العليم
كلمة (عليم) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...
العربية
المؤلف | محمد بن صالح بن عثيمين |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحياة الآخرة |
فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[السجدة: 17]. يحل الله عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبدا، ويتجلى لهم فينظرون إليه فلا يجدون نعيما أكمل من النظر إلى...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل جنات الفردوس لعباده المؤمنين نزلا، ونوع لهم الأعمال الصالحة ليتخذوا منها إلى تلك الجنات سبلا، وجعل ميعاد دخولها يوم القدوم عليه، وضرب مدة الحياة الفانية دونه أجلا، أودعها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وكملها بدوام نعيمها فأهلها خالدون فيها أبدا لا يبغون عنها حولا.
والحمد لله الذي أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، ولم يترك عباده هملا غير مأمورين ولا منهيين، فقامت الحجة، وانتفت الشبهة، وبانت الطريق، لمن أراد سلوكها، غير أنه بحكمته زين لهم هذه الدار فكانت فتنة افتتن بها قوم فغفلوا عما أريد بهم، ونسوا دار القرار.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له فاطر السماوات والأرض، وجامع الناس ليوم الميعاد والعرض ليجزيهم بما عملوا من خير وشر: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا)[آل عمران: 30].
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، بعثه الله -تعالى- للإيمان مناديا، وإلى دار السلام داعيا، وبالمعروف آمرا، وعن المنكر ناهيا، وفرض على العباد طاعته، والقيام بحقوقه، وسد جميع الطرق إلى الجنة فلم يفتحها لأحد إلا من طريقه، فبلغ رسالة ربه، ونصح لعباده حتى لحق بالرفيق الأعلى، وترك أمته على المحجة البيضاء، فسلكها الراغبون في جنات النعيم، وعدل بها المخذولون إلى طريق الجحيم، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)[آل عمران: 133 – 135].
سارعوا إلى جنة لا يفنى نعيمها ولا يبيد، وليس في نعيمها انقطاع ولا تنغيص ولا تنكيد، ساكنوها أفضل عباد الله، الرسل والأنبياء والأولياء والأصفياء والصالحون والشهداء، إخوانا على سرر متقابلين، قد نزع الله ما في صدورهم من الغل فكانت صفاء، وطهر الله ألسنتهم من السوء، فقالت صوابا: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا)[الواقعة: 25 – 26].
يتحدثون بينهم فيما جرى عليهم في الدنيا وما من الله به عليهم من الهدى: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ)[الطور: 25 - 28].
لهم فيها أزواج مطهرة من كل عيب ودنس، خيرات الأخلاق، حسان الوجوه، قاصرات الطرف، مقصورات في الخيام، كأنهن الياقوت والمرجان.
أنشأهن الله إنشاء، كاملا بديعا، فجعلهن أبكارا دائما، عربا يتحببن إلى أزواجهن بتحسين الظاهر والباطن، أترابا على سن واحدة: (هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ)[يس: 56 – 58].
لهم فيها فواكه كثيرة منها يأكلون، قطوفها دانية، يتناولها من اشتهاها بكل سهولة، قائما وقاعدا وعلى كل حال، لا مقطوعة ولا ممنوعة: (كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً) [البقرة:25] (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا)[مريم: 62].
(فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى)[محمد: 15].
(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ) منعمون (إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا)[الإنسان: 19].
يطوفون عليهم: (بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ)[الواقعة: 18- 19].
(بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا)[الإنسان: 15- 16].
مقدرة ما يشتهيه الشارب بحيث لا تزيد على مقدار ما يشتهيه، فيبقى منه فضلة ولا تنقص عما يريده، فيحتاج إلى تكملة، وفيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[السجدة: 17].
يحل الله عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبدا، ويتجلى لهم فينظرون إليه فلا يجدون نعيما أكمل من النظر إلى الله -عز وجل-: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)[القيامة: 22 – 23].
إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: "إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا".
أيها المسلمون: إن هذه الدار مضمونة لكل من آمن بالله، واستقام على أمره، سامعا مطيعا، راغبا فيما عند الله، زاهدا فيما يبعده عن الله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ)[فصلت: 30 – 32].
فبؤسا لقوم آثروا الدنيا عليها، فباعوا عيشا لا يفنى ولا يزول بعيش زائل مملوء بالتنكيد، إن أضحك قليلا أبكى كثيرا، وإن سر يوما أحزن شهورا، آماله آلام، وحقائقه أحلام، وأوله مخاوف، وآخره متالف.
بؤسا لقوم نعموا في الدنيا كأنما خلقوا لها، وسلكوا في تحصيلها كل طريق من حلال أو حرام، كأنما خلدوا لها وهم يعلمون ما فيها من الهموم والأحزان، ومن تقلبات الأحوال، وتغيرات الأزمان.
بؤسا لقوم نسوا الآخرة وأهملوها، وتركوا أوامر الله وأضاعوها غدا، يقال لهم: (فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ)[السجدة: 14].
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أهل الجنات، وأن تباعدنا عن النار دار الهلكات، وأن تتوفانا على الإيمان والتوحيد، وتعيذنا من الكفر والشرك والتنديد، إنك جواد كريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.