القدوس
كلمة (قُدُّوس) في اللغة صيغة مبالغة من القداسة، ومعناها في...
العربية
المؤلف | عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
وقبل كل ذلك وبعده اعلموا أن الله عزيز حكيم، وأن هذا الدين القيّم الله ناصره ومؤيده، والله سيحمي عباده المؤمنين؛ فهو يحبهم ويحبونه -سبحانه-. ولنثقْ -أحبتي- أن بديننا وإيماننا خير رغم التقصير.. والله -جل وعلا- لن يضيّعنا وهو ناصرنا؛ حتى ولو كنا خطائين، فنحن -أيضاً- توابون مسترجعون لفضله -سبحانه-، ومستغفرون له...
الخطبة الأولى:
الحمد لله نصر عبده وأعز جنده، لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أنَّ وعدَ الله حقٌّ مبين واضحٌ متين بالنصر لهذا الدين ولأهله بالتمكين.. هكذا منطوقُ القرآن العظيم، وبيان سنة الأنبياء والمرسلين (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[النور:55]، وقال مُثبتاً لرسله عبر التاريخ: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)[يوسف:110]، وقال تعالى لكل من يمكر بكيده ويشكك بتعاليم دينه: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)[الصف:8]، (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)[التوبة:33]. وأرسل الله محمداً بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً..
ولذلك رأينا رسولَ الله محمد -صلى الله عليه وسلم- يُثبت ويُقررّ نصراً للإسلام وثباتَ دينه وفألَه الدائم بنصر عباد الله، والعجيب أن فألَه -عليه الصلاة والسلام- يتأكُّد أكثر في الأزمات التي أصابته مع صحابته، فيبشرهم حينذاك بنصرِ الدين وأهله وهم يُعذبّون في مكة، فيطلبُ منهم الصبر على ما يلقونه ويطمئنهم بأن الله ناصرٌ دينه..
يلاحقه سراقة في الهجرة فيعدُه وهو مُلاحق ومُطارد بسواري كسرى..
وفي غزوة بدر يُبشِّرُ صحابته بنصر الله، وأنّ ملائكتَه على ثنايا النقع وفي الخندق وهم مُحاصرون يبشّرُ بفتح فارس والشام واليمن، فيقول المسلمون معه (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً)[الأحزاب: 22].
وفي الحديبية يُمنعون من مكة وهم مُحرمون فلما رأى اسم مفاوض قريش سهيلَ بن عمرو قال: "سَهُلَ أمركم إن شاء الله".
ومع قوة أزماتٍ أصابته لا يلبث أن يرجع وينتصر وكثيرةٌ هي أحاديثِ البشائر التي ينبغي استحضارها دوماً؛ فما أضيقَ العيشَ لولا فُسحة الأمل؛ كيف لا؟! "والله عند حسن ظن عبده به"! قال -صلى الله عليه وسلم-: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر، ولا وبر، إلاّ أدخله الله هذا الدين، بعزّ عزيز، أو ذلّ ذليل، عزّا يعزّ الله به الإسلام، وذلاّ يذل الله به الكفـر"(متفق عليه).
ولا شك أن فئام من الناس سيظلون متمسكين بالدين يقول -صلى الله عليه وسلم-: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ"(رواه مسلم).
عباد الله: البعض حينما يرى جرأةً على مخالفة دين الله أو تجاوزاً واستهتاراً بالقيم والأخلاق تحصلُ هنا وهناك يظنّ أن الدين يتضرّر، أو يُعمِّمُ مظاهرَ السوء هذه على المجتمع؛ فيتشاءم! وهذا خطأ.. فرغمَ سوء الفساد وأهله وضرره؛ فالخيرُ -بحمد الله- كثير، والدينُ عزيز وأهله منصورون؛ ولو كره المنافقون المتخاذلون!!
نحتاج هذا الفأل الإيجابي لنُجدّدَ العملَ لدين الله وننشرَ القيم وندعمَها.. فنحن نرى -بحمد الله- علائمَ الخير والنصر رغم تتابع الأزمات على هذه الأمة من كلِّ جانب رفعةً لدين الإسلام؛ فكلمتُه مرفوعةٌ في أعلى المحافل، وقادتنا مرتبطون بخدمة الحرمين الشريفين، وشأنُ أهل العلم الشرعي يُراعى في البلدان، وإن من قصور النظر -مع كل هذه البشائر- الظنُّ بأن دين الله مربوطٌ بالبشر؛ فأين يقيننا بأن الله مُعلٍ كلمته ورافعٌ دينه.. حافظٌ قرآنه حامٍ لأمته رغم كل شيء.. "ومن قال هلك الناس فهو أهلَكُهم"؛ فهل تريدون الدليل أيها المُشكّكون المتشائمون؟!
١٤٠٠ سنة من الإسلام وهو في عزٍّ وانتشار.. فلقد بدأ -صلى الله عليه وسلم- دعوته على رأس جبل بمكة؛ حتى عمُّه أبو لهب وقف ضدّه.. عذبوه واضطهدوا أصحابَه ثم أخرجوه منها ظانّين أنهم أنهوه، وحاولوا قتله فنصره الله، وإذا بالإسلام بعد مائة سنة فقط يملك الشرقَ والغربَ بدعوته؛ فلا يوجدُ بيتُ مدرٍ ولا وبر -الآن- إلا وسمع بهذا الدين، ونصف العالم مؤمنين به، أو متعاطفين معه فأذانُ الله أكبر ولا إله إلا الله محمد رسول الله يُسمع في كل أصقاع المعمورة كلَّ دقيقةٍ باليوم عبرَ الكرة الأرضية!
أليسَ دليلَ عظمة الإسلام هذه الرغبة العارمة لدين الله بالدخول فيه عن اقتناع كل يوم بالمئات بتوفيقٍ من الله ورعاية ثم بجهودٍ مشكورة لمكاتب الدعوة؛ فمركز صوت الحوار التابع لمكتب الدعوة والجاليات بعنيزة دعوته إلكترونيا أسلم بها حتى اليوم ولمدة سنة (3500) مسلم جديد تقريباً..
شعورُ المسلمين في الأرض نراه يتكاتف ويتوحّد، وللمؤامرة عليه بالفتن والخلافات يُدرك، والنفاقُ والكفر رغمَ جهده العظيم ينفضح ويتقهقر! رأينا كيف حبُّ الناس للحرمين ولبلادها وخدمةِ قادتها لها وتفاني جنودها ورجال أمنها وحبُّ رفعتها وحمايتها وخدمته لقضايا المسلمين عبر الأزمان.. ورغم محاولات تشويه مجتمعنا من فئاتٍ متفلّتة بأخلاقها وقيمها وضعف غيرتها إلا أن الخير بحمد الله يظهر وينتشر.
إخوتي: مجتمعاتُنا ودينُنا بخير؛ أليس من عظمة دين الله هذا الخير المغروس في كثيرٍ من النفوس حين ترى الغيرة على دين الله لدى قلوب المؤمنين على الدين والخلق والقيم حتى ولو كان بعضهم مُقصّراً في دينه لكنه يغار عليه ويتألم لمخالفة تعاليمه والقيم.. ترى العبادةَ دائمةً في أفعالهم والحضورَ في مساجدهم.. والخير قائماً في صلاحهم، والأخلاقَ في تعاملاتهم.. وحبَّ جمعِ الكلمة والطاعة لولاة أمرهم.. راجين تحقيق قول ربهم (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)[الْأَنْعَامِ:82]؛ ولذلك فمن نصرة هذا الدين الفهمُ السمح لتعاليمه وتطبيقها وترك الانتقائية بأخذ ما يعجبنا من الدين وترك مالا نريد أو تشويههُ بالشدة والتطرف فـ "إِنَّ هذا الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا"(رواه البخاري).
إن من يتأمّلُ خيْريّةَ المجتمعات المسلمة -حتى مع التقصير الحاصل- ليعجب كثيراً وهو يرى قوة دين الله قائمة أمامه؛ فإذا جئتَ للمساجد تراها ممتلئةً بالمصلين، وترى تكافلاً اجتماعياً للفقير والمحتاج.. إطعامٌ الطعام للإنسان والحيوان.. شهودٌ للجنائز وزيارةٌ للمرضى.. عمل تطوعيّ.. حمايةٌ للبيئة وقيامٌ بالنظافة وتطبيق للنظام.. إبداعٌ في التعليم.. حرصٌ على جمع الكلمة ونبذٌ للعصبية.. حبٌ للصالح من العباد، وبغضٌ لمن ينال من ثوابت الدين أو يثير الفتن بين العباد كلها، وغيرها مظاهر عظيمة تبين خيريّة للمسلمين عظيمة.
وتعطيك تفاؤلاً -لا منتهى له- بأن الخير المكنوز في هذه الأفئدة زرعٌ من الرحمن يؤتي أُكلَه كل حين؛ حتى ولو كان بعضُهم في مظهرِه مُقصّراً ومخالفاً في دينه، أو تلاحظُ على خلقه؛ مسؤولاً ومواطناً، غنياً أو فقيراً، سعيداً أو مهموماً؛ فإن كنز الطيبة وفطرة الخير تدعوه لأن يأرز لإيمانه ويعود لفطرته المسلمة؛ فيدافعُ عن دينه، ويحمي وطنَه، ويتعاطفُ مع أخيه المسلم.. ولا يعني ذلك عدم وجود أخطاء وتجاوزات تحتاج لعلاج لكننا ينبغي ألا نُعمِّمَها.. ولنحذر من متشائمٍ يظنُّ أن دينَ الله يضعف ويتأثر بمخالفته والجرأة على أحكامه فهذا مُتجاهلٌ للتاريخ؛ لأن دينَ الله قائمٌ -بحمد الله- بعزِّ عزيزٍّ أو بذلِ ذليل عزاً يُعز الله فيه الإسلام وأهله؟! (كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)[المجادلة:21].
ولذلك ثقوا -إخوتي- بدينكم والتزموا قيمكم، واحموا أوطانكم واجمعوا كلمتكم، واحذروا التفرقةَ بينكم ومن يريد بفعله نشر الباطل لديكم.. وقبل كل ذلك وبعده اعلموا أن الله عزيز حكيم، وأن هذا الدين القيّم الله ناصره ومؤيده، والله سيحمي عباده المؤمنين؛ فهو يحبهم ويحبونه -سبحانه-.
ولنثقْ -أحبتي- أن بديننا وإيماننا خير رغم التقصير.. والله -جل وعلا- لن يضيّعنا وهو ناصرنا؛ حتى ولو كنا خطائين، فنحن -أيضاً- توابون مسترجعون لفضله -سبحانه-، ومستغفرون له، وارتباطنا بالله دائم..
نسأل الله أن يحفظ علينا ديننا وأمننا وأماننا ويُوفق ولاتنا لكل مافيه الخير ويكفينا بقدرته أَهْلَ الشر .. أقول ما تسمعون ..
الخطبة الثانية ..
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ وبعد:
عباد الله: إن من أهم ما يحفظ للأمة دينها أن تعرف أنها لا يمكن أن تعيش بدونه، وتعلمَ أن دينَ الله متكاملٌ؛ عقيدةً وقيماً ودولاً وشعوباً وتواصلاً ورحماً وعالَماً قائماً حتى مع التقصير والخلل.. ولذلك فإننا نحتاج لتعزيز قيمنا وارتباطها بعقيدتنا؛ فالله -سبحانه- يقول: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ)[البقرة:177].
فهذه الآية تدلُّ على عظيم الارتباط بين معتقد الإنسان بالإيمان بالله وبين الأخلاق التي يتعامل بها مع الناس؛ كالإيفاء بالعهد والصبر والصدق.. وهنا تكون المفاضلة بين عباده وعلى رأسهم الرسل (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)[البقرة:253]، والرسل من العباد وعلى رأسهم نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- زيّنه الله بالخلق العظيم وأتمَّ الله به الرسالات، شرح الله له صدره ووضع عنه وزره ورفع ذكره وجعل الصغار والذلة على من خالف أمره، وهو الأسوة الحسنة وكان خلقُه القرآن.
ولذلك -أحبتي- فإن من أجلِّ ما يحفظ الله به الأمةَ هو تعزيزُ القيم والأخلاق فيها؛ بدءاً بالخُلقِ مع الله ودينه، وحسن فهمه وتطبيقه، ثم مع الناس أجمعين فذلك الخلق المنطلق من دين الإسلام إنما هو لحفظ هذا الدين وعقيدته من الشرور والآثام والتسلّط عليه من أعدائه اللئام.. وحينذاك ثقوا بنصر دين الله؛ فهذا الخير في النفوس لن نُعدمَ جوازيه وآثاره على البلاد والعباد، ولنحذر من الاهتمام بإشباع الغرائز بلا توجيه، وفعل المحرمات باسم الترفيه؛ فهذا سبب لوجود أجيالٍ تهمل العلم والقيم، ولا تهتم بالدين والأمن والوطن.
اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا، ووفق للخير قادتنا، وثبت بالخير علماءنا، وأصلح شبابنا ونساءنا ووفقهم للهداية، واكتب النصر والتمكين لبلادنا وسائر بلاد المسلمين، وانصر جنودنا واحم حدودنا يا رب العالمين.