الإله
(الإله) اسمٌ من أسماء الله تعالى؛ يعني استحقاقَه جل وعلا...
العربية
المؤلف | عمر القزابري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
نتكلم اليوم عن الرحمة في زمن عمت فيه مظاهر القسوة والغلظة، في زمن تنبعث فيه أصوات المظلومين والمعذبين فلا تجد لصوتها صدى ولا لاستغاثتها أثرًا. يكفي أن تقلب النظر في أحوال المسلمين جماعات وأفرادًا لتقف على الأهوال التي يشيب لها الولدان. إن من أعظم ما يتميز به المؤمن الصادق الموصول بالله المتشبع بمعاني الالتزام أنه يحمل بين جنبيه قلبًا حيًّا مرهفًا لينًا رحيمًا يرق للضعيف ويألم للحزين ويحن على المسكين ..
الخطبة الأولى:
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا.. وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما، وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم أنفثهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورحمة حاشاه ربه عيبًا ووصمًا وذكاه روحًا وجسمًا وآتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى.. صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا..
معاشر الصالحين: إن الله تعالى أطلع أهل المعرفة على تلاطم أمواج بحار خواطر القلوب، وأشرفهم على خزائن الأسرار وبواطن العلوم التي لا يُحصى عددها ولا ينقطع مددها، ولا يدرك قعرها، ولا يفنى عجائبها، حتى يغوصوا بنور المعرفة في قعر بواطن إشاراتها المكنونة، في معانيها المخزونة فيستخرجوا عجائب فوائد ولطائف زوائد، وحقائق إشارات، تحيا منها قلوب المحبين، وتستأنس بها أرواح المريدين، وهى نور من أنوار الهداية، يهتدي به العبد إلى طريق حسن الرعاية إذا أدركه من الحق التوفيق والعناية.
وهذه الإشارات واللطائف والأسرار والأنوار لا تُدرك إلا من خلال التعامل مع كتاب الله ومع أحاديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقد سمى الله السنة بالحكمة فقال (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) [الجمعة:2] وقال تعالى: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ) [الأحزاب:34]، والحكمة كالنهر الجاري يشرب منه الوارد، ويُحرمه الشارد، ولكل مجتهد نصيب، وفضل الله لا يحجر.
أيها الأحباب: نقف اليوم عند منبع من منابع أنهار الحكمة النبوية التي تتدفق على أرض القلوب فتهتز وتربو بإذن ربها، وما أحوجنا إلى هذا المنبع السني والمشرب الهني والمسلك الرضي؛ فعن عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" رواه الترمذي وأبو داود.
هذا الحديث الشريف فيه من أسرار العلم بالله العجائب، أمر فيه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بالرحمة لمن في الأرض من المخلوقين لتحصل بذلك الرحمة للعبد من كل في السماء من الملأ الأعلى، فإن السماء طريق تنزل الرحمات الربانية ومحل الإفاضات الإلهية ومقر الملائكة الذين جعلهم الله وسائط أسراره بينه وبين خلقه.
فإذا ألقى الله الرحمة في سر ملك الرزق طاب الرزق، وإذا ألقاها في سر كاتب الأعمال أنساه السيئات، وإذا ألقاها في سر الرقيب أعان ورفق.
نتكلم اليوم عن الرحمة في زمن عمت فيه مظاهر القسوة والغلظة، في زمن تنبعث فيه أصوات المظلومين والمعذبين فلا تجد لصوتها صدى ولا لاستغاثتها أثرًا. يكفي أن تقلب النظر في أحوال المسلمين جماعات وأفرادًا لتقف على الأهوال التي يشيب لها الولدان.
وطالعتنا الجرائد مؤخرًا عن تلك الطفلة الضعيفة التي قتلت على يدي مشغلتها بمدينة الجديدة، الطفلة التي لا ذنب لها إلا الفقر والحاجة، التي رمت بها في أحضان هذه المرأة التي خلا قلبها من الرحمة لتنهال عليها ضربا وحشيا لم يتوقف إلا عندما توقفت أنفاس الطفلة التي قتلت دون ذنب جنته!!
والغريب أن الزوج شاهد الضرب ومع ذلك لم يحرك ساكنًا، بل خرج ليجلس في المقهى ليرجع وقد تحولت الطفلة إلى جثة هامدة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ما هذه القسوة؟! ما هذا العتو؟! ما هذا الظلم؟! ما هذا العفن؟!
إن تبلد الحس يهوي بالإنسان إلى منزلة بهيمية أو أحط والإنسان بغير قلب رحيم أشبه بالآلة الصماء أو بالحجر الصلب.
إن الإنسان لا يتميز في إنسانيته إلا بقلبه وروحه لا في أكوام لحمه وعظامه، إن من الناس من تراهم يحملون بني آدم ولو أطلعك الله على قلوبهم لرأيت قلوب أقسى من الجبال وهؤلاء وأمثالهم هم أبعد الناس عن رحمة الله وعفوه.
إن الإحسان إلى الخدم والترفق بهم فيما يكلفون به من أعمال والتجاوز عن هفواتهم من علامات الكبار، من علامات الأطهار الذين زكى الله أرواحهم.
وهذا سيد الأولين والآخرين سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول عنه سيدنا أنس -رضي الله عنه-: "خدمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، والله فما قال لي أف قط، وما قال لي لشيء صنعته لما صنعته؟ ولا لشيء تركته لم تركته"؟ رواه مسلم.
وعن أبي مسعود البدري -رضي الله عنه- قال: "كنت أضرب غلاما لي، فسمعت من خلفي صوتًا: اعلم، أبا مسعود! فلم أفهم الصوت من الغضب فلما دنا فإذا هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإذا هو يقول: اعلم، أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك عليه على هذا الغلام فقلت: يا رسول الله! هو حر لوجه الله، فقال: أما إنك لو لم تفعل، للفحتك النار".
وجاء رجل يسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كم أعفو عن الخادم؟ فقال: "كل يوم سبعين مرة" أخرجه أبو داود
فأين هؤلاء الفراعنة من هذا الهدي النبوي؟ أين هؤلاء القساة الغلاظ من هذه الرحمة النبوية، بعض الناس يهنون الخادمات ويخيل إليهم أنهن من جنس آخر غير جنس البشر، إهانات وضرب وازدراء واحتقار، بل وصل الأمر إلى القتل! إن هذا كله من علامات الشقاء في الدنيا والآخرة.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا تنزع الرحمة إلا من شقي" رواه الترمذي وأبو داود.
وعن جرير بن عبدالله -رضي الله عنه- قال، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يرحم الله من لا يرحم الناس" رواه البخاري ومسلم.
بل إنه -صلى الله عليه وسلم- علق الإيمان على وجود الرحمة فيك فقال: "لن تؤمنوا حتى ترحموا" قالوا: كلنا رحيم يا رسول الله، قال: "إنه ليس برحمة أحدكم صاحبة ولكنها رحمة الناس رحمة العامة" رواه الطبراني وصححه الألباني.
إنه حديث عظيم يبين أن الرحمة ليست أن ترحم أبناءك فقط أو أصحابك أو المقربين منك ولكن الرحمة أن تكون منك عامة للخلائق كلها.
فربنا -جل في علاه- وهو الخالق العظيم وهو الغني الحميد متصف بالرحمة صفة لا تشبه صفات المخلوقين فهو أرحم الراحمين وخير الراحمين وسعت رحمته كل شيء.
وملائكة الرحمة وهي تدعو للمؤمنين أثنت على ربها بهذه الصفة العظيمة فقالت (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) [غافر:7] وفي الحديث القدسي: "إن رحمتي تغلب غضبي" رواه البخاري ومسلم.
وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من السبي، فإذا امرأة من السبي تبتغي إذا وجدت صبيًّا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار"؟ قلنا: لا والله! وهى تقدر على أن لا تطرحه. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فالله تعالى أرحم بعباده من هذه بولدها" أخرجه البخاري.
فهذا ربنا -جل في علاه مع عظمته وعلوه وكبريائه- يرحم عباده يجزي المحسن، يعفو عن المسيء، يستر العيب، يجيب دعوة المضطر، يكشف السوء؛ فلماذا نقسو ونجفو ونعتدي ونظلم.
يقول سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من لا يرحم لا يُرحم"، وهذا الحديث العظيم من جوامع كلمه -صلى الله عليه وسلم- فهو حديث صغير المبنى كبير المعنى.
يقول ابن بطال -رحمه الله معلقًا على هذا الحديث-: "في هذا الحديث الحضّ على استعمال الرحمة للخلق، فيدخل المؤمن والكافر، والبهائم المملوك فيها وغير المملوك، ويدخل في الرحمة التعاهد بالإطعام والمساعدة في الحمل وترك التعدي بالضر".
إن من أعظم ما يتميز به المؤمن الصادق الموصول بالله المتشبع بمعاني الالتزام أنه يحمل بين جنبيه قلبًا حيًّا مرهفًا لينًا رحيمًا يرق للضعيف ويألم للحزين ويحن على المسكين ويمد يده إلى الملهوف وينفر من الإيذاء ويكره الجريمة.
إذا صدرت منه كلمة إساءة في حق أحد تألم واضطرب وهجره النوم إذا نصح فبرحمة وإذا أمر فبرحمة وإذا غضب فغضبه لا يخلو من رحمة (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر:18].
جعلني الله وإياكم ممن ذُكر فنفعته الذكرى وأخلص لله عمله سرًّا وجهرًا، آمين.. آمين، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب تبيانا لكل شيء وجعله شفاء لكل عي، وهدى من كل غي، والصلاة والسلام على نبيه محمد المبعوث من أشرف قبيلة وأكرم حي، وعلى آله وصحبه ما لجأ ظامئ لري وأوى ضاح إلى في..
معاشر الصالحين: إذا كان الأمر كذلك فإن أولى الناس وأحقهم بالرحمة وأمنهم بها وأولاهم بها الوالدين فببرهما تستجلب رحمات الله وبالإحسان إليهما تحصل السعادة، وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك تعبيرًا يرقّ ويشف حتى يبلغ الغاية، قال الله (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء:24].
تعبير عظيم معجز طلب منك أن ترحمهما ولم يكتفي بذلك وأمر أن تطلبا لهما الرحمة من الله، ثم ذكرك أن ذلك ليس منة منك ولا تفضل، بل إنما هو شيء بسيط من رد الجميل (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء:24] فقبّل اليد والرِّجْل وقابل الإحسان بالمثل فليس لبرهما مثل ولا عدل.
ثم من بعد ذلك الأولاد فلذات الأكباد ما أحوجهم إلى رحمتنا وعطفنا وحنونا، عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأخذني فيقعدني على فخده، ويُقعد الحسن على فخده الأخرى ثم يضمهما ثم يقول: "اللهم ارحمهما فإني أرحمهما" أخرجه البخاري.
والشاهد -أيها الأحباب- أن في الناس أجلافًا تخلو قلوبهم من الرقة والحنو في مسالكهم فظاظة وفي ألفاظهم غلظة لو صدر من الطفل مخالفة أو صراخ أو ما شابه ذلك لتعرض للضرب والشتم والتعنيف دون مراعاة لسنه وحاله وضعفه.
قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحسن والحسين رضي الله عنهما وعنده الأقرع بن حابس فقال الأقرع متعجبًا: "إن لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحدًا" فنظر إليه رسول الله وقال: "أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك" وفي رواية "من لا يرحم لا يُرحم" أخرجه البخاري.
وليس معنى هذا المبالغة في الدلال والسكوت عن المخالفة بل ربما تكون القسوة أحيانا هي عين الرحمة ولله در القائل:
ثم قسا ليزدجروا، ومن يك راحما | فليقسُ أحيانا على من يرحم |
فقد أمر -صلى الله عليه وسلم- وهو أرحم الناس أمر بضرب الأولاد من أجل الصلاة لعشر سنين كما هو معلوم.
ومن أولى الناس كذلك بالرحمة الزوجة، بل إن هذه الرحمة بين الزوجين هي من آيات عظمة الله تعالى، قال تعالى: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم:21].
هذه الزوجة التي تتعب من أجلك ومن أجل أولادك حقيقةً بأن تُرحم ويُتجاوز عن سهوها وخطأها، بعض الناس يقيم الدنيا إذا تأخر الغداء عن وقته، بل يصل به الأمر إلى السب واللعن والضرب والتشويه وهذا والله ليس شأن الموصولين بالله المقتضيين برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأين الرحمة والعفو والصفح، فليست الفحولة والرجولة بالسب والضرب والشتم ولكنها بالعفو والصفح والنصح بالتي هي أحسن.
فهذا سيدنا عمر بن الخطاب وهو من أعظم الرجال في التاريخ كان يصبر على زوجته ويتحملها ويخفض لها الجناح ليس تذلل ضعف ولكنه عظمة ذوق.
وقد قال -رضي الله عنه- لرجل يريد أن يطلق امرأته لم تطلقها؟ فقال: لأني لا أحبها، فقال -رضي الله عنه-: "أوكل البيوت بنيت على الحب! فأين الرعاية والتذمم".
وأجمل منه قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي".
بل إنه -صلى الله عليه وسلم- تحلى بالصبر والتأني والرحمة في أخطر القضايا الزوجية التي مرت به -صلى الله عليه وسلم- وهي قضية الإفك صبر وتحمل حتى جاءه الفرج صلى الله عليه وسلم.
فرحمتك لزوجتك مظهر من مظاهر رقيك وفهمك ونبلك ورب كلمة نصح تترك أثرا أعمق من الضرب وأشد من التعنيف.
ودع رجل من السلف زوجته وكان يريد سفرًا طويلاً فقال:
عدي السنين لغيبتي وتصبري | وذري الشهور فإنهن قصار |
فأجابته بقولها:
فاذكر صبابتنا إليك وشوقنا | وارحم بناتك إنهن صغار |
فأقام وترك السفر، ألغى هذا السفر.
لله دره على ذوقه، ولله درها على ذكائها، ومعلوم -أيها الأحباب- أن أعظم خصال المرأة بعد دينها "الذكاء"، ومن ابتُلي بالغباء فليصبر على البلاء وليقل بلسان الحال والمقال (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) [الدخان:12].
ويرتبط بالوالدين والأولاد والزوجة حق ذوي الأرحام، فالرحم مشتقة من الرحمة في مبناها، فحري أن تستقيم معها في معناها وفي الحديث "الرحم شَجْنَةٌ من الرحمة – يعني جزء من الرحمة- من وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله".
فلا يليق بالمسلم أن يوصد قلبه وبيته دون أقاربه أو يقطع علاقته بهم فلا يسدي لهم عونا ولا يواسيهم في ألم ولا يبادرهم في معروف، إن الغلظة والجفاء والقطيعة والصدود في حق ذي الرحم تحرم العبد بركة الله وفضله وتعرضه لسخطه وعذابه.
يكفي في بيان ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تنزل الرحمة على قوم فيهم قاطع رحم" رواه مسلم.
وممن تتطلب حالتهم الرحمة المرضى وذوي العاهات والإعاقات فهم يعيشون في الحياة بوسائل منقوصة تعوق مسيرهم وتحول دون تحقيق كل مقاصدهم، فلقد قيدتهم عللهم واجتمع عليهم حر الداء مع مر الدواء فيجب الترفق بهم والحذر من الإساءة إليهم أو الاستهانة بهم فإن ذلك جرم عظيم.
قال الله: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) [النور:61] ومع الأسف فإن الناظر إلى أحوال مستشفياتنا في الغالب يشعر بالألم لما يرى من مظاهر القسوة والغلظة إلا من رحم الله.
أصبح الميزان في التعامل هو المال يُقدم الغني ويحتفى به، ويرد الفقير ويطرد، مستشفياتنا فرخت فيها الرشوة من يدفع يُرفع، ومن لا يدفع يُدفع، حتى رأينا المرأة تضع وليدها على الرصيف في صورة من صور الانحطاط وخلو القلب من الله إلا من رحم الله.. والأخيار موجودون ولكنهم قلة.
ولكن كيف للرحمة أن تسكن قلبا سكنته الربا، حتى أصبح المريض في الغالب ينظر إليه على أنه مشروع ترد من خلاله ديون البنوك، وهذا والله من نكد العيش.
من أرقى مظاهر الرحمة كذلك في شرعتنا المطهرة، الرحمة بين الراعي والرعية، فالراعي يرحم الضعيف ويغيث الملهوف ويقدم الرعية على نفسه العدل شعاره، والتواضع دثاره، قد جعل الآخرة نصب عينيه، يتذكر يوم الوقوف بين يدي ربه يوم يأتي مغلولا إما أن يفكه عدله أو يوبقه جوره.
وإن ما رأيناه مؤخرًا وما نراه في كثير من البلاد الإسلامية يدل على أن الأمر على خلاف ذلك إلا من رحم الله، فقد رأينا شعوبا تُذبح وتقتل كما فعل جبار ليبيا الذي أذله الله، وكما هو حاصل في سوريا واليمن ومن قبلهم تونس ومصر..
قتل واغتصاب وضرب ونهب للخيرات والثروات وظلم واستبداد فأين الرحمة؟ أين العفو؟ أين هؤلاء من هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورحمته وعطفه وحنانه، ولكن الله بالمرصاد لكل ظالم.
أين هؤلاء من رحمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القائل: "إني لأقوم في الصلاة – في الصلاة تأملوا – أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه".
فهؤلاء لم يحركهم بكاء الأطفال ولا صرخات الثكالى وكل ذلك من أجل عرض من الدنيا قليل (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج:46].
أيها الأحباب: فتعاليم الإسلام وتعليم الدين في هذا الباب تتجاوز الإنسان الناطق إلى الحيوان الأعجم، فجنات عدن تفتح أبوابها لامرأة بغي سقت كلبا فغفر الله لها، ونار جهنم فتحت أبوابها لامرأة حبست هرة حتى ماتت فلا هي أطعمتها وسقتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض.
فإذا كانت الرحمة بالكلاب تغفر ذنوب البغايا فإن الرحمة بالبشر تصنع العجائب، وفي المقابل إذا كان حبس الهرة أوجب النار فكيف بحبس الأبرياء من الأخيار والأبرار.
وتترقى تعاليم ديننا في الرحمة بالبهائم حتى في حال ذبحها، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبحته".
اللهم أصلح أحوالنا واجعل بطاعتك اشتغالنا وإلى الخيرات مآلنا..