الغني
كلمة (غَنِيّ) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (غَنِيَ...
العربية
المؤلف | حمزة بن فايع آل فتحي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
إن التواضع زينة المؤمنين، وسْمتُ المهتدين الذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فساداً، يحبون إخوانهم ويلينون في أيديهم، ولا يظهرون تجبرا ولاعنتا ولا فسادا. أولئك هم الفائزون. إن الشرف كل الشرف أن يتواضع العبد؛ فبتواضعه تتهذب النفس، وينكسر القلب، ويعظم الأجر، ويتعلم الخلق، وتتم له الرفعة في...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الإخوة الكرام: يعتقد كثير من الناس أن جمالهم في الحياة وعظمتهم تكمن في مناصب يتقلدونها، أو مظاهر يتجملون بها، أو ملابس يرتدونها! فقصروا الجمال على منصب دائر، وحدوا العظمة بمظهر زائف، وابتغوا الحُسن في ملبس فاتن!
اعتنوا بالأشكال والمظاهر، وأهملوا الحقائق والمخابر.
رب منصب ليس وراءه إلا لعنات من الناس، وخصومات شديدات، فقدَ به صاحبه مكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب، ورب مظهر جذاب، جَرّ على حامله علياء النفس وكبر القلب، فاكتسى منه صاحبه احتقار الناس، وعناداً وغمطاً للحق والصواب، والله لا يحب المستكبرين.
فاعلموا -يا إخوة- أن تاج الجمال، ودرة الإحسان، أخلاق يحملها العبد، ومحاسن ينيرها, ومكارم يتزين بها: (خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ) [الأعراف: 199].
ليس الجمالُ بمئزرٍ | فاعلم وإن رُدّيتَ بُردا |
إنَّ الجمالَ معادنُ | ومحاسنٌ أورثنَ مجْدا |
روى أحمد في مسنده والبخاري في الأدب المفرد بسند صحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
أيها المسلمون: إننا لنغفل عن كثير من مكارم الأخلاق، وإن من أجلها وأكملها وأطيبها، "خلق التواضع" الذي به خشوع القلب لله، ومحبة الناس، ورحمة الضعفاء والمساكين، قال تعالى آمراً رسوله -صلى الله عليه وسلم- بخلق التواضع: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ) [الشعراء: 215] "والمعنى: ألِنْ جانبَك لمن آمن بك، وتواضع لهم"، وروى الترمذي والبيهقي بسند حسن عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قل: "اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين" وهذا منه عليه الصلاة والسلام تنويهٌ بشرف هذا المقام وفضله، قال ابن الأثير: "أراد به التواضع والإخبات، وأن لا يكون من الجبارين المتكبرين".
وامتدح الله -تعالى- عباده (عباد الرحمن)، وجعل أولى صفاتهم وخلالهم: "التواضع": (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً) [الفرقان: 63]، قال ابن القيم -رحمه الله-: "أي بسكينة ووقار متواضعين، غير أشرين ولا مَرِحين ولا متكبرين".
معاشر المسلمين: إن التواضع زينة المؤمنين، وسْمتُ المهتدين، الذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فساداً، يحبون إخوانهم ويلينون في أيديهم، ولا يظهرون تجبرا ولاعنتا ولا فسادا. أولئك هم الفائزون، روى مسلم في صحيحه عن عياض -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله أوحى إلي أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد".
إن الشرف كل الشرف أن يتواضع العبد؛ فبتواضعه تتهذب النفس، وينكسر القلب، ويعظم الأجر، ويتعلم الخلق، وتتم له الرفعة في الدنيا والآخرة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله".
قال النووي -رحمه الله-: "فيه وجهان: أحدهما: يرفعه الله في الدنيا، ويثبت له بتواضعه في القلوب منزلة، ويرفعه الله عند الناس، ويُجل مكانه. والثاني: أن المراد ثوابه في الآخرة ورفعه فيها بتواضعه في الدنيا.
قال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: "وجدنا الكرم في التقوى، والغنى في اليقين، والشرف في التواضع".
وقال معاذ -رضي الله عنه-: "لن يبلغ العبد ذُرَى الإيمان حتى يكون التواضع أحب إليه من الشرف".
وقال أبو حاتم -رحمه الله-: "التواضع يرفع المرء قدراً، ويعظم له حظراً، ويزيده نبلا".
وقال الحسن -رحمه الله-: "خرج عمر بن الخطاب في يوم حار واضعاً رداءه على رأسه، فمر به غلام على حمار، فقال: أي غلام احملني معك؟ فوثب الغلام عن الحمار، وقال: اركب يا أمير المؤمنين، قال: لا اركب وأنا أركب خلفك، تريد تحملني على المكان الوطيء، وتركب أنت على الموضع الخشن، فركب خلف الغلام فدخل المدينة، وهو خلفه والناس ينظرون إليه".
وقال مالك بن دينار -رحمه الله-:"لو أن منادياً ينادي بباب المسجد: ليخرج شركم رجلاً، والله ما كان أحد يسبقني إلى الباب، إلا رجلاً بفضل قوة أو سعي"، فبلغ ابن المبارك قوله فقال: "بهذا صار مالكُ مالكا".
تواضع تكن كالنجم لاح لناظرٍ | على صفحات الماء وهو رفيعُ |
ولا تك كالدخان يعلو بنفسه | إلى طبقات الجو وهو وضيعُ |
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون: هذه عيون من صور تواضعه صلى الله عليه وسلم يتهالك دونها العظماء, ويحار فيها الكبراء والنبلاء؛ روى أحمد وأبو يعلى بسند حسن: أن الله -تبارك وتعالى- خير نبينا -عليه الصلاة والسلام- بين أن يكون ملكاً نبياً أو عبداً رسولاً، فقال: "بل عبداً رسولاً".
وكان صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لا يأكل متكئاً، يقول: "آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد" (رواه البغوي وهو صحيح).
وفي الصحيحين عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كان يمر على الصبيان فيسلم عليهم".
وفي الصحيحين أيضاً: "أن الأمة من نساء المدينة كانت تأتيه -صلى الله عليه وسلم- فتنطلق به حيث شاءت".
وروى أبو يعلي والطبراني عن سهل بن حُنيف -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأتي ضعفاء المسلمين، ويزورهم ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم" (حديث صحيح).
وعند الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي عن أنس -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله -صلى لله عليه وسلم- يردف خلفه، ويضع طعامه على الأرض, ويجيب دعوة المملوك، ويركب الحمار".
وفي الصحيحين عن أنس -رضي الله عنه- قال: "إن كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليخالطنا حتى يقول لأخٍ لي صغير "يا أبا عُمير ما فعل النُّغير" لنغير كان يلعب به وهو طائر صغير.
وعند أبي داود عن جابر -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتخلف في المسير، فيزُجي الضعيف، ويردف ويدعو لهم".
وفي الصحيح قالت عائشة -رضي الله عنها-: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مهنة أهله، أي خدمتهم، فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة".
أيها الإخوة: هذه بعض أخلاق نبيكم -عليه الصلاة والسلام-، احفظوها وتأملوها، واقتدوا بها فهي منبع الشرف وتاج العز والمجد.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأفعال والأقوال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
اللهم انصر عبادك المؤمنين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين.