السيد
كلمة (السيد) في اللغة صيغة مبالغة من السيادة أو السُّؤْدَد،...
العربية
المؤلف | عبدالله بن عبده نعمان العواضي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الصيام |
إن النفس البشرية مطبوعة على حب المال والاستئثار به؛ فإذا طُلب منها فقد تشح به ولا تعطيه، لكن النفس المسلمة إذا دُعيت إلى البذل في مرضاة الله -تعالى- فلا تبخل؛ لأنها ترجو الأجر على ذلك من الله -تعالى-، ولها في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الغني الكريم، الوهاب الرحيم، الذي أغنى وأقنى، وأنعم وأولى، وأعطى وأسدى، وأفضل وأجزل، فسبحانه ما أكثر مِننه على عباده، وما أعظم كرمه وجوده، وأوسع غناه وسخاءه، لا ينفد ما عنده ولو أعطى كلَّ عبد من عباده ما سأل، وهو القائل -جل وعلا- في الحديث القدسي-: "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر"(رواه مسلم)، وأشهد إلا إله إلا هو، إله كريم يحب الكرم، جواد يجب الجود، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بلغ المدى فيما سخا وأنفق، وبذل في الخير وتصدق، أعطى عطاء من لا يخشى الفقر؛ -فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً-.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيَّهَا الَّذِينَ آَمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَقُولُواْ قَولاً سَدِيداً * يُصلِحْ لَكُم أَعْمَالَكُم وَ يَغْفِرْ لِكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيمَاً) [الأحزاب: 70-71]، أما بعد:
أيها الصائمون الفضلاء: اعلموا -رحمني الله وإياكم- أن شهر رمضان شهر الخيرات والبركات، وموسم المسارعة إلى الطاعات والقربات، يتنقل المسلم في رياضه من خير إلى خير، ومن بر إلى بر، ومن نعمة إلى نعمة، ومن أجر إلى أجر؛ فلله الحمد والشكر.
فمما يزخر به هذا الشهر الكريم من الطاعات: طاعة الجود بالصدقات، وبذل المال في سبل البر والخيرات، وما أحوج الصائمين الفقراء إلى من يعينهم بسخائه ليكملوا عدة رمضان وقد حمدوا نزوله عليهم، فأقبلوا على الطاعات وقد خُفف عنهم همّ المعيشة، وأُعينوا على التفرغ لإدراك فضائل رمضان.
والله إنها لسعادة كبيرة لك -أيها الغني- عندما ترى مسلماً أعنته على طاعة الله بمالك؛ فأصبح يتقرب إلى الله -تعالى- خالي البال من هموم الحاجة والعوز، فكيف لو رأيته متفرغاً للقيام والقراءة والإقبال على العبادة في هذا الشهر الغالي وأنت سبب ذلك، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازياً في سبيل الله بخير فقد غزا" (متفق عليه).
وقال: "من فطر صائماً كتب له مثل أجره، لا ينقص من أجره شيء" (رواه أحمد).
هذا العمل من أحب الأعمال إلى الله -تعالى-، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تطرد عنه جوعا، أو تقضي عنه دينا" (رواه الطبراني).
أيها المسلمون: إن الله -تعالى- كريم ويحب من عباده أن يتصفوا بصفة الكرم، ومظاهر كرم الله -تعالى- وجوده لا تعد ولا تحصى.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله -تعالى- جواد يحب الجود، و يحب معالي الأخلاق، و يكره سفسافها" (رواه البيهقي).
فمن مظاهر كرم الله -تعالى- بين عباده: ما تفضل به عليهم من الخير في شهر رمضان: عبادات متعددة، وأجور مضاعفة، ومغفرة ورحمة، وقبول وعتق من النار؛ فيا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر.
عباد الله: إن النفس البشرية مطبوعة على حب المال والاستئثار به؛ فإذا طُلب منها فقد تشح به ولا تعطيه، لكن النفس المسلمة إذا دُعيت إلى البذل في مرضاة الله -تعالى- فلا تبخل؛ لأنها ترجو الأجر على ذلك من الله -تعالى-، ولها في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة، الذي كان أكرم الخلق وأسخاهم مع قلة ذات يده.
فلقد كان الجود ديدن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وصفته الملازمة له في كل شهور العام، غير أن جوده في رمضان كان يتضاعف ويكثر.
ويحكي لنا ابن عباس -رضي الله عنهما- صورة من صور دوام جود نبينا -عليه الصلاة والسلام- وإسراعه إلى العطاء الكثير فيقول: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود بالخير من الريح المرسلة".
إن جود رسول الله -عليه الصلاة والسلام- يزداد في رمضان لمناسبة الزمان والحال؛ فحينما رأى رسول الله -عليه الصلاة والسلام- جود الله على عباده في هذا الشهر المبارك دعاه ذلك إلى مزيد من البذل، فمن جاد على عباد الله جاد الله عليه، والكرم يذِّكر بالكرم.
وازداد جود رسول الله في الشهر؛ طلباً لزيادة الحسنات؛ فإن الأجور في رمضان مضاعفة على غيره.
وتضاعف جود رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وسخاؤه في رمضان لأن الجمع بين الصيام والصدقة من موجبات الجنة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن في الجنة غرفاً يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله عز و جل لمن أطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام".
وهذه الأعمال تجتمع في رمضان، ويتضاعف جود رسول الله لمجالسته جبريل -عليه السلام-؛ فإن لقاء الصالحين يرغب في الخير، وفي الاقتداء بأهله.
وهناك سبب عظيم آخر وهو: مدارسة القرآن؛ فلتأثره بكتاب الله بكثرة قراءته زاد كرمه؛ عملاً به؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- كان خلقه القرآن، كأنه قرآن يسير على وجه الأرض؛ لتطبيقه ما يحث عليه كتاب الله الكريم.
أيها الأحباب الكرام: لقد كانت صفة الجود والكرم خلقاً ثابتاً في شخصية النبي -عليه الصلاة والسلام- حتى قبل البعثة، قالت له خديجة -رضي الله عنها-: " أبشر؛ فوالله لا يخزيك الله أبدا، والله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَل، وتُكسِب المعدوم، وتَقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".
وما سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الإسلام شيئاً إلا أعطاه، فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: "يا قوم، أسلموا؛ فإن محمداً يعطي عطاء لا يخشى الفاقة".
وقال صفوان بن أمية: "والله لقد أعطاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي".
وفي غزوة حنين يوزع رسول الله غنائمها بين الناس ولم يبق لنفسه شيئاً، مع كثرة الغنائم، ثم يقول: "لو كان عدد هذه العضاة نعماً لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذوبا ولا جبانا".
ويلخص ابن القيم -رحمه الله- جود نبينا -عليه الصلاة والسلام- فيقول: "كان -صلى الله عليه وسلم- أعظم الناس صدقة بما ملكت يده، وكان لا يستكثر شيئاً أعطاه لله -تعالى- ولا يستقله، وكان لا يسأله أحد شيئا عنده إلا أعطاه قليلا كان أو كثيرا، وكان عطاؤه عطاء من لا يخاف الفقر، وكان العطاء والصدقة أحب شيء إليه، وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ بما يأخذه، وكان أجود الناس بالخير، يمينه كالريح المرسلة، وكان إذا عرض له محتاج آثره على نفسه: تارة بطعامه، وتارة بلباسه، وكان ينوع في أصناف عطائه وصدقته: فتارة بالهبة، وتارة بالصدقة، وتارة بالهدية، وتارة بشراء الشيء ثم يعطي البائع الثمن والسلعة جميعا كما فعل ببعير جابر، وتارة كان يقترض الشيء فيرد أكثر منه وأفضل وأكبر، ويشتري الشيء فيعطي أكثر من ثمنه، ويقبل الهدية ويكافئ عليها بأكثر منها أو بأضعافها؛ تلطفا وتنوعا في ضروب الصدقة والإحسان بكل ممكن، وكانت صدقته وإحسانه بما يملكه وبحاله وبقوله فيخرج ما عنده ويأمر بالصدقة ويحض عليها، ويدعو إليها بحاله وقوله، فإذا رآه البخيل الشحيح دعاه حاله إلى البذل والعطاء، وكان من خالطه وصحبه ورأى هديه لا يملك نفسه من السماحة والندى".
هذا –يا عباد الله- مع فقره وقلة ما عنده، فكيف لو كان ذا سعة وغنى؟
ويصدق فيه قول القائل:
تعوّد بسط الكف حتى لو انه | أراد انقباضاً لم تطعه أنامله |
تراه إذا ما جئته متهللا | كأنك تعطيه الذي أنت نائله |
ولو لم يكن في كفه غير نفسه | لجاد بها فليتق الله سائله |
هو البحرُ من أيِّ النَّواحي أتيتهُ | فَلُجَّتهُ المعروفُ والجودُ ساحلُهْ |
أيها المسلمون: إن الجود بالصدقة من الأعمال الصالحة التي دعا الله عباده إليها، ووعدهم العوض والمضاعفة عليها. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة: 254].
وقال: (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ: 39].
وقال: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 261].
إن الصدقة -معشر الصائمين- تدفع البلاء وتديم النعماء؛ فصنائع المعروف تقي مصارع السوء. وهذا مشاهد في الواقع، فكم دفع الله -تعالى- من الكوارث والمصائب عن أهل الصدقة والجود.
بخلاف أولئك البخلاء الذين يمنعون حق الله -تعالى- فيما رزقهم فضلاً عن الصدقة، فإنهم لا يزالون يتنقلون بين أحضان البلاء في أنفسهم وأهليهم وأولادهم وأموالهم.
ذكر الشوكاني -رحمه الله في كتابه: البدر الطالع هذه القصة فقال: "كان رجل من الزرعة وكان ذا دين وصدقة، فاتفق أنه بنى مسجدا يصلى فيه وجعل يأتي ذلك المسجد كل ليلة بالسراج وبعشائه؛ فإن وجد في المسجد من يتصدق عليه أعطاه ذلك العشاء، وإلا أكله وصلى صلاته، واستمر على ذلك الحال، ثم إنها اتفقت شدة ونضب ماء الآبار، وكانت له بئر فلما قل ماؤها أخذ يحتفرها هو وأولاده، فخربت تلك البئر والرجل في أسفلها خرابا عظيما، حتى إنه سقط ما حولها من الأرض إليها فأيس منه أولاده، ولم يحفروا له، وقالوا: قد صار هذا قبره، وكان ذلك الرجل عند خراب البئر في كهف فيها فوقعت إلى بابه خشبة منعت الحجارة من أن تصيبه فأقام في ظلمة عظيمة، ثم إنه بعد ذلك جاءه السراج الذى كان يحمله الى المسجد وذلك الطعام الذى كان يحمله كل ليلة، وكان به يفرق ما بين الليل والنهار، واستمر له ذلك مدة ست سنين والرجل مقيم في ذلك المكان على تلك الحال، ثم إنه بدا لأولاده أن يحفروا البئر لإعادة عمارتها فحفروها، حتى انتهوا إلى أسفلها فوجدوا أباهم حياً، فسألوه عن حاله فقال لهم: ذلك السراج والطعام الذى كنت أحمل الى المسجد يأتيني على ما كنت أحمله تلك المدة".
فانظروا-يا عباد الله- إلى حفظ الصدقة لصاحبها، ونجاته من مصيبته بسببها.
أيها المسلم: ألا تحب أن يغفر الله لك ذنبك، ويقيك عذابه يوم تلقاه، إن كنت تريد ذلك- ولا أظنك تأبى- فعليك بالصدقة، قال رسول الله -صلى عليه وسلم-: "فتنة الرجل في أهله وولده وجاره تكفرها الصلاة والصدقة والمعروف".
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا النار ولو بشق تمرة".
عباد الله: إن الصدقة من الأعمال الشاقة على النفوس التي لم تتعودها؛ لأن النفس من طبيعتها الشح والصد عن كل بر؛ ولذلك سمي هذا العمل الصالح صدقة؛ لأنها دليل على صدق صاحبها في العبودية لله تعالى، وسميت أيضاً برهاناً؛ لأنها تبرهن عن إيمان معطيها.
أيها الصائمون: إن الجود في سبل الخير يحتاج إلى نية صالحة بأن يكون البذل ابتغاء مرضاة الله -تعالى- وطلب ما عنده، قال تعالى: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) [الإنسان: 9].
ويحتاج إلى ستر وإخفاء مهما أمكن؛ لأن ذلك أدعى للإخلاص، وإلى استصغار ما يُعطى ولو كثر البذل؛ لأن الاستعظام للمبذول قد يغير النية ويمنع استمرار العطاء.
قال بعض السلف: "لا يصلح المعروف إلا بثلاث: تعجيله، وستره، واستصغاره".
وأن يكون المال حلالاً؛ فإن الله -تعالى- طيب لا يقبل إلا طيباً، ومن الأفضل أن تكون الصدقة من أحسن المال وأحبه إلى النفس كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [البقرة: 267].
وأن يتخير المتصدق في صدقته القريبَ، والأشد حاجة، والطائع قبل العاصي، والمساكين الذين تسترهم بيوتهم عن التعرض للناس، قال تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) [البقرة: 273].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم و أستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
أيها المسلمون: إن الحديث عن السخاء المستحب يدعونا إلى الحديث عن السخاء الواجب؛ لأن بعض أصحاب الأموال التي تجب فيها الزكاة يجعلون رمضان موسماً لإخراج زكاتهم؛ حرصاً على مضاعفة الأجر، وهذا عمل طيب إذا كان رمضان هو موعد حولان الحول على ذلك المال، أو كان الحول بعده بشهر أو أشهر وأراد صاحب الزكاة أن يعجل زكاته قبل وجوبها؛ حرصاً على خير رمضان. أما إذا كان موعد وجوب الزكاة في ذلك المال في شهر أو أشهر سابقة لرمضان؛ فإنه لا يجوز تأخيرها إلى رمضان؛ لأن ذلك فيه ظلم للفقراء والمستحقين للزكاة بتأخير حقهم عن موعده المحدد، وهذا أمر مهم ينبغي لأصحاب الأموال أن يتنبهوا إليه.
أيها المسلمون: إن الزكاة ركن ركين من أركان الإسلام، وسمة ناصعة في جبين هذا الدين؛ لأنها صِمام أمان للمجتمعات من الأخطار التي تهددها، ومن أعظمها خطر الحاجة والفقر. والذي ينتج عنه الأخطار الأخرى كالاضطراب الأمني والاجتماعي والسياسي؛ فالزكاة لو أُخذت كما وجبت وصرفت إلى مستحقيها لتحسن الوضع الاقتصادي للمجتمعات المسلمة، وربما لن يوجد حينها فقير معوز.
وَلَما ظلت بعض الدول الإسلامية مادة أيديها للمساعدات الغربية والأوروبية، والقروض الربوية التي لا تعطى إلا بضرائب تدفعها البلاد من تحجيم لبعض شعائر الشريعة الإسلامية، والسيادة الوطنية، والتبعية لتلك الدول المانحة.
أيها الأخوة الأحبة: إن الله -تعالى- لم يوجب الزكاة على كل مسلم، ولا على كل مال، وإنما أوجبها على المسلم الذي ملك مالاً زكوياً ملكاً تاماً، وحال عليه الحول، وبلغ النصاب. وهذا من عدل الله -تعالى- ورحمته بصاحب المال وبالفقراء -أيضا-؛ فالأصناف التي تجب فيها الزكاة هي: بهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم. والخارج من الأرض من الحبوب والثمار. وعروض التجارة. والذهب والفضة وما يقوم مقامها في عصرنا الحاضر من الأوراق النقدية.
أيها الصائمون الأفاضل: من ملك ذهباً قدره خمسة وثمانون جراماً فأكثر- أو ما كان قيمة له من العملة الورقية- فقد وجبت عليه الزكاة وهي ربع العشر.
وطريقة إخراج الزكاة في ذلك: أن يعرف قيمة الجرام ثم ينظر ما عنده من الذهب ويضربه به ثم يقسم على أربعين وخارج القسمة هو الزكاة، فلو كان عنده ذهب بمليون فزكاته خمسة وعشرون ألفاً، وهكذا.
وأما عروض التجارة - وهي كل ما يعرض ويعد للبيع والشراء من مواد غذائية وقطع غيار وعمارات وأراض وغيرها- فنصابها أيضاً نصاب الذهب ومقدار الواجب فيها كذلك.
وطريقة الإخراج أن يقوم التاجر بحساب ما عنده من البضائع المعروضة والمخزنة والتي في البنك أو هي ديون يرجى قضاؤها ثم يقسم ناتجها على أربعين -كما سبق- والناتج هو الزكاة، ويكون ذلك عند حولان الحول.
أسأل الله -تعالى- أن ينفعنا بما سمعنا.