الحافظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحافظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن داود الفايز |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات |
الإنسان بلسانه يذكر ربه، ويتلو القرآن، ويدعو إلى الرحمن ويسبح ويستغفر ربه، ويفصح عما في نفسه، ويتكلم مع الآخرين. والأخرس لا يستطيع أن يتحدث مع الناس إلا بلغة الإشارة. واللسان سلاح ذو حدين، والمرء ب...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، فصلوات الله وسلامه عليه.
أما بعد:
اعلموا -يا رعاكم الله- أن نعم الله كثيرة لا تحصى ولا تعد، ومن نعم الله:
اللسان: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ *وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ) [البلد: 8 - 9]؛ فالإنسان بلسانه يذكر ربه، ويتلو القرآن، ويدعو إلى الرحمن ويسبح ويستغفر ربه، ويفصح عما في نفسه، ويتكلم مع الآخرين. والأخرس لا يستطيع أن يتحدث مع الناس إلا بلغة الإشارة.
واللسان -يا عباد الله- سلاح ذو حدين، و"المرء بأصغريه قلبه ولسانه".
فاللسان من نعم الله علينا أن نشكرها -يا عباد الله-، وأن نسخرها لما يحبه ربنا، ولنحذر من آفات وأخطار اللسان، فهي التي تورد الموارد.
والإنسان -يا عباد الله- مسؤول عن كل كلمة يقولوها، يقول الله: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18]، وقال سبحانه: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) [النساء: 114].
نعم -يا عباد الله- الخير أن يتكلم باللسان بما يحبه ربنا، وأن نحذر من آفات اللسان الكثيرة؛ ومنها:
أن يتفوه الإنسان بكلمة الكفر وهو لا يشعر، قد يتكلم الإنسان بالكلمة من السخرية والاستهزاء: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) [التوبة: 65 - 66].
نعم، فالإنسان ربما يتكلم ويسخر، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين: "وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بال يهوي بها في النار كما بين المشرق والمغرب"، وفي الحديث الآخر: "يقول الكلمة لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار سبعين خريفا" -والعياذ بالله-.
فليحذر من السخرية والاستهزاء لا سيما بشيء من أحكام الشريعة ولو على سبيل المزاح، فيحذر الإنسان من هذه الزلة العظيمة.
والإنسان -يا عباد الله- يقع بلسانه في الشرك الأكبر، يذهب إلى الأضرحة والأولياء ولو لم يذهب إليهم يستغيث بهم ويناديهم ويدعوهم من دون الله كما نسمع لمن يقولون: يا حسين ويستغيثون بالحسين، وهو عبد من عباد الله، لا يجلب لنفسه نفعا ولا يدفع عنها ضرا.
وأيضا -يا عباد الله- من أخطار اللسان وآفاته: القول على الله بلا علم، وهو أخطر من الشرك كما قرر ذلك ابن القيم -رحمه الله-، يقول: "لأن الشرك ما وقع إلا بسبب القول على الله بلا علم".
أباحوا الاستغاثة والنذر لغير الله، افتروا على الله، أجازوا الذهاب للأضرحة والقبور، وأجازوا عبادتهم من دون الله، فالقول على الله خطير، والذي يتحدث عن ربه يوقع عن خالقه، والله يقول: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [الإسراء: 36].
بل يجلس الإنسان في مجلس من المجالس ويصدر فتاوى، ويتحدث بقضايا الأمة، ويفتي الفتاوى الكبيرة التي تعقد من أجلها المجامع الفقهية، يتدارس العلماء فيها هذه المسألة، وهذا يجلس في المجلس الواحد ويصدر عدة فتاوى.
فأقول لمن هذا حاله: اتق الله، وقد يبرر بعض الأخطاء، ويدافع عن بعض الأخطاء، فإذا سلم سهمك من هذه الأخطاء ليسلم لسانه -يا عبد الله-.
ومن آفات اللسان -يا عباد الله-: الغيبة، وهي كبيرة من كبائر الذنوب، يصلي الإنسان ويصوم ويتصدق ولكن يهدي الحسنات إلى فلان من الناس وإلى علان من الناس، وقد جاء في الحديث وصححه الألباني كما في صحيح الترغيب والترهيب المرأة التي قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إنها تكثر الصلاة الصيام والصدقة، ولكنها تؤذي جيرانها بلسانها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هي في النار، هي في النار".
أين من يطلقون ألسنتهم بالسب والشتم لأولياء الله وإلى عباد الله؟ ألا يتقي الله أولئك الذين أطلقوا لألسنتهم العنان يتكلمون بما شاؤوا، وربنا -جل وعلا- يقول: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) [الحجرات: 12]، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إياكم والغيبة" قالوا: يا رسول الله وما الغيبة؟ قال: "الغيبة ذكرك أخاك بما يكره".
أخي المبارك: والله الذي لا إله غيره إن من الغبن أن تأتي يوم القيامة وترى أعمالك الصالحة في ميزان غيرك، ترى من أعمالك الصالحة من صلاة ودعاء واستغفار في ميزان أولئك الذين أطلقت لسانك في سبهم وشتمهم، فاتق الله -يا عبد الله-.
ومن آفات اللسان -يا عباد الله-: النميمة، نقل الكلام بين الناس للإفساد بين الناس، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول كما في صحيح البخاري ومسلم: "لا يدخل الجنة نمام".
(وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) [القلم: 10 - 11] ينقل النميمة بين الناس، كم من زوج وزوجة تفرقوا بسبب النميمة؟ كم من صديق وصديق تفرقوا بسبب النميمة؟ كم من البيوت هُدمت بسبب النميمة؟
ألا فليتق الله أولئك الذين ينقلون الكلام ويفسدون بين الناس، وربما بين الأقارب.
ومن آفات اللسان -يا عباد الله-: السخرية واستنقاص الناس، يستنقصونهم لبلدهم أو لحسبهم أو لنسبهم، أو لغير ذلك، والله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات: 11].
لا تلمز أحدا ولا تستنقص أحدا، قالت عائشة: "يا رسول الله عن صفية: حسبك من صفية أنها قصيرة؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته"، فأين الذين يستهزؤون بالناس وبالمدن وبالعشائر وبالقبائل ويغتابون غيبة جماعية ويسخرون سخرية جماعية؟
ألا فليراجع كل واحد منا نفسه ويحاسب نفسه على لسانه، أخرج أبو بكر لسانه وقال: "هذا الذي أوردني الموارد"، وأنتم تعرفون من هو أبو بكر في علمه وزهده وتقواه وورعه، ويقول هذه الكلمة؟
وابن عباس يقول عن لسانه: "قل خيرا تسلم وإن لم تفعل فاعلم بأنك ستنطق الخير تغنم أو اسكت عن سوء تسلم وإلا فاعلم أنك ستندم"، وابن مسعود يقول: "ما من شيء أحوج إلى طول سجن من اللسان".
وعمر كذلك يحذر من أن يطلق اللسان أن يتكلم بما شاء، يقول: "من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه ومن كثرت ذنوبه فالنار أولى به".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
اللهم لك الحمد كله ولك الشكر كله، لك الحمد يا الله حتى ترضى، لك الحمد يا الله إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
اعلموا أن من آفات اللسان: أن يتدخل الإنسان فيما لا يعنيه، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد صحح هذا الحديث بعض أهل العلم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه".
واعلموا -يا رعاكم الله- أن المسلم يسلم المسلمون من لسانه ويده، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"، فإذا وقع -يا عباد الله- المسلم بخطيئة تتعلق بحقوق الغير من القيل والقال، فعليه أن يبادر بالتوبة والرجوع إلى الله -سبحانه وتعالى-، وإذا كان يعلم من حال الشخص أنه يعفو ويتسامح عرف عنه العفو والتسامح فليعتذر منه، ويقول: بدر مني هذا، فأرجو منك المسامحة، ويدعو له، وإن كان يعلم أنه لا يسامح فليدع له بالخير، ويذكره بخير في المجلس الذي اغتابه، وبعض أهل العلم يقولون: يدعو له؛ لأنه ربما يترتب على ذلك المفاسد الكبيرة.
فعلينا -يا عباد الله- أن نتخلص من حقوق العباد؛ لأن حقوق العباد مبنية على المشاحة، كلٌ يريد حقه كاملا يوم القيامة، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم: "يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء يوم القيامة"، نعم، تخلصوا من حقوق العباد، ويعود الإنسان نفسه ألا يتحدث إلا بما يعنيه، وإذا علمت عن مجلس من المجالس أن فيه قال وقال فلا تذهب إلى تلك المجلس، ابتعد عن هذا المجلس، وحافظ على دينك، وحافظ على حسناتك.
هذا، واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ به بنفسه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم تسليما على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
يا لله يا كريم يا حي يا قيوم، اللهم أصلح أحوال المسلمين.
يا من أمرتنا بالدعاء ووعدتنا بالإجابة يا من ترانا الآن وتعلم سرنا ونجوانا: نسألك يا الله بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن تصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم احقن دمائهم، اللهم اجمع قلوبهم، اللهم وحد صفوفهم يا رب العالمين.
اللهم يا حي يا قيوم من أرادنا أو أحدا من المسلمين بسوء، اللهم يا رب فأشغله بنفسه، اللهم اجعل تدبيره في تدميره، وأدر عليه دائرة السوء يا رب العالمين.
يا قوي يا عزيز يا جبار من أرادنا وأحدا من المسلمين بسوء، اللهم انتقم منه يا حي يا قيوم، اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا وعقيدتنا، اللهم من أراد بلادنا بسوء أو سائر بلاد المسلمين اللهم أبطل كيده، واجعله في نحره يا رب العالمين.
اللهم وفق ولاة أمرنا لكل خير يا رب العالمين، وارزقهم الجلساء الصالحين الناصحين.
اللهم يا حي يا قيوم انصر بهم دينك وكتابك وسنة نبيك يا حي يا قيوم، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، اللهم ارحم ضعفهم، اللهم اجبر كسرهم يا حي يا قيوم.
اللهم انصر إخواننا في فلسطين، اللهم انصرهم في غزة، اللهم ثبت أقدامهم وسدد آراءهم وأقولهم وأعمالهم، اللهم انصرهم على اليهود الغاصبين يا رب العالمين، اللهم اشف كل مريض من المسلمين، وفرج همه يا حي يا قيوم.
اللهم اجعلنا ممن يطول عمره ويحسن عمله، وتحسن خاتمته، واجعل قبورنا روضة من رياض الجنة، أظلنا يا الله في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك، بيض وجهنا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وارزقنا صحبة سيد الأنام يا حي يا قيوم في جنات النعيم.
عباد الله: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) [النحل: 90]، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزيدكم: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45].