المليك
كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إن المسافر يفارق من يعرفونه إلى من لا يعرفونه، فيتخفف من أكثر القيود العرفية، وإذا كان في دينه رقة تخفف من بعض القيود الشرعية، وأتى شيئًا من المحرمات؛ ذلك أن ما يمنع العبد من فعل ما يعاب عليه خوفه من الله تعالى، وحياؤه من الناس، فإذا سافر سقط مانع الحياء أو ضعف؛ لعدم معرفة الناس به، ولم يبق إلا الخوف من الله تعالى ..
الحمد لله الجواد الكريم، الرزاق المجيد؛ يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، فعطاؤه من جوده وكرمه، ومنعه من محبته ورحمته، وكم من عبد أَحَبَّه الله -عز وجل- فحَمَاهُ الدُّنْيَا كما يُحْمَي المريض الماء لأجل الشفاء، نحمده فهو أهل الحمد، ونشكره فلا أحد أولى بالشكر منه؛ خلقنا ورزقنا وهدانا وأحيانا ثم يميتنا ثم يحيينا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وتركنا على بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعلموا أن حرَّ الدنيا مذكر بِحَرِّ عرصات القيامة، يوم لا ظل إلا من أظله الرحمن في ظله سبحانه، ومذكر بِحَرِّ جهنم أعاذانا الله تعالى منها ووالدينا والمسلمين، وأشد حر يكون في الدنيا هو من نَفَسِ جهنم إذا تنفست كما في حديث أَبَي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "اشْتَكَتْ النَّارُ إلى رَبِّهَا فقالت: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لها بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ في الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ في الصَّيْفِ، فَأَشَدُّ ما تَجِدُونَ من الْحَرِّ وَأَشَدُّ ما تَجِدُونَ من الزَّمْهَرِيرِ". متفق عليه.
والناس في الدنيا يفرون من حر بلدانهم إلى بلدان أخرى، ولا مفر من حر يوم القيامة إلا بالإيمان والعمل الصالح: (يَقُولُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المَفَرُّ * كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ) [القيامة: 10-13].
أيها الناس: أضحى السفر عادة من العادات لا ينفك الناس عنها ولو استدانوا لها؛ فرارًا من حر بلادهم، وتجديدًا لنشاطهم، واسترواحًا لأنفسهم وأهلهم وأولادهم.
ومنهم من سفره سفر طاعة كمن قصد الديار المقدسة، أو كان باعث سفره الدعوة، ومنهم من سفره سفر معصية كمن قصده لأجل الشهوات المحرمة، ومنهم من سفره مباح لكنه قد يؤول بالمقاصد والأفعال إلى الطاعة أو إلى المعصية.
ومن تأمل نصوص الشارع الحكيم وجد أنه لم يَحلْ بين الإنسان وبين ما يريد من السفر؛ لما في السفر من منافع كثيرة، ولما للمسافرين من أغراض عدة، ولكنه ضبط سلوك المسافر بأحكام وآداب تعصمه من الزلل، وتحميه من الخطأ، وتباعد بينه وبين مواطن الريب.
إن المسافر يفارق من يعرفونه إلى من لا يعرفونه، فيتخفف من أكثر القيود العرفية، وإذا كان في دينه رقة تخفف من بعض القيود الشرعية، وأتى شيئًا من المحرمات؛ ذلك أن ما يمنع العبد من فعل ما يعاب عليه خوفه من الله تعالى، وحياؤه من الناس، فإذا سافر سقط مانع الحياء أو ضعف؛ لعدم معرفة الناس به، ولم يبق إلا الخوف من الله تعالى.
ومن تأمل دعاء السفر وجد في أولياته التذكير بالله تعالى وبتقواه، والاعتبار بأن هذا الانتقال من بلد إلى آخر في السفر مذكر بانتقال العبد في سفره الحقيقي من دار الدنيا إلى الدار الأخرى، فالمسافر إذا ركب يريد السفر شُرع له أن يتلو آية الركوب: (لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ) [الزُّخرف:13-14].
قال المفسرون: أي: لصائرون إليه بعد مماتنا، وإليه سيرنا الأكبر، وهذا من باب التنبيه بسير الدنيا على سير الآخرة، وفيه إيذان وإعلام بأن حق الراكب أن يتأمل فيما يلابسه من المسير، ويتذكر منه المسافرة العظمى التي هي الانقلاب والرجوع إلى الله تعالى: فيبني أموره في مسيره ذلك على تلك الملاحظة، ولا يخطر بباله في شيء مما يأتي ويذر أمرًا ينافيها، ومن ضرورته أن يكون ركوبه لأمر مشروع.
وهذا التذكير الرباني بالرجوع إلى الله تعالى في الآخرة لو تدبره الراكب وهو يتلو دعاء سفره هاب التفريط في الواجبات أو استسهال المحرمات؛ إذ الرجوع إلى الله تعالى فيه حساب وجزاء، وربح وخسران.
وأول جملة يدعو بها المسافر تزيد في مراقبة العبد لربه إن هو غاب عن أعين من يعرفونه وهي ما قاله النبي –صلى الله عليه وسلم- وشرع لنا أن نقوله حال إنشائنا للسفر: "اللهم إِنَّا نَسْأَلُكَ في سَفَرِنَا هذا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنْ الْعَمَلِ ما تَرْضَى".
ففيه سؤال المسافر ربه سبحانه أن يعينه على نفسه الأمارة بالسوء، التي قد تثقل عن أداء الواجبات، أو تدفع إلى فعل المحرمات، وسؤال البر يشمل فعل كل المأمورات، كما أن التقوى تتناول الكف عن كل المحرمات، فناسب أن يكون هذا الدعاء الجامع النافع أعظم زاد يتزود به المسافر في بداية سفره، وهو تذكير له بأن يلتزم موجبَه؛ فإن العبد إذا نوى البر والتقوى في بداية سفره أعين عليهما، وإذا أتى بأسبابهما وفق لهما، فعلى المسافر أن يحافظ على هذا الدعاء المبارك، وأن يتدبره وهو يقوله، وأن يعزم على العمل بما يوجبه.
"اللهم إِنَّا نَسْأَلُكَ في سَفَرِنَا هذا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنْ الْعَمَلِ ما تَرْضَى"، قال بعض العلماء: سأل الله تعالى أن يكون السفر موصوفًا بهذا الوصف الجليل، محتويًا على أعمال البر كلها المتعلقة بحق الله تعالى والمتعلقة بحقوق الخلق، وعلى التقوى التي هي اتقاء سخط الله تعالى، بترك جميع ما يكرهه الله تعالى من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، كما سأله العمل بما يرضاه الله تعالى، وهذا يشمل جميع الطاعات والقربات، ومتى كان السفر على هذا الوصف فهو السفر الرابح، وهو السفر المبارك.
وجاء رجلٌ إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: إِني أُرِيدُ السفر فزَوِّدني، قال: "زَوَّدك اللهُ التَّقوى"، وجاءه آخر فقال: إني أُرِيدُ أَنْ أُسَافِرَ فَأَوْصِنِي، قال: "عَلَيْكَ بِتَقْوَى الله". رواهما الترمذي.
وهذا يدل على عناية النبي –صلى الله عليه وسلم- بالتقوى للمسافر، وأنه لا بد أن يستحضرها العبد في سفره.
ومن ألفاظ دعاء السفر: "اللهم أنت الصَّاحِبُ في السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ في الأَهْلِ". وصحبة الله تعالى للمسافر هي معيته له، وهي معية حفظ وتسديد وتوفيق، ومن حفظه الله تعالى في سفره عصم، وجاء في دعاء آخر أن النبي –صلى الله عليه وسلم- دعا في سفره فقال: "رَبَّنَا صَاحِبْنَا وَأَفْضِلْ عَلَيْنَا". رواه مسلم.
قال ابن الأثير -رحمه الله تعالى-: ومن صحبه الله لم يضره شيء. وقال ابن رجب -رحمه الله تعالى-: إن الله -عز وجل- يحفظ المؤمن الحافظ لحدود دينه ويحول بينه وبين ما يفسد عليه دينه بأنواع من الحفظ، وقد لا يشعر العبد ببعضها.
ومن حفظ دين الله تعالى في سفره حفظ الله له من غاب عنه من أهله وولده، وفي بعض روايات الحديث: "اللهم اصْحَبْنَا في سَفَرِنَا وَاخْلُفْنَا في أَهْلِنَا". رواه أحمد.
ومن الأدعية المأثورة في السفر التعوذ بالله تعالى مِنْ "الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ". رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، ثم فسره الترمذي -رحمه الله تعالى- بقوله: إنما هو الرُّجُوعُ من الْإِيمَانِ إلى الْكُفْرِ، أو من الطَّاعَةِ إلى الْمَعْصِيَةِ، إنما يَعْنِي الرُّجُوع من شَيْءٍ إلى شَيْءٍ من الشَّرِّ. وقال معمر بن راشد -رحمه الله تعالى-: هو الرجل يكون صالحًا ثم يتحول فيكون امرأ سوء.
ولعل سبب كون هذا الدعاء من أدعية السفر أن السفر مظنة تغير الأحوال، وتبدل القناعات، واهتزاز اليقين؛ لما يرى المسافر من أحوال الآخرين وعوائدهم وأخلاقهم وعمرانهم، فقد يستدل به على صحة مذهبهم وسلامة منهجهم، فيتأثر بهم، ويتبعهم في أفكارهم وسلوكهم، وكم غيرت الأسفار من أفكار! وكم أوهنت من أحكام شرعية في قلوب كثير من الناس.. وبهذا نعلم أهمية هذه الأدعية المباركة، ولمَ كان محلها السفر.
ومما يزيد الخوف على المسافر في تغير دينه، وفساد عمله، أن من أدعية توديعه المأثورة عن النبي –صلى الله عليه وسلم-: "أَسْتَوْدِعُ الله دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ". رواه أهل السنن.
وكم من شخص أضاع دينه في سفره؟! وكم من شخص مات على معصية فختم له في سفره بسوء عمله!! نعوذ بالله تعالى من الضلال بعد الهدى، ومن المعصية بعد الطاعة، ونسأله الموافاة على الإيمان واليقين. وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
الْخُطْبَةُ الْثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لله حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيْرًا مُبَارَكًا فِيْه كَمَا يُحِبُ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَه إِلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيْكَ لَه، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوُلُهُ، صَلَّى الله وَسَلَّمَ وْبَارَكَ عَلَيْه وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الْدِّين.
أَما بَعْدُ:
فَاتقُوا الله تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَعَظِّمُوا حرماته، وأدوا فرائضه، وانتهوا عن محارمه في إقامتكم وظعنكم، وحلكم وترحالكم؛ فإن الله تعالى يُعبد في كل مكان، ومطلع على العبد حيث كان: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) [البقرة: 235]، (إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) [الأحزاب: 54]، (عَالِمِ الغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [سبأ: 3].
أيها الناس: إن كثرة ذكر التقوى في أخبار السفر دعاءً بتحقيقها، ووصيةً بها، وتوديعًا باستيداع الله تعالى دين المسافر وأمانته وخواتيم عمله، كل أولئك ليدل على أهمية التقوى للمسافر، ولزوم مراقبة الله تعالى دائمًا، وقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "اتَّقِ الله حَيْثُمَا كُنْتَ".
فالإنسان إن غاب عن الناس بسفره فإنه لا يغيب عن الله تعالى، ولا عن الكرام الكاتبين، فعليه أن يجعل من نفسه رقيبًا عليها: (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) [الأعراف: 7]، (وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) [يونس: 61]، (يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [هود: 5]، (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) [ق: 16]، (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد: 4].
قال الأصمعي -رحمه الله تعالى-: سمعتُ أعرابيًا يُوصِي آخرَ أراد سفرًا فقال: آثر بعملك مَعَادَك، ولا تَدَع لِشَهْوَتِكَ رَشادَك، وليكُنْ عقلُك وزيرَك الذي يَدْعُوك إلى الهدى، ويجنِّبك من الرَدى، واحْبِس هواك عن الفواحش، وأطْلِقه في المكارم؛ فإنك تبرّ بذلك سلَفك، وتَشِيد به شرفَك.
وأوصت أعرابية ابنَها في سفر فقالت: يا بني: إنك تجاورُ الغرباء، وتَرْحَلُ عن الأصدقاء، ولعلك لا تَلْقَى غيرَ الأعداء؛ فخالِط الناسَ بجميل البِشْر، واتَّقِ الله في العَلاَنية والسرّ.
وأوصت أخرى ابنًا لها أراد سفرًا فكان مما قالت: وإياك والجودَ بدينك، والبخلَ بمالك.
ألا فاتقوا الله تعالى حيثما كنتم، وراقبوه في سركم وعلنكم، وخذوا بوصية النبي –صلى الله عليه وسلم- لمن أراد سفرًا حين أوصاه بالتقوى، ودعا له بها، واعلموا أن لزومها في السفر مع ما فيه من حفظ العبد في نفسه وأهله وماله، فإن فيها شكر الله تعالى على نعمه، وشكر النعم يزيدها، كما أن كفرها يمحقها ويرفعها: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7].
وصلوا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم..