الطيب
كلمة الطيب في اللغة صيغة مبالغة من الطيب الذي هو عكس الخبث، واسم...
العربية
المؤلف | سليمان بن حمد العودة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
أما المؤمنون فلهم في المحبة شأن آخر، فهم وإن أحبوا المال والأهل والولد، وأنسوا بما لذ وطاب مما أحل الله من متاع الدنيا، فهم مقتصدون في حبهم لها، وهم أشد حبا لله منها، يأنسون بذكره ويستلذون بطاعته يستكثرون به من قلة، ويأنسون به حين الوحشة، وتطيب في جنح الظلام مناجاتهم له، محبة الله غايتهم، ورضاه عنهم أحلى آمانيهم، يحبون ما يحبون لله.. ويبغضون ما يبغضون في ذات الله ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -أيها الناس- واخشواً يوماً لا يجزي والد عن ولده، ولا مولود هو جاء عن والده شيئاً، إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة:35].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119].
أيها المسلمون: ويهيم المحبون للدنيا بمحبتهم طرائق قدداً، فذاك متيم القلب لمحبوبته.. وذاك صريع العشق لمن استبلت فؤاده، وثالث محب مفتون بماله أو ولده ورابع مغرور بملكه وسلطانه أو حرثه ونسله ولا تكاد تخرج هذه وتلك عن شهوات الدنيا الفانية، من النساء والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة والأنعام والحرث، وعنها قال تعالى: (ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) [آل عمران: من الآية14].
وتبلغ المحبة دركات الحضيض حين يتخذ الناس أنداداً من دون الله يحبونهم كحب الله ..
أما المؤمنون فلهم في المحبة شأن آخر، فهم وإن أحبوا المال والأهل والولد، وأنسوا بما لذ وطاب مما أحل الله من متاع الدنيا، فهم مقتصدون في حبهم لها، وهم أشد حبا لله منها، يأنسون بذكره ويستلذون بطاعته يستكثرون به من قلة، ويأنسون به حين الوحشة، وتطيب في جنح الظلام مناجاتهم له، محبة الله غايتهم، ورضاه عنهم أحلى آمانيهم، يحبون ما يحبون لله.. ويبغضون ما يبغضون في ذات الله.
عباد الله: ومحبة الله تعالى في الإيمان ومقاماته كواسطة العقد بين حباته، فما بعد إدراك المحبة مقام إلا وهو ثمرة من ثمارها وتابع من توابعها كالشوق والأنس والرضى، ولا قبل المحبة مقام إلا وهو من مقدماتها كالتوبة والصبر، والزهد، وغيرها.
المحبة يزكو بها العمل القليل، ويبارك بها في الجهد اليسير فلا المجتهد السابق مستغن عنها، ولا القاصد أو المقصر مفلح بغيرها.
أخرج البخاري ومسلم رحمهما الله في صحيحيهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "بينما أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم خارجين من المسجد، فلقينا رجلاً عند سدة المسجدة، فقال: يا رسول الله: متى الساعة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"ما أعددت لها؟" قال: فكأن الرجل استكان، ثم قال: يا رسول الله: ما أعددت كبير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، قال: "فأنت مع من أحببت".
وفي رواية -لمسلم- قال أنس: فما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم "فإنك مع من أحببت".
قال أنس: فأنا أحب الله ورسول وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكون معهم، وإن لم أعمل بأعمالهم.
هذه المحبة -يا أخا الإسلام- هي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون، هي الحياة فمن حرمها فهو من جملة الأموات وهي النور فمن فقدها فهو في بحار الظلمات، وهي الشفاء فمن عدمها حلت بقلبه جميع الأسقام..
كيف لا وهذا المحب صلوات ربي وسلامه عليه يقول: "أتاني ربي عز وجل" – يعني في المنام – (ورؤيا الأنبياء حق) "فقال لي يا محمد؛ قل: اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك".
يا عبد الله: يا من تبحث عن حلاوة الإيمان.. فلن تجد طعمه حتى يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما – ففي الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه – كما يكره أن يلقى في الناء".
فإن قلت: وما السبيل إلى محبة الله، وما الأسباب الجالبة لها؟
أجابك ابن القيم يرحمه الله في مدارج السالكين، بقوله: الأسباب الجالبة للمحبة، والموجبة لها عشرة هي:
1- قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه، وما أريد به، كتدبر الكتاب الذي يحفظه العبد ويشرحه ليتفهم مراد صاحبه منه.
2- التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، فإنه توصله إلى درجة المحبوبية بعد المحبة.
3- دام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من هذا الذكر.
4- إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى، والتسنم إلى محابه وإن صعب المرتقى.
5- مطالعة القلب لأسمائه وصفاته، ومشاهدتها ومعرفتها، وتقلبه في رياض هذه المعرفة ومبادئها، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه لا محالة، ولهذا كانت المعطلة والفرعونية والجهمية قطاع الطريق على القلوب بينهما وبين الوصول إلى المحبوب.
7- مشاهدة بره وإحسانه وآلائه، ونعمه الباطنة والظاهرة فإنها داعية إلى محبة الله.
8- وهو من أعجبها: إنكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى وليس في التعبير عن هذا المعنى غير الأسماء والعبارات.
9- الخلوة به وقت النزول الإلهي لمناجاته، وتلاوة كلامه، والوقوف بالقلب والتأدب بأدب العبودية بين يديه، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.
10- مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم، كما ينتقى أطايب الثمر، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام، وعلمت أن فيه مزيداً لحالك ومنفعة لغيرك.
11- مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل.
ثم قال ابن القيم يرحمه الله: فمن هذه الأسباب العشرة وصل المحبون إلى منازل المحبة، ودخلوا على الحبيب، وملاك ذلك كله أمران: استعداد الروح لهذا الشأن، وانفتاح عين البصيرة. وبالله التوفيق.
يا أخا الإيمان: ولا يجتمع في القلب محبة الله ورسوله، وبغض الصالحين، ومعاداة أولياء الله المتقين والتحريش بهم، بل يلاحق الوعيد الإلهي من عادى لله وليا.. وفي مقابل ذلك تبدو آثار المحبة على من تقرب إلى محبوبه في سلوكياته واضحة جلية. ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي من أداء ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه".
أيها المسلمون: ولا عجب أن تتعلق قلوب الناس بأولياء الله من عباده الصالحين، وإن لم يمنحوهم من مغريات الدنيا فتيلاً، ذلكم لأن واهب المحبة هو الله العليم الخبير، ومقادير المحبة تنزل من السماء، ولا توزع من الأرض.. والفرق كبير بين السماء والأرض، وفي دنيا الواقع يجد الناس مصداق قول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه :"إذا أحب الله العبد دعا جبريل فقال إني أحب فلاناً فأحبه، فيجبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض" وذكر في بعض الروايات في المبغض من قبل الله عكس ذلك" أعوذ بالله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله صاحب الفضل والنعم والإحسان، أحمده تعالى وأشكره ولا نحصي ثناء عليه.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وإلاهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بعثه الله للناس مبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر إخوانه من النبيين والمرسلين.
إخوة الإسلام: وليست محبة الله دعاوى تجوز على كل لسان، أو أماني وظنون يوصف بها كل إنسان، وإن كان فضل الله واسعاً لا يستطيع حجره كائن من كان ولكن الدعاوى تصدقها الأعمال أو تكذبها.
ومن براهن المحبة الصادقة لله اتباع شرع الله والرضا به والتسليم دون حرج أو تململ، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أمر به أو نه، وفيما أحبت النفس أو كرهت.
قال تعالى – وقوله الفصل - (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران:31].
قال ابن كثير يرحمه الله: هذه الآية حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله. فإذا حصل الموجب الحقيقي للمحبة بالاتباع، كانت المحبة، بل كان ما هو أعظم منها، وهو محبة الله للمحب، ولهذا قال بعض العلماء الحكماء: ليس الشأن أن تحب، إنما الشأن أن تحب.
هذه الآية -معاشر المسلمين- فيها امتحان لمحبة العبد لربه، كما قال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية.
عباد الله: ومن براهن محبة الله.. أن يكون المحب متواضعاً لإخوانه المؤمنين، متذللاً لهم، رحيماً بهم، يحبهم لله، ويواليهم فيه – وإن لم يكن بينه وبينهم نسب أو حسب – لكنها رابطة العقيدة وأخوة الإسلام توجب عليه إلا بحقرهم ولا يخذلهم ولا يظلمهم.
وفي مقابل ذلك يكون المحب الصادق عزيزاً على عدوه وخصمه، شديداً عليهم ويبغضهم لله، ويعاديهم لكفرهم به، وتطاولهم على شرع الله.
وهو في ذلك محتاج إلى المجاهدة في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وإعزاز الحق، ودفع الباطل وأهله.
فهل يصدق الحب من شخص لا يغار لمحارم الله؟ وهل يصدق الحب لله ممن لا يتمعر وجهه لفشو الباطل وكثرة المبطلين؟!
إن محبة الشيء تعني الدفاع عنه، والدعوة إليه.. والدفاع عن الحق، والدعوة للخير الذي يحبه الله.. هو برهان على محبة الله.. وأنى لشخص يدعي محبة الله، وهو ناصب نفسه للدعوة للشر، ومحاربة الخير، وأهله! والمحبون الصادقون لا تأخذهم في دعوتهم وجهادهم للخير لومة لائم.. أو إرجاف مرجف – أو تخذيل مخذل –إقرؤوا بتمعن قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة:54].
وفي فترات ضعف الأمة تتبدل المفاهيم، وتنتكس الأحوال ولربما أصبح العدو صديقاً، والصديق عدواً.
ولكن ذلك لا يؤثر على حقائق القرآن، ولا يغير سلوكيات أهل الإيمان، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم.
إنها قافلة محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، تتجدد ما بقي القرآن حياً في قلوب الأجيال تردد (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُود) [الفتح: من الآية29].
يا أخا الإيمان: كن من دعاة الخير يحبك الله، فإن لم تستطع فأحب الخير حيث يحبه الله. وكن من أهل الخير فهم أولياء الله وأحباؤه فإن لم تستطع اللحاق بهم، فأحبهم وتمن اللحاق بهم يحبك الله ويعينك.. فالمرء مع من أحب.. والرجل يحب القوم ولما يلحق بهم فهو معهم.. فضلاً من الله ورحمة، ليكن حبك لله وفي الله، وفق شرع الله وإياك أن تكون محبتك حيث يحب دهماء الناس فمن يحبون أو يبغضون وفقاً للأهواء والشهوات ليس إلا.
يا أخا الإيمان: وإذا أردت أن تعلم درجة حبك له فعد لهذه الأسباب العشرة التي ذكرها العلماء.. وانظر في نفسك ومدى قربك أو بعدك منها، وسدد ما فاتك منها.. فلا أراني وإياك إلا في أشد الحاجة إليها في اليوم قبل الغد لنستجمع منها لأنفسنا زاداً أثناء السفر وبعد انتهاء السفر حيث القرار في دار المستقر.
ابدأ -يا أخا الإسلام- من الآن في بناء مستقبلك الحقيقي هناك، أما المستقبل هنا فمجاز وألغاز، ولعب ولهو وزينة وتفاخر، ابدأ من الآن في البناء شاباً كنت أو هرماً، رجلاً كنت أو امرأة.. واجتهد في إيداع الأرصدة هناك فالليل والنهار خزانتان تملآن هنا وتفتحان هناك، فاجتهد في ملء تلك الخزائن ببراهين المحبة لله وعناوين الإخلاص، ودلائل الطاعة له.
ولا تنس الاستعانة بالله، وقل كما قال محمد صلى الله عليه وسلم :"اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك".
وكلما فتر عزمك أو ضعف سيرك تذكر قرب الرحيل إلى ربك، واتخذ من أصحاب الخير عوناً لك في طريقك.. رعاك الله وسددك وجعلنا وإياك من أحبابه العالمين بكتابه، والسائرين على منهاجه.
هذا وصلوا ...