الحسيب
(الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن صالح العجلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
نحن اليوم مع مدرسة يوسف -عليه السلام-، مع خبر الكريم بن الأكارم، مع أجمل الخلق خَلْقَاً وَخُلُقَاً. لن نقف مع قصة يوسف وحلقاتها وصفحاتها، ولن تستوقفنا الأسماء والأماكن وغريب الروايات، وإنما سنقف اليوم مع إشارات عابرة، وخواطر مُعبِّرة، فقصص القرآن ليست حكايات ماضية، وإنما عبر باقية...
الخطبة الأولى:
إخوة الإيمان: حياتُه مليئة بالمواقف والتغيرات، تقلب فيها ما بين محن مبكيات إلى منح مبهجات، بدايةُ خبرِهِ بلاءٌ وَعَناءٌ، وعاقبة أمره عافيةٌ وهناءٌ، قص الله شأنه في كتابه في سورة كاملة، ووصف الله قصته بأنها أحسن القصص.
نحن اليوم مع مدرسة يوسف -عليه السلام-، مع خبر الكريم بن الأكارم، مع أجمل الخلق خَلْقَاً وَخُلُقَاً.
لن نقف مع قصة يوسف وحلقاتها وصفحاتها، ولن تستوقفنا الأسماء والأماكن وغريب الروايات، وإنما سنقف اليوم مع إشارات عابرة، وخواطر مُعبِّرة؛ فقصص القرآن ليست حكايات ماضية، وإنما عبر باقية (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ)[يوسف:111].
فشكرا شكراً نبيَّ الله يوسف؛ فمن قصتك تعلمنا: كيف نتعامل مع الأحزان، وكيف نتعايش الآلام بنفوس مطمئنة راضية؛ فقد نزلت هذه السورة على نبينا في عام الحزن حين فقد عمه الذي يحميه، وزوجته التي تواسيه.
شكرا نبي الله فلقد علَّمْتنا: ﺃﻥ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﺣﺮﺏ ﻣﺴﺘﻌﺮﺓ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺤﻖ ﻭﺍﻟﺒﺎﻃﻞ ﻻ ﺗﻬﺪﺃ؛ فقد ﺻارعت أهل الشهوات بعفتك، وقابلت دناءة أخوتك بخلقك ورجولتك.
لقد عَلَّمَتْنا قصة يوسف: ﺃﻥ ﺍﻟﻄﻌﻨات ربما ﺗﺄتينا ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻻ ﻧﺤﺘﺴﺐ، فيوسف سلم من الذئب ولم يسلم من طعن ذوي القربى.
وعلمتنا قصة يوسفُ: ﺃﻥ لا يتحدث المرء بكلِّ نعمة وخير، فبعض العيون ﺿﻴﻘﺔ، ﻭأضيق منها قلوب تنظر ﺇﻟﻰ ﻣﺎ ﻓﻲ يد الغير أكثر مما في يدها.
وعلمتنا قصة يوسف: أن عطايا القلب توازي عطايا اليد، وأنه اخوته حسدوه ليس لجماله ولا لإثار والده له بالمال، وإنما لشدة حبه له.
وعلمتنا قصة يوسف: ﺃﻥ ﺍﻟﻤﺠﺮﻣﻴﻦ والمفسدين ربما لبسوا ﺃﺣﻴﺎﻧًﺎ ﺛﻴﺎﺏ ﺍﻟﻨﺎﺻﺤﻴﻦ؛ فقد قال ﺇﺧﻮة يوسف ﻷبيهم: (وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ)[يوسف:11]، وقالوا:(وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[يوسف:12].
وعلمتنا قصة يوسف: ﺃﻥ ﺑﻌﺾ ﺍﻟﺸﺮ ﺃﻫﻮﻥ ﻣﻦ ﺑﻌﺾ، ﻭﺃﻥ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻛﻤﺎ ﻳﺘﻔﺎﻭﺗﻮﻥ ﻓﻲ ﺻﻼﺣﻬﻢ، تماما ﻳﺘﻔﺎﻭﺗﻮﻥ ﻓﻲ ﺷﺮﻫﻢ، ﻭﻗﺪ نجى يوسف بأﻗﻞ ﺇﺧﻮته ﺷﺮًﺍ، حين ﻗﺎﻝ: (لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ)[يوسف:10].
وعلمتنا قصة يوسف: ﺃﻥ ﻻ نبوح ﺑﻤﺨﺎﻭفنا، ﻛﻲ ﻻﻳﺤﺎﺭﺑﻨا بها الحساد، فحين ﻗﺎﻝ يعقوب: (وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ)[يوسف:13]، تذرع حساده بهذا، فقالوا: أكله ﺍﻟﺬﺋﺐ.
وعلمتنا قصة يوسف: أن المجرم مهما تذاكى، فلابد أن يترك أثراً، فقد ادعوا أنَّ الذئب أكل يوسف، وقدموا بقيمصه سليماً لم يمزق.
وعلمتنا قصة يوسف: أن للظالم دموع هطالات، وللحاسد عَبرات، يلجأ إليها للكذب والمخادعة وإخفاء الجريمة.
لقد علمتنا قصة يوسف: الوثوق بمبشرات الخالق، حتى مع صدمات المحن وتمكنها، فيعقوب -عليه السلام- حين صعقوه بخبر أكل الذئب ليوسف، كان جوابه: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً)[يوسف:18]؛ فكيف يأكله الذئب ولما لم تقع رؤيا يوسف في سجود الكواكب له، وقد عرف تأويلها يعقوب -عليه السلام-.
ومن قصة يوسف تعلَّمْنا: ﺃﻥ ﺍﻟﺨﻴﺮ ﻭﺍﻟﺸﺮ ﻟﻴﺲ ﻓﻲ ذوات الأشياء؛ فالوسيلة قد تستخدم في الخير وفي ضده؛ فقميص يوسف استخدم ﻣﺮﺓ ﺃﺩﺍﺓ ﻛﺬﺏ، ﻭﻛﺎﻥ ﻣﺮﺓ ﺩﻟﻴﻞ ﺑﺮﺍﺀﺓ، ﻭﻛﺎﻥ ﻣﺮﺓ شفاء وﺩﻭاء لوالده.
ألا ما أحقر هذه الدنيا حين يباع فيها الكرام بدراهم معدودات، ما أحقرها حين تكون قيمة القامات أن يغيبوا في السجون والظلمات.
لقد علمنا يوسف -عليه السلام-: ﺃﻥ ﺍﻷﻣﺎﻧﺔ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ﻻ تكمل ﺇﻻ ﻣﻊ ﻗﺪﺭﺓ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺨﻴﺎﻧﺔ، ﻭﺃﻥ ﺍﻟﻌﻔﺔ الصادقة ﻻ ﺗﻜﻮﻥ ﺇﻻ ﻣﻊ تيسر دواعي ﺍﻟﺰﻧﺎ، ﻭﻗﺪ كان نبي الله كذلك.
شكراً لك نبيَّ الله فقد علَّمَتْنَا سيرتُك: أن رصيد الإيمان في أيام الرخاء هو زاد المرء في ثباته أمام الفتن وصدمات المغريات.
وعلمنا عفافُك: أن الاستعلاء على الأهواء، وحجم النفس عن الفواحش والمحرمات هي العزُّ والرفعة، والذكر الخالد، والأجر الباقي؛ فمن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.
سلام عليك نبي الله؛ فقد تعلمنا منك: أن التعلُّلَ بتغيرِ الأحوالِ عليل؛ فكل دواعي الفاحشة قد تهيأت لك، فأنت أمامْ امرأة عزيزة جميلة، ثرية منيعة، ﺃﻏﻠﻘتِ ﺍﻷﺑﻮﺍﺏ، ﺭﺍﻭﺩت، تحرشت، هددت، توعدت، لكن الإرادة اليوسفية قالت: معاذ الله.
وفي موقف يوسف مع امرأة العزيز درس في الهروب من مواقع الفتن وأماكن الريبة والمنكرات، وأن الحل: (فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[الأنعام:68].
لقد تعلمنا منك نبيَّ الله قيمة الإخلاص ومراقبة الله، وأن نهاية طريق المخلصِين الوصول إلى جنة المخلَصين (إنه من عبادنا المخلَصين (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)[يوسف:-24].
لقد علمنا النبي الكريم: أن الأخلاق لا تغيرها الظروف والأحوال، وأن المعدن الأصيل لا تؤثر فيه القلة ولا الكثرة، فقد قيل ليوسف وهو في السجن:(إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)[يوسف:36] ، وقيل له وهو على خزائن مصر:(إنا نراك من المحسنين)[يوسف:78].
شكراً نبي الله الكريم، فقد علمتنا: أن الحقيقة قد تغيب وأن الحق قد يخنق، لكنه غياب لا يدوم، وخنق لا يموت، لقد غيبت سلطة مصر الحق عن الناس سنوات عديدة، لكن ضياء الحق أسفر لينطق على لسان الخصم: (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ)[يوسف:51].
وعلمتنا قصة يوسف: أن أقوالك وأفعالك وحياتك -أيها الإنسان- تظل مواقف تسطر في أذهان الناس، وهي شاهدة إما لك أو عليك، فيوسف -عليه السلام- برَّأْنَهُ النِّسوةُ فَقُلْنَ: (حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ)[يوسف:51].
وعلمتنا قصة يوسف: أن أهل المصالح تتغير أساليبهم وخطاباتهم مع مصالحهم، فحين أراد الإخوة أن يخرج يوسف معهم قالوا لأبيهم: أرسل معنا أخانا، في حين تغير خطابهم مع أخيهم الآخر، فقالوا عنه:(إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ)[يوسف:81].
شكرا يوسف -عليك السلام-؛ فلقد علمتنا أن التغافل عن الأخطاء والسفاهات هي تاج الأخلاق التي لا يطيقها إلا الكُمَّل من الرجال؛ فيوسف -عليه السلام- حين سمع تهمة إخوانه عنه: (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ)[يوسف:77] تغافل وتجاهل وأسرها في نفسه ولم يبدها لهم.
شكراً أيها النبي الكريم؛ فلقد أعطيتنا دروسا في فن انتقاء الألفاظ، وعدم جرح المشاعر، فالكبار والقدوات يترفعون عن الانتقامات وتصفية الحسابات، فرغم ما حصل ليوسف وما لاقاه، يخاطب والده وإخوانه فيقول: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي)[يوسف:100]، ولم يشر أبداً إلى حادثة البئر، حتى لا يحرج إخوته.
وعلمنا يوسف أيضاً: قيمة التواضع وهضم النفس وبالذات مع الأقارب، فقد قال يوسف لإخوته بعد أن عرفهم وعرفوه: أنا يوسف وهذا أخي، ولم يتعالى عليهم بمنصبه وقد كان فيه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ)[يوسف:111].
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فيا إخوة الإيمان: ومن العبر في قصة يوسف -عليه السلام-: أن أمر الناس إذا تحكم فيه السفهاء وأهل الأهواء عم بعده البلاء، وحلَّ الظلم والشقاء، فقد جاهرت امرأة العزيز بفسوقها وانحرافها وقالت:(وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ)[يوسف:32].
وعلمتنا مدرسة يوسف: ﺃﻥ التخطيط هو أساس النجاح؛ فبهذا التدبير نجح يوسف في تحقيق هدفه في إحضار أخيه، وبالتخطيط الجيد نجح أيضأ في مواجهة أزمة اقتصادية منتظرة لا تبقي ولا تذر..
وعلمتنا القصة: أهمية المبادرة إذا لا حت الفرص؛ فيوسف -عليه السلام- حين رأى احتفاء الملك به قال: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)[يوسف:55].
وعلمنا النبي الكريم: قيمة العفو والصفح، فهذه الآلام التي تجرعها يوسف من الإلقاء في اليم والغربة والسجن، إنما كانت بسبب إخوته، ومع ذلك قابل السيئة بالعفو والإحسان والدعاء، فـ (قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ)[يوسف:92]، إنها مشاعر نبوية نبيلة تتقاصر الكلمات في وصفها ومدحها.
وعلمنا النبي الكريم: أن الالتجاء إلى الله إذا لاحت الفتن هو المخرج والملجأ، ولذا جأر يوسف إلى ربه: (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ)[يوسف:33].
وعلمتنا قصة يوسف: جواز الحيلة لإحقاق حق أو تحقيق مصلحة الشرعية، فقد أمر يوسف المؤذن أن ينادي: (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ)[يوسف:70]، وهم في الحقيقة لم يسرقوا شيئاً، ولكن يوسف أراد بهذه المكيدة مصلحة إبقاء أخيه معه، قال تعالى: (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ)[يوسف:76].
وعلمتنا قصة يوسف: أن الزمان يتقلب وأن الدنيا خداعة دوارة، فقد يصبح المرء مدللاً في أهله، ثم يمسي فقيراً يباع بأبخس الأثمان، وقد يكون معدوماً مقهوراً ثم يصير عزيزاً مطاعاً.
وعلمتنا مدرسة يوسف: أن الله غالب على أمره، وأن تدبيره فوق كل تدبير، فقد كان تدبير إخوة يوسف: (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً)[يوسف:9]، وكان تدبير الخالق:(وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ)[يوسف:6]، أردوا قتله، وأراد الله أن يكون نبياً، أرادوا إخفائه، وأراد الله أن يبقى خالداً.
وعلمتنا قصة يوسف: أن فرج الله يأتي بعيداً عن توقع الناس؛ فرؤيا الملك كانت سبباً في تبرئة يوسف، وخروجه من أزمته، وقيادته لخزائن مصر بعد ذلك.
شكراً نبي الله الكريم؛ فقد علمتنا أن نقابل النعم بالشكر، وأن ننسب كل فضل لله تعالى، وأخذنا منك دروساً في طلب الثبات، وحسن الختام: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)[يوسف:101].
عليك السلام يا نبي الله؛ فقد كانت حياتك ملأى بالتفاؤل رغم الجراح، وأن آلامك كأنما تخاطب البشرية برفع الظلم، ونصرة الدين، والانتقام من المجرمين، (ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين).
تلك -عباد الله- لمحات عابرة من أحسن القصص، وخواطر من سيرة النبي الكريم، لم نسبُرْ أغوارَها، ولم نَكتشفْ مِعْشارَها؛ فصلى الله وسلم وبارك عليك يا نبي الله، وجمعنا وإياك في دار كرامته ومستقر رحمته.