البحث

عبارات مقترحة:

الباطن

هو اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (الباطنيَّةِ)؛ أي إنه...

الحميد

(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...

الخلاق

كلمةُ (خَلَّاقٍ) في اللغة هي صيغةُ مبالغة من (الخَلْقِ)، وهو...

التمسك بالدين

العربية

المؤلف فيصل بن جميل غزاوي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب - أركان الإيمان
عناصر الخطبة
  1. أغلى ما يملكه المسلم في هذه الحياة دينه .
  2. لا يقبل الله من أحد دينا سوى الإسلام .
  3. المصيبة في الدين أعظم المصائب .
  4. على المسلم التمسك بدينه والحذر من مخالفته .

اقتباس

وَمَنْ عرَف قيمةَ دِينه واستشعر مكانته اعتَزَّ به وتحلَّى بآدابه، وسعى في إظهار محاسنه والدعوة إليه وبثه ونشره، ونافَح عنه ولم يكن ممن هان عليه دينه وأصبح يخجل منه ويتحرج من أحكامه ويستهين بشعائره، ولا هو ممن يأكل بدينه ولا يجامل أحدا على حسابه...

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، صل الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الْأَحْزَابِ: 70-71].

أما بعد: فإن أغلى ما يملكه المسلم في هذه الحياة دينه، وكيف لا يكون كذلك وقد مَنَّ اللهُ به عليه وهداه إليه، (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [الْحُجُرَاتِ: 17]، والإسلام قوام المرء؛ فهو مثابة الروح للجسد، وهو سبب سعادته وفلاحه، وسبيله إلى الجنة، وبدونه لا يشم ريحها أبدا، قال تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) [الْمَائِدَةِ: 72]، وقال صلى الله عليه وسلم: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ" (متفق عليه) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

ولا يقبل الله من أحد دينا سوى الإسلام (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) [آلِ عِمْرَانَ: 19]؛ فمن لقي الله بعد بعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- بدين على غير شريعته فليس بمتقبَّل كما قال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آلِ عِمْرَانَ: 85]، وهذا الدين لا يتفق مع دين المشركين بل يخالفه ويفارقه كما ذكر الله ذلك في كتابه الكريم داعيا نبيه الأمين -صلى الله عليه وسلم- أن يقرر المفاصلة بين أهل الإيمان وأهل الكفر بقوله: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الْكَافِرُونَ: 6]، أي: لكم دينكم الذي تعتقدونه من الكفر، ولي ديني الذي أعتقده من الإسلام؛ وعليه فالمسلم يحرص على إصلاح دينه، ولذا كان من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي".

وسؤالُ اللهِ إصلاحَ الدينِ هو أن يوفَّق العبدُ إلى التمسك بالكتاب والسنة وفقَ هدي السلف الصالح من الصحابة والتابعين في كل الأمور؛ وذلك يقوم على ركنين عظيمين: الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإن التمسك بهذين الأصلين عصمة للعبد من الشرور كلها، والزيغ والانحراف والضلالات التي تضيع الدين والدنيا.

ويجدر بالمسلم أن يُكثر من سؤال ربه الثباتَ، فعن أم سلمة -رضي الله عنها- أنها قالت: "كان أكثر دعائه -صلى الله عليه وسلم-: "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ" (رواه الترمذي).

أيها الإخوة: والمصيبة في الدين أعظم المصائب؛ ولذا فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو بقوله: "وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا" والمصائب تكون في مال الإنسان أو بدنه، أو مسكنه أو أهله، وكلها تهون وتسهل أمام مصيبة الدين، فمن أصيب في دنياه بموت أو خوف أو جوع أو فقر أو مرض أو غير ذلك فقد نقص من دنياه ما قدر عليه، ثم إن هو صبر واحتسب ورضي عوضه الله خيرا منه، قال القاضي شريح -رحمه الله-: "إني لَأُصَابُ بالمصيبة فأحمد اللهَ عليها أربع مرات: أحمده إذ لم تكن أعظم مما هي، وأحمده إذ رزقني الصبر عليها، وأحمده إذ وفقني للاسترجاع لِمَا أرجو فيه من الثواب، وأحمده إذ لم يجعلها في ديني".

والمصيبة في الدين على قسمين: إما أن يبتلى المرء بالمعاصي؛ كأكل الحرام واعتقاد السوء، أو يُبتلى بما هو أعظم من ذلك؛ كالشرك والكفر والنفاق وما أشبه ذلك، فهذه مهلكة مثل الموت للبدن:

كُلُّ الْمُصِيبَاتِ إِنْ جَلَّتْ وَإِنْ عَظُمَتْ

إِلَّا الْمُصِيبَاتُ فِي دِينِ الْفَتَى جَلَلُ

ومن عز عليه دينه هانت عليه نفسه، فهذا الإمام البخاري صاحب الصحيح -رحمه الله- تقدم إليه أحد أصحابه في اليوم الذي أُخْرِجَ فيه من بخارى فقال: يا أبا عبد الله، كيف ترى هذا اليومَ من ذلك اليوم الذي نثر عليه فيك ما نثر؟ فقال: "لا أُبَالِي إذا سَلِمَ ديني".

وإذا رأى المؤمن أهل البلاء حمد الله أن عافاه وسلمه، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من رأى مبتلى فقال: "مَنْ رَأَى مُبْتَلًى فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَى هَذَا بِهِ، وَفَضَّلَنِي عَلَيْهِ وَعَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا، عَافَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ ذَلِكَ الْبَلَاءِ كَائِنًا مَا كَانَ" (رواه الترمذي)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ رَأَى مُبْتَلًى" يشمل ذلك الابتلاء أن يكون في أمر دنيوي؛ كعاهة في بدنه أو آفة في ماله أو في أمر ديني بنحو فسق وظلم وبدعة وكفر وغيرها، ومما لا شك فيه أن المبتلى في دينه أخطر من المبتلى في بدنه، وداؤه أعظم.

عباد الله: المؤمن يخالط الناس في ألفهم ويعاشرهم ويصادقهم، لكن مع ذلك كله يحذر على دينه، فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "خالط الناس ودينك لا تكلمنه"؛ أي: خالط الناس لكن بشرط: ألا يحصل في دينك خلل وفساد.

ودرءا لهذه المفسدة العظيمة فإنه يتعين الحذر من مجالسة الأشرار والفجار، فمخالطتهم هلاك، والطِّبَاع سَرَّاقَة، والإنسان على عادة صاحبه وطريقته وسيرته، ففي مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ" معناه: انتقوا واختاروا من تتخذونه خليلا؛ أي: صديقا، من كان ينفعكم في دينكم فعليكم بمصادقته، ومن لا ينفعكم في دينكم بل يضركم فابتعدوا عنه ولا تصادقوه، كما أن المؤمن يخاف كل سبب يُفسد دينَه.

فقد أخرج أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه من حديث كعب بن مالك الأنصاري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ فِي حَظِيرَةٍ وَثِيقَةٍ يَأْكُلَانِ وَيَفْرِسَانِ أَسْرَعَ مِنْ حُبِّ الشَّرَفِ وَحُبِّ الْمَالِ فِي دِينِ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ" فهذا مثل عظيم جدا، ضربه النبي -صلى الله عليه وسلم- يتضمن غاية التحذير من شر الحرص على المال والشرف في الدنيا.

ومن صور إفساد الدين: أن يعمد بعض الناس ممن رق دينه وضعف الوازع الإيماني عنده إلى أن يختار من فتاوى العلماء وآراء المفتين ما يروق له؛ لسهولتها وموافقتها هواه، وقد انتشرت هذه الظاهرة السيئة –وللأسف- حتى صار بعضهم يبحث في المسائل التي اشتهر المنع فيها ليجد رأيا آخر ومذهبا يرخِّص له في فعل ما نُهِيَ عنه لغرض اتباع هواه وإشباع شهوته عياذًا بالله.

معاشر المسلمين: ومما أخبر عنه الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- أن الإسلام كلما اشتدت غربته كثر المخالفون والناقضون لِعُرَاهُ؛ يعني بذلك فرائضه وأوامره، فعن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لَتُنْقَضَنَّ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا، وَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا الْحُكْمُ، وَآخِرُهُنَّ الصَّلَاةُ" (أخرجه أحمد وابن حبان).

كما أخبر صلى الله عليه وسلم عما سيكون في آخر الزمان من كثرة الفتن مما يؤل إلى اعتزال بعض المسلمين الناس وتركهم مخالطتهم؛ إِذْ لا يأمنون على دينهم من أن يَرْتَدُّوا عنه، أو يزيغوا عن الحق، فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ" (رواه البخاري).

ومما أخبر عنه -صلى الله عليه وسلم- كذلك: ما يصير إليه حال بعض الناس من الاستهانة بدينه حتى يكون رخيصا عنده، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا، وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا" هكذا تؤثر الفتن المظلمة في قلب المرء حتى يبيع دينه بدنياه ويؤثر العاجلة على الآخرة ويعيش في غفلة وينسى النقلة، فما أعظم غفلته وأشد ندامته.

يَا بَائِعَ الدِّينِ بِالدُّنْيَا وَبَاطِلِهَا

تَرْضَى بِدِينِكَ شَيْئًا لَيْسَ يَسْوَاهُ

حَتَّى مَتَى أَنْتَ فِي لَهْوٍ وَفِي لَعِبٍ

وَالْمَوْتُ نَحْوَكَ يَهْوِي فَاغِرًا فَاهُ

عباد الله: من هان عليه دينه ففرط فيه وعرَّضه للفتن فقد خاب وخسر، وإن المرء ليعجب ويكاد لا ينقضي عجبه عندما يرى بعض المسلمين يبيع دينه بمتاع زائل، نسأل الله العصمة من الفتن، بينما أهل الباطل في المقابل يصبرون على باطلهم ويعظُم تمسكُهم بدينهم الفاسد ومنافحتهم عنه، وخشيتهم أن يتبدل إلى دين آخَر، فقد حكى الله عن فرعون الطاغية دعواه الجائرة ضد كليم الله موسى -عليه السلام-، فقال جل ذكره: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غَافِرٍ: 26].

أَيُّ دينٍ هذا الذي يخاف فرعونُ من تغييره وتبديله؟ إنه دين عبادة فرعون، دين السحرة والكهان يخاف تبديلَه إلى الدين الحق، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وأيُّ فساد يخشى الطاغية فرعون أن يُظهر موسى؟ إنه القضاء على استعباد فرعون لقومه واستضعافه لهم، وإذلالهم وامتهانهم، إنه انتكاس المفاهيم واختلال المعايير؛ فموسى الأمين الذي يدعو الناسَ إلى الدين الحق، يدعوهم إلى عبادة الله وحدَه هو الذي يريد أن يغيِّر الدينَ، موسى الأمين الذي يدعو إلى عدم استضعاف الناس واستعبادهم هو الذي يريد أن يُظهر في الأرض الفسادَ، وقد بلَغ الحدُّ بالمشركين في حرصهم على آلهتهم الزائفة وشدة تمسكهم بدينهم الباطل أن يتواصوا فيما بينهم بالثبات عليه وعدم تركه، (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ) [ص: 6]، أي استمروا وامضوا على دينكم ولا تستجيبوا لما يدعوكم إليه محمد من التوحيد ولا تدخلوا في دينه.

ولا غرو فإنك تجد من الناس من عمي قلبه وفقد البصيرة فتمادى في ضلاله وأوغل في عمايته وغلا في جهالته فظن أن ما يدين به من الكفر والضلال والعصيان هو الحق الذي يتشبث به، وأن هذا يدل على رجاحة عقله وسداد رأيه، قال تعالى: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا) [فَاطِرٍ: 8]، ولم يقتصر أعداء الله على التمسك بدينهم الباطل، بل هم يقاتلون مَنْ كان على ملة الإسلام ليصدوهم عنه، قال تعالى: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ) [الْمُمْتَحَنَةِ: 9]، أي: لأجل دينكم، عداوةً لدين الله ولمن قام به، فهم يقاتلون المسلمين عن دين وعقيدة، ولا تزال محاولاتهم الجادة والمتكررة حتى يحققوا هدفهم المنشود (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) [الْبَقَرَةِ: 217].

أيها الإخوة: والمؤمنون الصادقون متمسكون بدينهم لا يطلبون له بدلا، ولا يبغون عنه حولا، والإيمان حين تخالط بشاشته القلوب فلا يمكن للمؤمن أن يتخلى عن دينه فضلا عن أن يرتد عنه مهما كانت الأسباب، فلما سأل هرقل أبا سفيان عن أتباع محمد -صلى الله عليه وسلم-: "فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟" قال أبو سفيان: "لا"، ثم قال هرقل: "وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب". (رواه البخاري).

ومما هو متقرر في عقيدة المؤمن: أن من رجع عن الإسلام إلى الكفر وانقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا، بل الخسارة والوبال تعود على تارك دينه، قال سبحانه: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [الْبَقَرَةِ: 217].

أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي هدانا للإيمان وأكرمنا بالإسلام وجعلنا من أمة خير الأنام، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العزيز السلام، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، اعتز بدين الله وكان عزيزا بربه وعلَّم أمته العزةَ رضي الله عن أصحابه الأعزاء بدين الله ومن تبعهم بإحسان.

أما بعد: فيا أيها المسلمون: ومع أهمية جميع الضروريات الخمس التي جاء الإسلام بحفظها، وهي: الدين والنفس والعقل والعرض والمال إلا أن الدين أهمها وأعظمها، وهناك مقاصد ضرورية لحفظ الدين، وهي تثبيت أركانه وأحكامه والعمل على إبعاد ما يخالف دين الله ويعارضه؛ كالبدع ونشر الكفر والرذيلة والإلحاد والتهاون في أداء واجبات التكليف، فما أحوجنا عباد الله أن نستشعر نعمة الله علينا، وأن نشكر الله -تعالى- دائما أن هدانا لدين الإسلام وأن نعتز بديننا ونحافظ عليه، ونتمسك به حتى الممات؛ عملا بقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آلِ عِمْرَانَ: 102]، قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي: حافظوا على الإسلام في حال صحتكم وسلامتكم لتموتوا عليه؛ فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بُعِثَ عليه، فعياذًا بالله من خلاف ذلك".

كما أن علينا -إخوة الإسلام- أن نعمل بشرائع الدين ونحذر مخالفته كما قال عز من قائل: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا) [الرُّومِ: 31-32]، أي: ولا تكونوا من أهل الشرك بالله بتضييعكم فرائضه وركوبكم معاصيه وخلافكم الدين الذي دعاكم إليه، قال الطبري -رحمه الله-: "والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفا له، فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق، فمن اختلف فيه وكانوا شِيَعًا؛ أي فرقا، كأهل الملل والنحل وهي الأهواء والضلالات فالله قد برأ رسوله مما هم فيه، وهذه الآية كقوله -تعالى-: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشُّورَى: 13].

أيها المسلمون: استشعروا نعمة الإسلام وكيف أنقذكم الله بهذا الدين من الضلالة، تأملوا في حال من يعيش بعيدا عن نور الهداية، فهو يتخبط في الظلمات ولا يهتدي لسبيل الرشاد ولا تهنأ نفسه ولا يقر له قرار.

ومن عرف قيمة دينه واستشعر مكانته اعتز به وتحلى بآدابه، وسعى في إظهار محاسنه والدعوة إليه وبثه ونشره، ونافح عنه ولم يكن ممن هان عليه دينه وأصبح يخجل منه ويتحرج من أحكامه ويستهين بشعائره، ولا هو ممن يأكل بدينه ولا يجامل أحدا على حسابه، ولا يتنازل عن قيمه وثوابته، ولا يبذله رخيصا مهانا، ولا يتزلف به لِنَيْل رضا مخلوق طمعًا في دنيا زائلة ومتاع قليل، بل شأنه أن يصون دينه ويحفظه ليسلم ويحذر من أن يُفتن في دينه فيندم، قال صالح بن جناح الدمشقي لابنه: "يا بُنَيّ، إذا مَرَّ بك يومٌ وليلةٌ قد سَلِمَ فيه دينُكَ وجسمُكَ ومالُكَ وعيالُكَ فَأَكْثِرِ الشكرَ لله -تعالى-، فكم من مسلوب دِينه ومنزوع مُلكه ومهتوك سِترُه، ومقصوم ظَهْرُهُ في ذلك اليوم وأنتَ في عافية".

ومتى ما أراد العبد أن يحفظه اللهُ فعليه أن يحفظ حدود الله وحقوقه وأوامره ونواهيه، قال ابن رجب -رحمه الله-: "إن الله -عز وجل- يحفظ المؤمنَ الحافظَ لحدود دينه وَيَحُولُ بينَه وبينَ ما يُفسد عليه دينَه بأنواع من الحفظ، وقد لا يشعر العبدُ ببعضها، وقد يكون كارهًا له كما قال في حق يوسف -عليه السلام-: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يُوسُفَ: 24]".

هذا وصلوا وسلموا عباد الله على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الْأَحْزَابِ: 56].

اللهم صل على محمد النبي الأمي، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الكفر والكافرين، اللهم أظهر دينَكَ وكتابك وسنة نبيك -صلى الله عليه وسلم- وعبادك الصالحين.

اللهم عليك بمن يستهدف ديار المسلمين ومقدساتهم وحرماتهم، اللهم من أرادنا أو أراد ديننا وبلادنا وأمننا بسوء أو كيد أو اعتداء فأشغله بنفسه واجعل تدبيره تدميره واجعل الدائرة عليه، وأنزل به المثلات، وأنزل به بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، وأرنا فيه عجائب قدرتك يا قوي يا عزيز.

اللهم آمِنَّا في الأوطان والدُّور، وَأَصْلِحِ الأئمةَ وولاةَ الأمورِ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم.

اللهم انصر مَنْ نصر الدين، واخذل الطغاة والملاحدة والمفسدين، اللهم انصر إخواننا المستضعفين والمجاهدين في سبيلك والمرابطين على الثغور وحماة الحدود، اللهم قوِّ عزائمهم واربط على قلوبهم، وثبِّت أقدامهم ووحد صفوفهم وانصرهم على مَنْ بغى عليهم وخذ بثأرهم منه، يا سميع الدعاء.

اللهم انصر إخواننا في الشام وفي العراق وفي بورما وفي اليمن وفي كل مكان، اللهم كُنْ لهم معينا ونصيرا ومؤيدا وظهيرا يا رب العالمين، اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين غير مبدلين ولا مغيرين ولا مفتونين، اللهم أَصْلِحْ لنا دينَنا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.

وقوموا إلى صلاتكم -يرحمكم الله-.