشيّعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهى به إلى السماء السابعة؛ فيقول الله -عز وجل-: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض؛ فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام؛ فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيقولان له: وما علمك؟"
"فيقول: قرأت كتاب الله، فآمنت به وصدقت، فينادى منادٍ في السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة، قال: فيأتيه من رَوْحها وطيبها، ويفسح له في قبره مدّ بصره، قال: ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيّب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجئ بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة؛ حتى أرجع إلى أهلي ومالي".
"قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مدّ البصر، ثم يجئ ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة، أخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفّود من الصوف المبلول، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة الا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهى به إلى السماء الدنيا، فيستفتح له فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) [الأعراف: 40].
"فيقول الله -عز وجل-: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحًا ثم قرأ: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) [الحج: 31]، فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادى منادٍ من السماء: أن كذب، فأفرشوا له من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيَّق عليه قبره، حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوءك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه يجئ بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: ربِّ لا تقم الساعة".
أيها المسلمون: لقد تحدث هذا الحديث الشريف عن رحلة الإنسان منذ خروج روحه واستقراره في القبر إلى تقوم الساعة؛ فاعلموا -عباد الله- أن الله تعالى جعل للإنسان بعد خروجه من بطن أمه ثلاثة دور: دار الدنيا -وهي دار العمل-، ودار البرزخ -وفيها بعض جزاء العمل، ودار الآخرة- وفيها تمام الجزاء، والاستقرارُ في دار الخلود إما في الجنة وإما في النار، وقد جعل الله -تعالى- من إكرام الإنسان إذا مات: مواراته في التراب الذي كان أصلَه الأول، قال تعالى: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) [طه:55]؛ ففي التراب يُحفظ بدن الإنسان من السباع، وفي التراب يسلم الناس من رائحة بدن الميت؛ لأن في التراب خاصية تجعل البدن يبلى فلا تبقى إلا العظام ومع تطاول الزمن تلحق العظام بالبدن.
غير أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وبعض الصالحين من أتباعهم كبعض الشهداء في سبيل الله تعالى، فللأنبياء والشهداء حياة خاصة في القبور غير الحياة المتعارف عليها في الدنيا. قال تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران:169]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-".
وقد ورد أن بعض شهداء أحد أُخرجوا بعد مرور عشرات السنين فوجِدوا كما دُفنوا، وإن الدم ليسيل من بعضهم. إلا هناك شيئًا لا يبلى من بدن الإنسان عمومًا وذلك الشيء هو عظم صغير في ظهره يقال له: عجب الذنب، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب، منه خُلق، ومنه يرُكّب الخلق يوم القيامة".
أيها الأحبة: لقد اهتدى ابن آدم إلى طريق دفن الميت بفعل مخلوق أصغر منه، مما دلّه على ضعفه وعجزه؛ كي لا يتكبر على الله ويتباهى بقدراته. فقد ظل ابن آدم القاتل يطوف بأخيه المقتول لا يدري ما يفعل بجثته حتى رأى غرابًا يبحث في التراب ليدفن غرابًا آخر، قال تعالى: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) [المائدة:31].
أيها الأكارم: إن الحياة البرزخية هي حياة من عالم الغيب لا يدركها أهل الدنيا، فكل من مات حصل له في القبور من النعيم أو العذاب ما كُتب له، وإن لم يرَ الأحياء ذلك، سواء دفن الميت في التراب، أم أكلته السباع، أم حُرِّق حتى صار رماداً ونسف في الهواء، أم غرق في البحر، أم حفظ في وعاء بالتحنيط، أم غير ذلك، فأي ظرف استقر فيه فهو قبره.
إن القبر -معشر المسلمين- واعظ من الواعظين، إذا تذكره المسلم استعد للآخرة؛ فإنه بيت الوحدة والظلمة والوحشة والضيق إلا على المؤمن؛ فعن هانئ مولى عثمان بن عفان قال: كان عثمان -رضي الله عنه- إذا وقف على قبر يبكي حتى يَبل لحيته، فقيل له: تذكرُ الجنة والنار فلا تبكي، وتذكر القبر فتبكي! فقال: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر، وإن لم ينجُ منه فما بعده أشد"، قال: وسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما رأيت منظراً قط إلا والقبر أفظع منه".
غير أن المؤمن ينتقل إلى ذلك المنزل فيُذهب الله خوفَه، ويرزقه الاطمئنان والأمان. قال رسول -صلى الله عليه وسلم-: "إن الميت يصير إلى القبر فيجلس الرجل الصالح في قبره غيرَ فزع ولا مشعوف".
حتى ضمةُ القبر التي أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنها كائنة في القبور على كل إنسان فإنه لا تؤذيه ولا تضره. فعن عائشة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن للقبر ضغطة، ولو كان أحد ناجيًا منها نجا منها سعد بن معاذ"؛ فضمة القبر للمؤمن ضمة رحمة ليس فيها عذاب، وإن كان فيها بعض الألم الذي يذهب سريعًا، وضمة الكافر ضمة سخط فيها عذاب.
عباد الله: لقد تضمن حديث البراء السابق بعض القضايا المتعلقة بالقبر والمقبور، ومنها:
انفساح القبر وإضاءته، وهو حدث حقيقي يجده الميت، وإن لم يشعر به الأحياء؛ لأن ما في القبر هو من عالم الآخرة.
ومنها: سؤال الملكين عن الأصول الثلاثة: عن الرب، وعن الرسول، وعن الدين، فيثبت الله المؤمن فيجيب الإجابة المرضية التي كان يعلمها ويعمل بها في الدنيا، قال تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) [إبراهيم:27].
وأما الكافر فلا يستطيع الجواب؛ لأنه لم يكن يعمل بها في الدنيا. عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: "استغفروا لأخيكم، واسألوا له بالتثبيت؛ فإنه الآن يسأل".
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا قبر الميت أو قال أحدكم أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما: منكر والآخر نكير".
ومن القضايا التي تناولها الحديث: ذهاب وحشة المؤمن في قبره، وحصول أُنسه بعمله الصالح الذي يأتيه على هيئة رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيّب الرائحة؛ فيقول له: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت، فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير؟، فيقول: أنا عملك الصالح.
ومما ذكره الحديث: حصول النعيم لأهل الإيمان في قبورهم، وكذلك العذاب لمن سواهم. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه، تعوذوا بالله من عذاب النار، تعوذوا بالله من عذاب القبر، تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، تعوذوا بالله من فتنة الدجال".
ومن النعيم الذي ينعم به المؤمن في القبر: أنه يعرض عليه مقعده من الجنة بكرة وعشية، ويفتح له باب إليها؛ فيأتيه من رَوحها وطيبها ما يملأ نفسه مسرةً وفرحة. ومن العذاب الذي يعذب به غير المؤمن: "أن يعرض عليه مقعده من النار فيأتيه من حرّها وسمومها، ويضيَّق عليه قبره، حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوءك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه يجئ بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث".
أيها المسلمون: لقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه الصلاة والسلام تحذيرُ المسلمين من عمل المعاصي التي تكون من أسباب عذاب القبر، ومن تلك المعاصي التي يعذب أهلها عليها في القبر إذا لم يتوبوا قبل الموت: النميمة وعدم الاستبراء من البول، فعن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: "مر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقبرين فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما؛ فكان لا يستنزه من البول (وفي رواية: بوله)، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة"
ومن الذنوب التي يعذب صاحبها عليها في القبر كذلك: ما جاء في حديث سمرة بن جندب -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "رأيت الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدسة، فإذا رجل جالس ورجل قائم على رأسه بيده كلّوب من حديد فيدخله في شدقه فيشقه حتى يخرجه من قفاه، ثم يخرجه فيدخله في شدقه الآخر ويلتئم هذا الشدق، فهو يفعل ذلك به فقلت: ما هذا ؟ قالا: انطلق; فانطلقت معهما فإذا رجل مستلقٍ على قفاه ورجل قائم بيده فهر أو صخرة فيشدخ بها رأسه فيتدهده الحجر، فإذا ذهب ليأخذه عاد رأسه كما كان، فيصنع مثل ذلك، فقلت: ما هذا ؟ قالا: انطلق; فانطلقت معهما فإذا بيت مبني على بناء التنور أعلاه ضيّق، وأسفله واسع يوقد تحته نار، فيه رجال ونساء عراة، فإذا أوقدت ارتفعوا حتى يكادوا أن يخرجوا، فإذا أخمدت رجعوا فيها، فقلت: ما هذا ؟ قالا: انطلق; فانطلقت فإذا نهر من دم فيه رجل، وعلى شاطئ النهر رجل بين يديه حجارة، فيقبل الرجل الذي في النهر فإذا دنا ليخرج رمى في فيه حجراً فرجع إلى مكانه، فهو يفعل ذلك به، فقلت: ما هذا ؟ قالا: انطلق; فانطلقت فإذا روضة خضراء وإذا فيها شجرة عظيمة، وإذا شيخ في أصلها حوله صبيان، وإذا رجل قريب منه بين يديه نار فهو يحشها ويوقدها، فصعدا بي في شجرة فأدخلاني داراً لم أر داراً قط أحسن منها، فإذا فيها رجال شيوخ وشباب، وفيها نساء وصبيان؛ فأخرجاني منها فصعدا بي في الشجرة فأدخلاني داراً هي أحسن وأفضل فيها شيوخ وشباب فقلت لهما: إنكما قد طوفتماني منذ الليلة فأخبراني عما رأيت؟"
"قالا: نعم; أما الرجل الأول الذي رأيت؛ فإنه رجل كذاب يكذب الكذبة؛ فتحمل عنه في الآفاق؛ فهو يصنع به ما رأيت إلى يوم القيامة، ثم يصنع الله تعالى به ما شاء; وأما الرجل الذي رأيت مستلقيًا على قفاه فرجل آتاه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل بما فيه بالنهار، فهو يفعل به ما رأيت إلى يوم القيامة; وأما الذي رأيت في التنور فهم الزناة ; وأما الذي رأيت في النهر فذاك آكل الربا; وأما الشيخ الذي رأيت في أصل الشجرة فذاك إبراهيم -عليه السلام-; وأما الصبيان الذين رأيت فأولاد الناس; وأما الرجل الذي رأيت يوقد النار فذلك خازن النار، وتلك النار; و أما الدار التي دخلت أولاً فدار عامة المؤمنين; وأما الدار الأخرى فدار الشهداء; وأنا جبريل وهذا ميكائيل; ثم قالا لي: ارفع رأسك فرفعت؛ فإذا كهيئة السحاب فقالا لي: وتلك دارك فقلت لهما: دعاني أدخل داري فقالا: إنه قد بقي لك عمر لم تستكمله؛ فلو استكملته دخلت دارك".
أيها الأحبة: لقد ذكر في هذا الحديث العظيم من المعاصي الذي يعذب عليها صاحبها في القبور:
أولاً: الكذب، وعذاب صاحبه؛ أن يدخل في شدقه كلوب حتى يبلغ إلى قفاه، ثم يفعل بشدقه الآخر كذلك إلى يوم القيامة.
وثانيًا: الزنا، وعذاب أهله؛ أن يوضعوا في تنانير توقد عليهم ناراً إلى يوم القيامة.
وثالثًا: أهل الربا، وعذابهم؛ أن يجعلوا في نهر من دم يسبحون فيه، وعلى حافته رجل بيده حجارة كلما اقترب رمى في فيه حجراً فرجع إلى مكانه فهو يفعل ذلك به إلى يوم القيامة.
ورابعًا: الذي يأخذ القرآن ولا يعمل بأوامره ولا ينزجر بزواجره، وعذابه؛ أنه يصير مضطجعًا ويوكل به شخص يهوي بصخرة على رأسه؛ فيثلغه ثم يصح رأسه؛ فيعود إلى ثلغه كلما صح، وهكذا يفعل به إلى يوم القيامة. وهناك ذنوب أخرى غير هذه الذنوب يعذب أصحابها في القبور.
نسأل الله أن يجيرنا من عذاب القبر.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
عباد الله: فإذا ما أراد العبد أن ينجو من عذاب القبور؛ فعليه أن يبذل الأسباب التي تلخصه من ذلك؛ فمنها:
الحياة على الإيمان والاستقامة، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران102].
ومما يقيه: أن يحافظ على فرائض الله ومنها الصلاة في أوقاتها.
ومما يقيه: أن يحفظ لسانه من الطعن في أعراض المسلمين والكذب عليهم.
ومما يقيه: أن يحسن طهارته ويستبرأ من بوله.
ومما يقيه: أن يبتعد عن المال الحرام كالربا وغيره.
ومما يقيه: أن يكثر من الدعاء والتعوذ من عذاب القبر؛ فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر من التعوذ من عذاب القبر.
أيها المسلمون: لقد سمعتم بعض أنباء القبور، وما يحصل فيها من الأمور للمقبور، فماذا أعددتم لذلك المنزل؟
فيا أيها الغافل، أما آنَ لك أن تنتبه، ويا أيها النائم عن أمر الآخرة، أما حان لك أن تستيقظ، يا أيها النشوان بسكرة الدنيا، أما آن لك أن تصحو؟؛ فالعاقل من اتعظ واستعد، وسمع فتذكر، وعمل؛ فأحسن، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق:37].
هذا وصلوا على النبي المختار..