العربية
المؤلف | محمد بن صالح بن عثيمين |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة - الحكمة وتعليل أفعال الله |
أربع عقوبات عظيمة كل واحدة منها توجل القلب، وتفزع النفس. (جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا) فيا ويله ما أصبره على نار جهنم، وقد فضلت على نار الدنيا كلها بتسعة وستين جزءا؟! (وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ) وبئسما حصل لنفسه من غضب الرب العظيم عليه. (وَلَعَنَهُ) فطرده وأبعده عن رحمته. (وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا). ويل لقاتل المؤمن المتعمد، ويل له من...
الخطبة الأولى:
الحمد لله القوي العظيم، الرءوف الرحيم، يقضي بالحق، ويحكم بالعدل، وهو الحكيم العليم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أرجو بها النجاة من العذاب الأليم، والفوز بالنعيم المقيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم على الصراط المستقيم، وسلم تسليما.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-، واشكروه على ما أنعم به عليكم من حماية الدين، والنفس والمال والعرض.
فلقد حمى الله لكم الدين بما أقام عليه من الآيات البينات، حتى تتمسكوا به عن علم وبصيرة، وحماه لكم بما رتبه من الجزاء الوافر على فعل الحسنات، لترغبوا فيها وتقيموها، وحماه لكم بما حذركم به من عقوبة على المخالفات، لترهبوا منها، وتستقيموا على الأمر المطلوب منكم، وحمى الله لكم الدين بما أقامه من الجهاد بالنفس والمال.
ولقد حمى الله لكم النفس، فأكد تحريمها وحرمتها في كتابه، وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وقرن القتل بالشرك، فقال تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ)[الفرقان: 68].
وقال تعالى: (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)[الأنعام: 151].
إلى قوله: (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ)[الأنعام: 151].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اجتنبوا السبع الموبقات" قيل: يا رسول الله وما هن؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق"(البخاري (2615) مسلم (89) النسائي (3671) أبو داود (2874)).
وذكر تمام الحديث.
وقال النبي: " لا يـزال المؤمن في فسحـة من دينه مـا لم يصب دما حراما"(البخاري (6469) أحمد (2/94)).
وقال النبي: "لزوال الدنيا -يعني كلها- أهون عند الله من قتل رجل مسلم"(الترمذي (1395) النسائي (3987)).
ومن أجل حرمة النفس وتحريمها؛ رتب الله على قتلها عقوبات في الآخرة، وعقوبات في الدنيا.
أما عقوبات الآخرة، فقال تعالى: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)[النساء: 93].
أربع عقوبات عظيمة كل واحدة منها توجل القلب، وتفزع النفس.
(جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا) فيا ويله ما أصبره على نار جهنم، وقد فضلت على نار الدنيا كلها بتسعة وستين جزءا؟!
(وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ) وبئسما حصل لنفسه من غضب الرب العظيم عليه.
(وَلَعَنَهُ) فطرده وأبعده عن رحمته.
(وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا).
ويل لقاتل المؤمن المتعمد، ويل له من هذه العقوبات النار، وغضب الجبار، واللعنة والعذاب العظيم.
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أول ما يقضي بين الناس يوم القيامة في الدماء"(البخاري (6471) مسلم (1678) الترمذي (1396) النسائي (3991) ابن ماجة (2615) أحمد (1/388)).
وقال ابن عباس -رضي الله عنه-: سمعت نبيكم، يقول: "يأتي المقتول متعلقا رأسه بإحدى يديه متلببا قاتله باليد الأخرى تشخب أوداجه دما، حتى يأتي به إلى العرش، فيقول المقتول: يا رب هذا قتلني؟ فيقول الله للقاتل: تعست -أي هلكت- ويذهب به إلى النار"(الترمذي (3029) النسائي (3999) أحمد (1/364)).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار"(الترمذي (1398)).
هذه -أيها المؤمنون- عقوبة قاتل النفس بغير حق في الآخرة.
أما عقوبته في الدنيا، فالقصـاص: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة: 179].
النفس بالنفس جزاء وفاقا، كما أعدم أخاه المؤمن، وأفقده حياته، فجزاؤه أن يفعل به كما فعل.
ولقد جعل الله لولي المقتول سلطانا قدريا، أي قدره في شرع الله وفي قضائه وقدره على قتل القاتل؛ كما قال تعالى: (وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا)[الإسراء: 33].
فهذه الآية كما تدل على أن الله جعل لولي المقتول سلطانا شرعيا في قتل القاتل، فقد يفهم منها أن الله جعل له أيضا سلطانا قدريا بحيث يكون قادرا على إدراك القاتل وقتله، فيهيئ الله من الأسباب ما يتمكن به من إدراكه، والله على كل شيء قدير، وبكل شيء محيط.
أيها المسلمون: وإن من حماية الله لأموالكم: أن جعل عقوبة السارق قطع يده إذا تمت الشروط؛ كما قال تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[المائدة: 38].
حتى لو استعار منك شخص شيئا يساوي ما يقطع به السارق ثم جحده، وقال: ما استعرت منك شيئا، فتثبت عليه العارية، فإنها تقطع يده، بسبب جحوده العارية؛ كما ثبت ذلك في الصحيحين: "أن امرأة من بني مخزوم كانت تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقطع يدها، فأهم قريشا شأنها، فكلمه أسامة بن زيد فيها، فقال: "أتشفع في حد من حدود الله؟" ثم قام فخطب الناس، فقال: "إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله -يعني أقسم بالله- لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"(البخاري (4053) مسلم (1688) الترمذي (1430) النسائي (4898) أبو داود (4373) ابن ماجة (2547) أحمد (6/162) الدارمي (2302)).
أما حماية الله للأعراض، فقد ذكر الله جانبا كبيرا منها في سورة الحجـرات في قولـه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ)[الحجرات: 11].
إلى آخر الآية التي بعدها.
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر"(البخاري (48) مسلم (64) الترمذي (1983) النسائي (4108) ابن ماجة (69) أحمد (1/439)).
وأوجب الحد ثمانين جلدة على من قذف محصنا بالفاحشة، وأوجب الحد على الزاني إن كان محصنا، فيرجم بالحجارة حتى يموت.
وإن كان غير محصن، وهو الذي لم يتزوج فحده مائة جلدة، وتغريب عام.
وأما حد اللواط، وهو إتيان الذكر الذكر، فإنه القتل بكل حال، إذا كانا بالغين غير مجنون سواء، كان متزوجين، أو غير متزوجين؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به"(الترمذي (1456) أبو داود (4462) ابن ماجة (2561) أحمد (1/300)).
وأجمع الصحابة -رضي الله عنهم- على مقتضى هذا الحديث.
فاحمدوا الله -أيها المؤمنون- على هذه الحماية لدينكم وأنفسكم، وأموالكم وأعراضكم، واسألوه أن يوفق المسلمين جميعا للقيام بشكره، وامتثال أمره، واجتناب نهيه، فإن ذلك خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم | إلخ |