الكبير
كلمة (كبير) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، وهي من الكِبَر الذي...
العربية
المؤلف | محمد بن إبراهيم النعيم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحديث الشريف وعلومه - الصلاة |
قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها على أنفسكم فأطفئوها، إنها دعوة لم أقلها من عند نفسي، وإنما قالها ولا يزال يقولها كل يوم؛ خمس مرات، ملك من ملائكةِ الله -عز وجل-، وكَّله الله -تعالى- لذلك؛ رحمة ورأفة بنا، ينادي عند كل صلاة: "يا بني آدم قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها على أنفسكم فأطفئوها"؛ فهل من مجيب؟!...
الخطبة الأولى:
كنا نتحدث في خطب سابقة، في سلسلة من الخُطب، عن أهم الأحداث الصباحية والمسائية التي حدثت في الكون عامة، وعلى وجه الأرض خاصة، وأن هذه الأحداث والأخبار العالمية لم أنقلها لكم من مراسلي القنوات الفضائية ولا الصحف المحلية، وإنما نقلتها من أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد ذكرت لكم الحدث الأول الذي حصل في الصباح الباكر وسيحدث عند غروب الشمس -أيضا- ألا وهو عرض مقاعد الموتى على أصحابها إن كانوا في الجنة أو النار.
وأما الحدث الثاني الذي حدث هذا الصباح وقبيل شروق الشمس: فقد تمثل في قيام جميع المخلوقات بتسبيح الله -تعالى- إلا الشياطين وأغبياء بني آدم.
وأما الحدث الثالث وقد حدث في أول الصباح أيضا: قيام أعضاء جسم كل ابن آدم على وجه الأرض بتخويف اللسان بالله -تعالى- ومناشدته أن يقول خيرا.
وأما الحدث الرابع الذي حدث اليوم في الصباح الباكر وعند أذان الفجر تحديدا: قيام مَلَك من الملائكة بمناداتنا منذ الفجر؛ لإطفاء النيران التي أوقدناها على أنفسنا.
فما النيران التي أوقدناها على أنفسنا يا ترى؟ وهل يعقل أن يوقد الإنسان نارا على نفسه ليحرقها؟ دعونا نسمع الحديث: روى عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يُبْعَثُ مُنَادٍ عِنْدَ حَضْرَةِ كُلِّ صَلَاةٍ فَيَقُولُ: يَا بَنِي آدَمَ، قُومُوا فَأَطْفِئُوا عَنْكُمْ مَا أَوْقَدْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَيَقُومُونَ فَيَتَطَهَّرُونَ وَتَسْقُطُ خَطَايَاهُمْ مِنْ أَعْيُنِهِمْ، وَيُصَلُّونَ فَيُغْفَرُ لَهُمْ مَا بَيْنَهُمَا، ثُمَّ يُوقِدُونَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ صَلَاةِ الْأُولَى نَادَى: يَا بَنِي آدَمَ، قُومُوا فَأَطْفِئُوا مَا أَوْقَدْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَيَقُومُونَ فَيَتَطَهَّرُونَ وَيُصَلُّونَ فَيُغْفَرُ لَهُمْ مَا بَيْنَهُمَا، فَإِذَا حَضَرَتِ الْعَصْرُ فَمِثْلُ ذَلِكَ، فَإِذَا حَضَرَتِ الْمَغْرِبُ فَمِثْلُ ذَلِكَ، فَإِذَا حَضَرَتِ الْعَتَمَةُ فَمِثْلُ ذَلِكَ، فَيَنَامُونَ وَقَدْ غُفِرَ لَهُمْ "، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: "فَمُدْلِجٌ فِي خَيْرٍ، وَمُدْلِجٌ فِي شَرٍّ" (رواه الطبراني في الكبير وحسنه الألباني).
ورُوي عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- حديثا فيه ضعف بنفس هذا المعنى، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن لله ملكا ينادي عند كل صلاة: يا بني آدم قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها على أنفسكم فأطفئوها" (رواه الطبراني وقال الألباني حسن لغيره).
هناك أشياء من مخلوقات الله -تعالى- كلفها الله -عز وجل- أن تناديك وتدعوك إلى الخير كل يوم، ولكنها فوق مستوى سمعك؛ فلا تقوى على سماعها أنت ولا أحد من الثقلين، ولعل الحكمة في ذلك؛ ليعلم الله من يؤمن بالغيب. فطالما أخبرنا الشارع الحكيم بندائها فلا يلزم من سماعها، وإنما يكفي الإيمان بذلك.
فالمعنى أن الله -تعالى- وكَّلَ ملكا عند كل صلاة مكتوبة، أن ينادي كل الناس: يا بني آدم، قوموا إلى نيرانكم -أي خطاياكم- التي ارتكبتموها، فاستحققتم النار أن توقد عليكم؛ فكأننا أوقدنا لأنفسنا نارا بارتكاب هذه الذنوب، والمطلوب هو أداء الصلاة؛ كي تكفر عنّا سيئاتنا، ومن ثم إطفاء هذه النار عنّا.
ولذلك جاء في حديث آخر أن الذي يرتكب الذنوب هو في الحقيقة يحرق نفسه؛ لأنه يعرضها لعذاب الله -تعالى- بالنار، وهذا ما رواه عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تحترقون تحترقون، -أي تذنبون تذنبون- فإذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم حتى تستيقظوا" (رواه الطبراني وقال: الألباني حسن صحيح).
فالصلاة تغسل الذنوب غسلا، وقد شبه النبيُ -صلى الله عليه وسلم- أداء الصلوات الخمس؛ كالذي يغتسل خمس مرات في اليوم؛ فهل سيكون جسدهُ متسخا سائر اليوم؟ كلا؛
فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ؛ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ"؟ قَالُوا: لا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ، قَالَ: "فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ؛ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا".
ولعظم أمر الصلاة عند الله -عز وجل-، شرع لها الأذان؛ ليسمع هذا النداء كل إنسان؛ ليكون هذا النداء في عالم الشهادة، وليس في عالم الغيب فحسب، ومع ذلك فإن كثيرا من الناس يتقاعسون عن الاستجابة لهذا النداء؛ وهو يقول لهم خمس مرات كل اليوم: "حي على الصلاة، حي على الفلاح"؛ أي تعالوا إلى الصلاة وإلى الفلاح، فيأبون السجود لله -عز وجل-، وما علموا أنه سيكونُ هناك نداء مشابه لهذا، ولكنه يوم القيامة، ولن يستجيب له إلا من استجاب لهذا النداء في الدنيا، قال الله -عز وجل-: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ) [القلم:43] لماذا لم يستطيعوا الامتثال والسجود؟ لأنهم لم يمتثلوا في الدنيا؛ فمن لم يسجد لله ويخضع له في الدنيا فلن يقوى على السجود في الآخرة.
إنه امتحان واختبار صعب سيواجهه كل إنسان يوم القيامة، وهذا الامتحان سيفضح كل من قصّر في صلاته أو امتنع عن الصلاة، أو صلى رياءً؛ لأنه لن يقوى على السجود البتة؛ فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رضي الله عنه- الخدري قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "يَكْشِفُ رَبُّنَا عَنْ سَاقِهِ فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، فَيَبْقَى كُلُّ مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ، فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا" (رواه البخاري).
فيا عباد الله: قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها على أنفسكم فأطفئوها، إنها دعوة لم أقلها من عند نفسي، وإنما قالها ولا يزال يقولها كل يوم؛ خمس مرات، ملك من ملائكةِ الله -عز وجل-، وكَّله الله -تعالى- لذلك؛ رحمة ورأفة بنا، ينادي قائلا عند كل صلاة: "يا بني آدم قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها على أنفسكم فأطفئوها"؛ فهل من مجيب؟!
أقول قولي هذا، راجيا الفائدة لكم، و رضى الرحمن، فلنعمل بما سمعنا، فمن يعمل فلنفسه، ومن يهمل فقد تعرض للخسران.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي شرع لعباده الجُمعَ والجماعات، ليطهرهم بها من السيئات ويرفع لهم بها الدرجات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته والأسماء والصفات، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أُنزل عليه الآيات البينات، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا في جميع الأوقات.
أما بعد: فاتقوا الله -تعالى- حق التقوى وحافظوا على صلواتكم في وقتها، ولا تفرطوا فيها، فإنها منجاة لكم من النار.
ولنعلم أن العبد كلما أذنب ذنبا عرَّض نفسه لعذاب الله وسخطه، فكان لزاما عليه التوبة من هذا الذنب، ولهذا كانت الصلاة أعظم وسيلة شُرعت للتوبة، يتقرب بها العبد إلى ربه -عز وجل-؛ فعن أبي عثمان قال: كنت مع سلمان -رضي الله عنه- تحت شجرة، فأخذ غصنا منها يابسا فهزه، حتى تحات ورقه، ثم قال: يا أبا عثمان، ألا تسألني لمَ أفعل هذا؟ قلت: ولم تفعله؟ قال: هكذا فعل بي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا معه تحت شجرة، وأخذ منها غصنا يابسا فهزه، حتى تحات ورقه، فقال: "يا سلمان ألا تسألني لمَ أفعل هذا"؟ قلت: ولم تفعله؟ قال: "إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلى الصلوات الخمس، تحاتت خطاياه، كما تحات هذا الورق"، وقال: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) [هود:114] (رواه أحمد والنسائي والطبراني).
وروى أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه- قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَا مِنْ عَبْدٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِلاَّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ"، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران:135] (رواه الإمام أحمد الترمذي وأبو داود).
إننا نعيش في بلد مسلم وليس ذلك فحسب، وإنما في مجتمع محافظ عُرف بالتدين، لا يخفى عليه أمر الصلاة ومكانة الصلاة؛ حتى البائع غير المسلم إذا أذن المؤذن أغلق دكانه؛ احتراما لوقت الصلاة، ومع ذلك لا تزال هناك طائفة من الناس يجهلون قدر الصلاة ويتقاعسون عنها.
إن فضائل الصلاة كثيرة جدا، ولو عرضتها لكم لاحتجنا إلى عدة خطب، ولا نستغرب إذا علمنا أن أكثر الأحاديث ذكرا هي في أمر الصلاة؛ ترغيبا وترهيبا وأحكاما، حتى ذكر لنا -صلى الله عليه وسلم- بأن الصلاة هي أفضل الأعمال، وأنها خير موضوع، ومع ذلك نرى بعض الناس قلوبهم غير معلقة بالصلاة، (وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى) [النساء:142]، وما علموا أن أول ما سيحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة؛ فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت خاب وخسر وفسد سائر عمله؛ لأنه أوقد لنفسه نارا لم يطفئها بأداء الصلوات الخمس في وقتها، ومن حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة من النار.
أيها الأخوة: كنا مع خبرٍ حدث هذا الصباح وعرفنا أبعاده وأهميته، ولعلنا نلتقي في خطبة قادمة بإذن الله -تعالى- مع خبر آخر من أحداث الصباح التي حدثت اليوم وتحدث كل يوم.
أسأل الله -تعالى- أن يلهمنا رشدنا، ويبصرنا بعيوبنا، ويحبب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا، ويكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ويجعلنا من الراشدين. اللهم وفقنا لصالح القول والعمل، وجنبنا الزلل. اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، اللهم أحينا على أحسن الأحوال.
اللهم طهر قلوبنا من النفاق، وألسنتنا من الكذب، اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات، اللهم أصلح لنا ديننا.
اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، وأصلح ولاة أمرنا..