البحث

عبارات مقترحة:

المصور

كلمة (المصور) في اللغة اسم فاعل من الفعل صوَّر ومضارعه يُصَوِّر،...

الله

أسماء الله الحسنى وصفاته أصل الإيمان، وهي نوع من أنواع التوحيد...

الحي

كلمة (الحَيِّ) في اللغة صفةٌ مشبَّهة للموصوف بالحياة، وهي ضد...

فوائد من الإسراء و المعراج

العربية

المؤلف محمد الشاذلي شلبي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الحديث الشريف وعلومه - التربية والسلوك
عناصر الخطبة
  1. الرسول الكريم في سدرة المنتهى وفرضية الصلاة .
  2. مشاهد ومواقف من حادثة الإسراء والمعراج .
  3. موقف قريش من حادثة الإسراء والمعراج وتكذيبها للنبي الكريم .
  4. موقف أبي بكر من حادثة الإسراء والمعراج وتسميته بالصديق .
  5. المشروع من حادثة الإسراء والمعراج هو أخذ الدروس لا الابتداع .
  6. صبر النبي الكريم في دعوة قومه وحماية عمه وزوجه له .
  7. إسراء النبي ومعراجه إكرام من الله له ودليل علو منزلته. .

اقتباس

هذه هي الفوائد التي يمكن لنا أن نجنيها من قراءتنا لحادث الإسراء والعروج العظيم الذي ساقه الله -تعالى- .... وليُثبّت الذين آمنوا، وليكون نبراسا للمسلمين بعد ذلك وعلى مرّ العصور، يستلهمونه العظة والعبرة والدرس؛ لا أن يقيموا الاحتفالات بذكره كلّ عام وإلقاء الخطب والأشعار وإتّباع العادات والتقاليد التي ما أنزل الله بها من سلطان، متغافلين...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي منّ على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا واصطفاه على جميع الأنام .. وأسبغ عليه جلابيب الإحسان وألبسه حلل الأنوار وتوجّه بتاج الإكرام .. وخصّه بالمسرى والمعراج وأطلعه على عظيم الأسرار وآيات بيّنات عظام.. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم..

أحمده حمدا متواصلا مع الأيام، ساميا إلى عليّ مقام، ذي الجلال والأنعام، حمد الواله بقدسه المحبّ المستهام ..

وأشكره على نعمه التي عمّت العالمين، وشملت المؤمنين والكافرين، لا ينقص من ملكه شيء وهو مالك الدنيا ويوم الدين..

وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له؛ شهادة من أخلص لله في السرّ والنجوى، والعافية والبلوى، ولزم التوحيد الخالص في جوهره وصفائه، وسبّح في مناجاة الخلاّق العليم ببدائع صنعه في أرضه وسمائه.. اللهمّ ربّنا وأنت الحليم المنّان، واسع الفضل والعطاء والإحسان، أمنن علينا بالثبات على التوحيد؛ ثباتا يصحبنا في ساعة النزع الشديد ويوم نعرض عليك في جملة العبيد.. اللهمّ نوّر بجمالك وجلالك القلوب والعقول وبلّغنا غاية المأمول..

ونشهد أنّ سيّدنا محمّدا عبدك رسولك، إمام المتّقين، وسيد المرسلين والمشفّع يوم الدّين.. أسريت به محاطا بعنايتك، وسموت به إلى السماوات العلى وأحطته بتكريمك وحفاوة أهل سدرة المنتهى..

اللهمّ فصلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد؛ بحر أنوارك ومعدن أسرارك ولسان حجّتك وإمام حضرتك وطراز ملكك وخزائن رحمتك وطريق شريعتك، صلاة تدوم بدوامك وتبقى ببقائك لا منتهى لها دون علمك، صلاة ترضيك وترضيه وترضى بها عنّا يا رب العالمين..

أمّا بعد، فيا أيّها الذين آمنوا، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله يا أولي الألباب، واحذروه كما حذّركم نفسه في الكتاب، واذكروه فإنّه يذكر من ذكره وإليه أناب، وراقبوه فإنّه الشهيد الذي لا يحجب عنه حجاب، واجتنبوا المعاصي فإنّها المفضية إلى أعظم الأسباب، وتوبوا إليه فإنّه غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، وأنيبوا إليه وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب، وتوبوا إلى الله تفوزوا منه بحسن الثواب، وتحبّبوا إليه فإنّه يحبّ من عباده كلّ محسن تواب، ومهّدوا لأنفسكم بالأعمال الصالحة في بيوت التراب، بيوت مظلمة الأرجاء مقفرة من الأخلاّء والأحباب، شديدة الوحشية والوحدة طويلة الاغتراب..

فيا أيها الغافلون تيقظوا فإليكم يوجّه الخطاب، ويا أيها النائمون انتبهوا قبل أن تناخ للرحيل الركاب، قبل هجوم هاذم اللّذات ومذلّ الرقاب.

عباد الرحمان: إنّ حادثة المسرى والمعراج لمن أهمّ وأعظم وأجلّ الأحداث التي مرّ بها رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- والتي كان لها أثرها الكبير في سير الدعوة إلى الله، وفي علاقة البشر بربّ العالمين، ففيها رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من آيات ربّه الكبرى، ووصل إلى سدرة المنتهى إذ يغشى السدرة ما يغشى، ما كذب الفؤاد ما رأى، وفيها فرضت الصلاة.. وفرض الصلاة في هذه الحادثة وفي ذلك التوقيت كان ولا يزال مغزى كبير، ومعنى عظيم؛ لأنّ الصلاة كما هو معروف صلة بين العبد وربّه، وما دام متّصلا وموصولا بربّه وخالقه، خالق كلّ شيء وموجد الأكوان والعوالم؛ فإنّه بذلك يسمو ويعلو ويرتفع ويقترب من الملإ الأعلى؛ فتصبح الدنيا بما فيها ومن فيها لا وجود لها في حسّه؛ لأنّه يكون مشغولا بربّ الدنيا عن الدنيا.

والصلاة رباط يربط الإنسان بخالقه كلّ يوم، فيضمن بذلك استقامة حياته، ويلي ذلك استقامة أسرته، فمجتمعه فأمّته، فيسود في الأرض العدل والسلام والمحبّة والوئام، وإذا تخلّف عن الصلاة وعن صلته بربّه، فليس له إلاّ الشقاء والظلم والضياع هو وأسرته ومجتمعه وأمّته.

جاءت حادثة المسرى والمعراج الجليلة بعد أن قطعت الدعوة إلى الله في مكّة المكرّمة شوطا كبيرا وبعد أن فشا الإسلام في قريش وفي القبائل كلّها، وكان ذلك قبل الهجرة إلى المدينة بعام تقريبا، وكان لها صدى عظيم بين أهل مكّة من المسلمين والمشركين؛ ولقّب أبو بكر بالصدّيق بعد هذه الواقعة؛ لأنّهم عندما جاءوه بالخبر، متوقّعين أن يكون للحادثة وقع سيء على أبي بكر -رضي الله عنه-، كان ردّه عليهم مفحما مخيّبا لآمالهم، فقد قال لهم: "إن كان قال ذلك فقد صدق".

وقد كانت ثقته في الله وفي رسوله لا حدود لها، كيف لا والله -تعالى- أرسل نبيّه محمّدا ليبلّغ للناس رسالته وبعثه إلى الإنسانية الضّالة فأخذ بيدها من الضياع وانتشلها من الهلاك وأنقذها من الضلال ومن المصير المشؤوم.

إن كان قد قال ذلك فقد صدق، ثمّ أقبل الصدّيق حتّى انتهى إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- فقال: يا نبيّ الله أحدّثت هؤلاء القوم أنّك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟ قال عليه الصلاة و السلام: "نعم"، قال: يا نبيّ الله فصفه لي فإنّي قد جئته.. فقال صلّى الله عليه وسلّم: "فرفع لي حتّى نظرت إليه، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصفه لأبي بكر، ويقول أبو بكر: صدقت، أشهد أنّك رسول الله.. حتّى إذا انتهى قال رسول الله لأبي بكر: "وأنت يا أبا بكر الصدّيق"؛ فيومئذ سمّاه الصدّيق ..

وفي حديث للبخاري عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أنّه سمع رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- يقول: "لمّا كذّبتني قريش قمت في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه" .. ومعنى جلى الله لي بيت المقدس: أي كشف الحجب بيني وبينه حتى رأيته.. وقيل أنّ جبريل -عليه السلام- أحضر بيت المقدس ووضعه أمام الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فصار يصفه بابا، بابا وموضعا، موضعا، فقالوا: أمّا النعت فقد أصاب، فأخبرنا عن عيرنا، وكانت لهم عير قادمة من الشام، فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها وقال صلّى الله عليه وسلم: "قدم يوم كذا مع طلوع الشمس"؛ فخرجوا ذلك اليوم فقال قائل منهم: هذه والله الشمس قد أشرقت، فقال آخر: وهذه العير قد أقبلت كما قال محمد، ثم لم يزدهم ذلك إلاّ كبرا و عنادا حتى قالوا: هذا سحر مبين..

وعن أنس قال: كان أبو ذرّ يحدّث أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "فرج عن سقف بيتي وأنا بمكّة، فنزل جبريل، ففرج صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا، فأفرغه في صدري ثم أطبقه، ثمّ أُتيتُ بدابة دون البغل وفوق الحمار، أبيض وهو – البراق – يضع خطوه عند أقصى طَرفهُ فحُملت عليه، حتى انتهى إلى بيت المقدس؛ فوجد فيه إبراهيم الخليل وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء قد جمعوا له -صلى الله عليه وعليهم أجمعين وسلم-، فأمّهم ركعتين، ثم أُوتي بثلاث أواني – إناء فيه لبن، وإناء فيه خمر، وإناء فيه ماء.. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سمعت قائلا يقول حين عرضت عليّ: إن أخذ الماء غرق وغرقت أمّته، وإن أخذ الخمر غوى وغوت أمّته، وإن أخذ اللبن هُدي وهُديت أمّته، قال: فأخذت إناء اللبن فشربت منه، فقال لي جبريل -عليه السلام-: "هُديت وهُديت أمّتك يا محمّد، الحمد لله الذي هداك للفطرة، وحُرّمت الخمر على أمّة سيّد الخلق"..  ثمّ قال عليه الصلاة والسلام: " ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا، فلمّا جئت إليها قال جبريل لخازن السماء: افتح. قال: من هذا ؟ قال: هذا جبريل. قال: هل معك أحد؟ قال: نعم، معي محمّد -صلى الله عليه وسلم-. فقال: أأرسل إليه؟ قال: نعم. فلما فتح علونا السماء الدنيا، فإذا رجل قاعد، على يمينه أُسوَدَةٌ وعلى يساره أسودة، إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل يساره بكى، فقال: مرحبا بالنبيّ الصالح والابن الصالح، قلت لجبريل: من هذا ؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنّة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى. ثمّ عرج بي إلى السماء الثانية، فقال له خازنها مثل ما قال الأوّل، ففتح، فلمّا خلصت إذا بيحيى وعيسى وهما ابنا خالة، قال: هذا يحيى وعيسى فسلّم عليهما. فسلّمت، فردّا ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح و النبيّ الصالح. ثمّ صعد إلى السماء الثالثة فقال لخازنها افتح، فقال له خازنها مثل ما قال الثاني، ففتح، فلمّا خلصت إذا يوسف، قال هذا يوسف فسلّم عليه، فسلّمت عليه فردّ ثمّ قال: مرحبا بالأخ الصالح و النبيّ الصالح. ثمّ مررت بموسى وهارون وإدريس و إبراهيم الخليل -عليهم السلام-.. وقالوا كلّهم مثلما قيل في الأول غير أنّ إبراهيم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبيّ الصالح. ثم قال صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس وأبا حبّة الأنصاري: " ثم عرج بي حتّى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام"..

أثناء عروجه أمر الله -تبارك وتعالى- جبريل -عليه السلام- أن يكشف للرسول -صلى الله عليه وسلم- صورة من صور العذاب الذي يلقاه من لم يجتنب المعاصي وآثر الحياة الدنيا على نعيم الآخرة. يقول عليه الصلاة والسلام: "رأيت رجالا لهم مشافر كمشارف الإبل (شفّة البعير)، في أيديهم قطع من نار كالأفهار (الفهر: حجر في مقدار كفّ اليد) يقذفونها في أفواههم فتخرج من أدبارهم. فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة مال اليتامى ظلما. ثمّ رأيت رجالا لهم بطون لم أر مثلها قط بسبيل آل فرعون (وآل فرعون لهم في الآخرة أشدّ العذاب)، يمرّون عليهم كالإبل المهبومة (المهبومة: العطاش) حين يعرضون على النار يطئونهم لا يقدرون على أن يتحوّلوا من مكانهم ذلك. قلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء أكلة الربا.

وفي رواية رأيت أناس من أمّتي يسبحون في أنهار الدمّ، قلت: من هؤلاء ؟ قال: أكلة الربا ومال اليتيم وعرق الجبين.. ثمّ رأيت رجالا بين أيديهم لحم سمين طيّب، إلى جنبه لحم ضعيف هزيل نتن، يأكلون النتن ويتركون الطيّب. قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يتركون ما أحلَّ الله لهم من النساء ويذهبون إلى ما حرّم الله عليهم منهنّ.. ثمّ رأيت نساء معلّقات من ثديهنّ. فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء اللاّتي أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم.

وفي رواية أولئك هنّ الزانيات.. ثمّ رأيت رجالا تكسّر رؤوسهم بالحجارة فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يتأخّرون عن أداء فريضة الصلاة..

يا أحباب محمّد: لم يكن مرور حبيبكم -صلى الله عليه وسلم- على مثل هؤلاء القوام وهو يعرج إلى السماء السابعة وإلى سدرة المنتهى ليحظى ويسعد ويشرّف بالوقوف بين يدي الله في الحضرة الإلهية أمرا جزافا؛ بل كان أمرا ذا دلالة على وجوب تطهّر المسلمين من أدران الدنيا لمن يستشرف منهم بالوقوف بين يدي الله، يصلّي لخالقه ومولاه خمس مرّات في اليوم والليلة، محافظا على صلته بخالقه مرتبطا برحمته ساعيا إلى فضله وكرمه، وحتى يكون العبد وثيق الصلة بربّه، فلا بدّله لكي تقبل صلاته أن يمتثل قول الحقّ -تبارك وتعالى-: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[الأنعام: 152 - 153].

هذه هي الفوائد التي يمكن لنا أن نجنيها من قراءتنا لحادث الإسراء والعروج العظيم الذي ساقه الله -تعالى- في ذلك الوقت العصيب في نهاية الفترة المكيّة، وقبل هجرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة المنوّرة بعام، وليُثبّت الذين آمنوا، وليكون نبراسا للمسلمين بعد ذلك وعلى مرّ العصور، يستلهمونه العظة والعبرة والدرس؛ لا أن يقيموا الاحتفالات بذكره كلّ عام وإلقاء الخطب والأشعار وإتّباع العادات والتقاليد التي ما أنزل الله بها من سلطان، متغافلين عن تدبر أمر ذلك الحدث العظيم، معرضين عمّا ينطوي عليه من معان سامية وعظات بليغة.

نسأل الله -تبارك وتعالى- لنا وللمسلمين صلاح الحال والهداية إلى الصراط المستقيم، وأن يرشدهم إلى ما فيه من عبر وما ينطوي عليه من أمور ترسّخ الإيمان في النفوس، وتعصم المسلمين من الوقوع في براثن الشيطان، وأن يُقبلوا على ربّهم تائبين إليه، عازمين على الالتزام باتّخاذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- قدوة حسنة تصديقا لقول الحقّ تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الأحزاب: 21].

صدقت ربّنا وبلّغ رسولك الكريم ونحن على ذلك من الشاهدين.

أقول ما تسمعون فإن كان حسن فمن الله وحدهن وإن كان غير ذلك فمن نفسي ومن الشيطان، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولوالدي ولوالديكم من كل ذنب؛ فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو التواب الرحيم ولا حول و لا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.

الخطبة الثّانية:

الحمد لله رفيع الجناب، الذي بعث فينا سيّد الأحباب، وأوحى إليه بأعظم كتاب، وأحاطه بصفوة الأصحاب.. أحمد الله وأسأله الهدى والرّشاد.. وأشكره أن يريني الحقّ حقّا ويرزقني إتباعه ويحببني فيه، ويريني الباطل باطلا ويرزقني اجتنابه ويكرهني فيه، ومنه العون والسدّاد..

وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، شهادة نقيّة صفيّة زكيّة طاهرة، أدّخرها لي ولكم ليوم العرض على الواحد الأحد الفرد الصّمد، لم يتّخذ صاحبة ولا ولدا، سبحانه لا معبود بحقّ سواه..

وأشهد أنّ سيّدنا محمّدا صلى الله عليه وسلم رسوله المصطفى، وخليله المجتبى، أصدق من وعد من خلقه ووفى، وأشكر له أن جعلني من أتباعه وكفى.. اللهمّ فصلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وكلّ من خاف ربّه واهتدى..

أمّا بعد: فأيّها الذّين آمنوا، يا أحباب محمّد، فالحقّ -سبحانه وتعالى- حينما أمر محمّدا -صلى الله عليه وسلم- أن يجهر بدعوته، عاداه القوم عداء بلا هوادة؛ إلاّ أنّ هذا العداء لم يمنع تسرُّب هدى الإيمان إلى نفوس كثير من الناس من عشيرته الأقربين، ومن قومه الذين يعلمون صدقه فيما جاء به، وأنّه لم يكذب عليهم حتّى في أُمورٍ بينهم.. فكيف يكذب على الله -تبارك وتعالى-؟

وكان النبيء محمّد -صلى الله عليه وسلم- في حاجة مادية إلى أن يُحْمى حمايتين:

الأولى: من الكفّار في الخارج..

والثانية: في ساعة راحته وسكونه وهدوئه في البيت..

وكان عمّه أبو طالب يحميه في الخارج من أذى كفّار قريش، وأذى المشركين من سكّان جزيرة العرب، وكان كفر أبي طالب سببا من الأسباب التي جعلت الكفّار يجاملونه بعض المجاملة..

وكانت السيّدة خديجة -رضي الله عنها- في البيت هي السكن الذي يلجأ إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فتمسح بيدي الحنان، وبيدي العطف، وبيدي الرّعاية، وبيدي العناية على متاعبه من حركة الحياة التي يحياها عليه الصلاة والسلام..

فكأنّ الحقّ -سبحانه- قد هيّأ لحمايته صلى الله عليه وسلم، ولنصرته، ولمؤازرته مصدرا إيمانيا في البيت كان من خديجة، ومصدرا كفريّا في الخارج كان من عمّه أبي طالب.. ولكنّ الله -تبارك و تعالى- شاء أن تتوفّى زوجته خديجة بنت خويلد في نفس العام الذي توفّي فيه عمّه أبو طالب.. ولكنّه -صلى الله عليه وسلم- كان يعلم تماما أنّ الله -تعالى- لا يُسلِمه، إلاّ أنّه مع ذلك أخذ يُعمِل فكره، ويُعمل بصيرته، ويُخطّط لينطلق بالدّعوة بالأسباب البشريّة التي يقدر عليها.. وما كان منه في هذا الجوّ الخانق في مكّة إلاّ أن يلتمس منطلقا للدّعوة، لعلّه يجد نصيرا خارجيّا، فقام برحلته إلى الطّائف، وفيها وجد خلاف ما اعتقد، وحدث أن آذوه بالفعل، واضطهدوه وسلّطوا عليه سُفهاءَهم حتّى أدموا عقبيه، فوقف موقف الضّارع إلى الله -تبارك وتعالى- بعد أن فقد أسباب البشر..

هنا نقف وقفة عند الدّرس الأوّل من هذا الحدث العظيم: فالإنسان الذي يمدّه الله –سبحانه- بالأسباب، عليه أن يستعمل هذه الأسباب، وأن يجتهد وسعه في أن يستخدمها في الوصول إلى أغراضه، و حين يلجأ إلى الله –تعالى- ومعه الأسباب، يردّ الله -عزّ و جلّ-رجاءَه، لأنّه لا تزال معه الأسباب.. ولكن إذا ما أصبح صلى الله عليه وسلم مضطرّا، وقد أعيته الأسباب في الأرض، فوقف موقفه الضّارع إلى الله -تبارك وتعالى- ودعا دعاءه المشهور، فقال: "اللهمّ إليك أشكو ضعف قوّتي، وقلّة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الرّاحمين.. أنت ربِّ المستضعفين وأنت ربّي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهّمني، أم إلى عدوٍّ ملّكته أمري.. إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أُبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي.. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظّلمات، وصَلُحَ عليه أمر الدّنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو تحلّ عليَّ سخطك، لك العتبى حتّى ترضى، ولا حول و لا قوّة إلاّ بالله".

دعاءٌ فيه كلّ مقوّمات الإيمان واليقين توجّه عليه الصلاة والسلام به إلى ربِّه –تعالى-، رضى بما ناله في الله، واسترضاء لله، لأنّه يعلم صلى الله عليه وسلم أنّ الله لن يخذله، ودعاؤه معناه أنّه قد استنفذ كلّ الأسباب، ولم يجد إلاّ عداءً وبُعْدا؛ فلا بدّ إذن من عناية الله وحمايته سبحانه وتعالى مباشرة وبلا أسباب.. وكانت مشيئته –تعالى- أن يبيّن له جفاء أهل الأرض، ولكن لا يعني ذلك أنّه سبحانه قد تركه، فالله –سبحانه- سيعوّضه عن جفاء الناس في الأرض، بحفاوة الملأ الأعلى، وسيريه من آياته الكبرى ما يثبّت به فؤاده و يعينه على أداء رسالته.. ولكن الله تركه للأسباب أوّلا، ليجتهد فيها حتّى يكون أسوة لأمّته في ألاّ تدع الأسباب.. وكانت ليلة عظيمة الشأن..

وكان حدث الإسراء.. وحدث المعراج.. فالله -تعالى- شاء أن يجعل لرسوله -صلى الله عليه وسلم- هذه الرحلة العلوية، حتى يعلمه بعلوّ منزلته عند ربِّه، كما يعلمه أنّ في عناية الله سبحانه عوضا عن كلّ مفقود، وأنّ الملكوت الأعلى سيحتفي به حفاوة تُذْهِبُ عنه عناء كلّ هذه المتاعب، وسيعطيه ذلك الاحتفاء وتلك الحفاوة دفعة قويّة، لتكون أداته في منطلقه الجديد بإذن ربِّه -تبارك وتعالى-..

فيا مؤمن بالله واليوم الآخر، ويا صاحب النفس الزكية: تأهب للرحيل، واستعدّ للسفر الطويل، بصالح الأعمال وخلوص النيّة.. فتوبوا إلى الله أيها المؤمنون: وصلوا وسلموا على نبيّكم الأمين المأمون، الذي أمرتم بالصلاة والسلام عليه قديما بقول الحق -تبارك وتعالى-: (إنّ الله و ملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما).

اللهمّ فصلّ وسلم و زد و بارك على سيّدنا محمّد المخصوص بألم نشرح لك صدرك.. و ارض عن أبي بكر الذي نال من أهل الردّة مناه و أدرك.. وعن عمر الذي كان إسلامه على المؤمنين أيمن وأبرك.. وعن عثمان الذي جمع القرآن ولم يلحق التلاوة ولم يدرك.. وعن عليّ الذي ما سجد لصنمٍ قطّ ولا أشرك.. خصوصا عن سيّدي شباب أهل الجنّة أبي محمّد الحسن وأبي عبد الله الحسين.. وعن أمّهما سيّدة النساء فاطمة الزهراء -رضي الله عنهم أجمعين-.. وعن عمّيه المكرّمين بين الناس أبي عمارة حمزة وأبي الفضل العبّاس.. وعن الستّة الباقين وعن باقي الصحابة أجمعين وعنّا ومعهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين..