الغني
كلمة (غَنِيّ) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (غَنِيَ...
العربية
المؤلف | عامر بن عيسى اللهو |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
والحديث عن سلامة القلوب من أيسر الأحاديث وأسهلها عند الكلام؛ لكنه في الوقت ذاته من أشد الأمور وأصعبها عند التطبيق ولكنه يسير على من يسّره الله عليه إذ كلنا يعرف أن نجاة العبد يوم القيامة مرتبطة بسلامة قلبه.. تذكر ما لسليم الصدر عند الله من الأجر العظيم...
الخطبة الأولى:
لا شك أن بعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- أعظم مشروع إصلاحي عرفه التاريخ؛ فببعثته -صلى الله عليه وسلم- صلحت الأرض وزكت النفوس وتطهرت القلوب وعُرفت الحياة على حقيقتها والغاية منها كما صلحت أحوال الناس وتعاملاتهم.
إن البرية يوم مبعث أحمد | نظر الإله لها فبدّل حالها |
ومن أعظم أنواع الإصلاحات إصلاح القلوب؛ لأن القلب هو ملك الأعضاء وقائدُها لذلك علق الرسول -صلى الله عليه وسلم- صلاح الجسد كله بصلاح القلب في الحديث المشهور المتفق على صحته حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه- وفيه: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب".
قال الحسن البصري -رحمه الله-: داو قلبك؛ فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم، يعني أن مراد الله من عباده ومطلوبة صلاح قلوبهم.
والحديث عن القلب -يا عباد الله- حديث ذو شجون، لكن لعلنا ننبه إلى جانب واحد من جوانب إصلاح القلب جانب تشتد الحاجة إليه، ويجدر التنبيه عليه في وقت انشغل أكثر الناس فيه بالظواهر واستهانوا بأمر البواطن مع أن الله تعالى لا ينظر إلى الأجساد والصور، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال هذا الجانب -يا عباد الله- هو سلامة الصدر أي: طهارته من الغل والحقد والبغي والحسد؛ فإن الإسلام قد حرص حرصا أكيدا على تأليف القلوب بين المسلمين وإشاعة المحبة والمودة وإزالة العداوة والتشاحن لذلك امتنّ الله على رسوله -صلى الله عليه وسلم- بأن أوجد له طائفة من المؤمنين متآلفة قلوبهم؛ فقال -سبحانه-: (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[الأنفال: 62- 63].
والحديث عن سلامة القلوب من أيسر الأحاديث وأسهلها عند الكلام؛ لكنه في الوقت ذاته من أشد الأمور وأصعبها عند التطبيق ولكنه يسير على من يسّره الله عليه إذ كلنا يعرف أن نجاة العبد يوم القيامة مرتبطة بسلامة قلبه، قال تعالى عن إبراهيم -عليه السلام-: (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 87 - 89].
وكلنا يعرف نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن التدابر قال -عليه الصلاة والسلام-: "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث" (رواه البخاري)
وروى ابن ماجه في سننه بسند صحيح عن عبدالله بن عمرو -رضي الله عنه- ما قال: قيل يا رسول الله أي الناس أفضل؟ قال: "كل مخموم القلب صدوق اللسان، قالوا: صدوق اللسان نعرفه؛ فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي الذي لا إثم فيه، ولا بغي، ولا غل، ولا حسد".
وتأملوا -معشر المؤمنين- في تعبير النبي -صلى الله عليه وسلم- بـ "مخموم القلب"، والمخموم: من خممت البيت إذا كنسته أي أنه ينظف قلبه في كل وقت بين الفينة والأخرى مما يدل على أن الأمر ليس بالسهل ولابد له من مجاهدة وصبر ولا يقوى عليه إلا الأشدّاء من الناس لذلك استحق رتبة أفضل الناس وكان عند الله بالمكانة العليا وهذا هو حال صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين أثنى الله على أخلاقهم وجعل لهم نصيباً من الفيء والغنائم، فقال -سبحانه-: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا) [الحشر: 8]، وهم المهاجرون، ثم قال: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9]، وهم الأنصار فيا لها من شهادة حيث يكشف الله عن مكنون صدورهم ويخبر أنهم لا يحملون في قلوبهم غلاً ولا حقداً أو حسداً على إخوانهم المهاجرين لكونهم أفضل منهم؛ فقد جمع المهاجرون بين النصرة والهجرة.
ثم بين الله حال من جاء بعد الصحابة إلى يوم القيامة وما ينبغي أن يكونوا عليه من محبة للصحابة وللمؤمنين بصفة عامة وسلامة للصدر عليهم فقال: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر: 10]؛ فما أجمل أن يتمثل المؤمن هذا الدعاء وأن يلهج به صباح مساء؛ فإن كثيراً من الناس اليوم يتورع عن أكل الحرام أو النظر الحرام ويترك قلبه يرتع في مهاوي الحقد والحسد والغل.
قال ابن رجب -رحمه الله- عن بعض السلف: "أفضل الأعمال سلامة الصدور وسخاوة النفوس، والنصيحة للأمة وبهذه الخصال بلغ من بلغ لا بكثرة الاجتهاد في الصوم والصلاة"، أرأيتم كيف شهد النبي -صلى الله عليه وسلم- لرجل من أصحابه بالجنة مع شهادة الرجل على نفسه أنه ليس كثير صلاة فما السر في ذلك؟
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "كنا جلوساً مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة" فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد علق نعليه في يده الشمال؛ فلما كان الغد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل مقالته أيضا، فطلع ذلك الرجل على مثل حالته الأولى فلما قام النبي -صلى الله عليه وسلم- تبعه عبدالله بن عمرو بن العاص فقال: إني لا حيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثاً فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت فقال: نعم قال أنس وكان عبدالله يحدّث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث؛ فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا تعار وتقلب على فراشه ذكر الله -عز وجل- وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر قال عبدالله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرا، فلما مضت الثلاث ليال، وكدت أن أحقر عمله قلت: يا عبدالله إني لم يكن بيني وبين أبي أيُّ غضبٍ ولا هجر ولكن سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لك ثلاث مرار: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلعت أنت، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه، فقال عبدالله: "هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق" (رواه الإمام أحمد).
أعرفتم أيها المسلمون أهمية سلامة الصدور وأي مكانة لها عن ربنا العزيز الغفور؟!
بارك الله لي ولكم في القرآن...
الخطبة الثـانية:
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون: بعد أن عرفنا ما لسلامة الصدر من الأجر العظيم والخير العميم لعلنا نلتمس الأسباب المعينة على ذلك لنجاهد أنفسنا على تطبيقها علَّ الله تعالى أن يجعلنا من أهل القلوب السليمة؛ فمن ذلك:
الدعاء: فهو من أعظم الأسباب وقد تقدم دعاء المؤمنين، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الحشر: 10]، وكان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-، "وأسألك قلباً سليما" (رواه الإمام أحمد).
حسن الظن بالناس وحمل الكلام على أحسن المحامل: وهذا كثيراً ما يوقع الناس في التباغض أن يحمل الإنسان الكلمة التي خرجت من أخيه على محمل سيء ويفسرها تفسيراً خاطئاً لا يكون المقابل بالضرورة يقصده، قال عمر -رضي الله عنه-: "لا تظن بكلمة خرجت من أخيك شراً وأنت تجد لها في الخير محملاً وإليكم هذه القصة فقد جاء أحد الناس إلى الإمام الشافعي يعوده في مرضه، فقال له: قوّى الله ضعفك"، فقال الشافعي-رحمه الله-: "لو قوّى ضعفي لقتلني قال الزائر: والله ما أردت إلا الخير فقال الإمام: أعلم أنك لو سببتني ما أردت إلا الخير".
البعد عن مجالسة النمامين الذين ينقلون الكلام بغرض الإفساد: فهم رسل إبليس في الوقيعة بين الناس، قال يحيى بن كثير: "الذي يعمل النمام في ساعة لا يعمله الساحر في شهر، ولو كان كلام النمام صحيحاً فرد كيده في نحره واعف عمن أساء إليك أو تكلم فيك"، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- "لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر".
إهداء الهدية: فإن لها أثراً في تطييب الخواطر وإذهاب وغر الصدور وقد جاء في الحديث "تهادوا حابوا"
(رواه البخاري).
الرضا عن الله وبما قسمه للعبد: فهو من أفضل العلاج، قال ابن القيم -رحمه الله-: "وتستحيل سلامة القلب مع السخط وعدم الرضا وكلما كان العبد أشد رضاً كان قلبه أسلم فالخبث والدغل والغش قرين السخط وسلامة القلب وبره ونصحه قرين الرضا".
تذكر ما لسليم الصدر عند الله من الأجر العظيم: فإن الله وصف أهل الجنة بقوله، (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ)[الحجر: 47- 48].
نسأل الله أن يطهر قلوبنا من الغل والحسد والشقاق والنفاق وسيء الأخلاق.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.