المؤمن
كلمة (المؤمن) في اللغة اسم فاعل من الفعل (آمَنَ) الذي بمعنى...
العربية
المؤلف | إسماعيل القاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
فإذا آمن العبد بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، اطمأن قلبه، وطابت نفسه، وعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوه بشي لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، وإن اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه. ويؤمن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأَمْر المؤمن كلُّه خير، إن إصابته ضراءُ صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سراءُ شكر فكان خيرًا له.
الخطبة الأولى:
الغاية المنشودة، والأمنية المطلوبة التي يسعى المرء في تحصيلها، ويفني عمره في طلبها، والتي يبحث عنها الصغيرُ والكبير، والصحيحُ والمريض، والمسلم والكافر، والذكر والأنثى، والغني والفقير، هي السعادة حيث الأُنسُ، والبهجةُ، والسرورُ، وانشراحُ الصدر.
وقد صنَّف الناس السعادة على حسب مشاربهم، فالفقير يرى أن السعادة في الغنى، والمريض يرى أن السعادة في الشفاء، والسجين يرى أن السعادة في الحرية، وأُجملت في قول الحطيئة العبسي:
ولست أرى السعادة جمع مال | ولكن التقي هو السعيدُ |
وتقوى الله خير الزاد ذخرا | وعند الله للأتقى مزيد |
فالمال مثلاً قد يكون وسيلة للسعادة لا لغايتها، وإذا لم يوجّه المال في الخير فسيكون وبالاً على صاحبه، والغني سعيدٌ بما في قلبه من إيمان، وطمأنينة، وإنفاق، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نعم المال الصالح للمرء الصالح"(رواه أحمد).
وقد ذكر العلماء -رحمهم الله- أسبابًا عديدةً للسعادة، يَسْعد بها المرء في الدنيا والآخرة.
أولاها وأهمها: الدخول في الإسلام، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قد أفلح من أسلم"(رواه مسلم)، و"طوبى لمن هُدِيَ إلى الإسلام"(رواه الترمذي).
فلا سعادة مرجوة إلا بالإسلام، فكيف يسعد من لم يتذوق حلاوةَ التوحيد، ومناجاةَ ربِّ العالمين، بل كيف تزول حيرته وهو لم يؤمن بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولاً، والمسلم الحق من وحّد الخالق، ونبَذ عبادة الخلائق.
ثانيها: الإيمان بالله إيمانًا كاملاً بالقول والعمل والاعتقاد، بإفراده بالربوبية والألوهية، وإثباتِ الأسماء والصفات له على ما جاءت به النصوص، قال -سبحانه-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)[النّحل: 97]، أي: حياة سعيدة.
فإذا آمن العبد بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، اطمأن قلبه، وطابت نفسه، وعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوه بشي لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، وإن اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه.
ويؤمن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأَمْر المؤمن كلُّه خير، إن إصابته ضراءُ صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سراءُ شكر فكان خيرًا له.
ثالث أسباب السعادة: العمل الصالح، ومن أهمها أداء الصلوات، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وجعلت قرة عيني في الصلاة"(رواه النسائي)، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول لبلال: "أرحنا بالصلاة يا بلال"(رواه أحمد).
وقال -صلى الله عليه وسلم- في فضل صلاة الفجر: "يعقد الشيطان على قافية أحدكم إذا هو نام ثلاثَ عُقد، يضرب على كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ وذكر الله -تعالى- انحلت عقدة، وإذا توضأ انحلت عقدة، وإذا صلى انحلت عُقَدُه كلُّها، وأصبح نشيطًا، طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس، كسلان"(متفق عليه).
فإن المسلم إذا صلى، انشرح قلبُه، واطمأنت نفسُه في الرخاء، وزالت عنه الشدة في الضراء، قال -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِيْنُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[البَقَرَة: 153].
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وللصلاة تأثير عجيب في دفع شرور الدنيا، ولا سيما إذا أُعطِيتْ حقَّها من التكميل ظاهرًا وباطنًا، فما استُدْفعت شرورُ الدنيا والآخرة، ولا استُجلبت مصالحهما بمثل الصلاة، وسِرُّ ذلك: أن الصلاة صلة بالله -عز وجل-، وعلى قدر صلة العبد بربه -عز وجل- تُفتح عليه من الخيرات أبوابُها، وتقطع عنه من الشرور أسبابُها، وتفيض عليه موادُّ التوفيق من ربه -عز وجل-، والعافية والصحة والغنيمة، والغنى والراحة والنعيم، والأفراح والمسرات كلها مُحْضَرةٌ لديه، ومسارِعَةٌ إليه".
ومن الأسباب: ذِكْر الله -تعالى-، فإنه مفتاحُ كلِّ همّ، وجِلاءُ كلِّ غم، قال -عز وجل-: (أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرّعد: 28]، وقال عن نبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ)[الحِجر: 97-98].
وأفضلُ الذكر تلاوةُ كلامِ الله، فالقرآن هدى وبهجة وسرور، قال الطحاوي -رحمه الله-: "فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدوية القلبية والبدنية، وأدواءِ الدنيا والآخرة، وما كلٌّ يؤهل للاستشفاء به".
ومن الأسباب: البذل والمعروف والجود والإحسان، فمن جاد على عباد الله، جاد الله عليه، (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحَشر: 9]، قال التُّستريُّ -رحمه الله-: "فأولئك هم الباقون مع الله حياةً طيبةً بحياة طيبة".
قال ابن القيم -رحمه الله- في فضل الصدقة: "إن لها تأثيرًا عجيبًا في دفع أنواع البلاء -ولو كانت من فاجر، أو من ظالم، بل من كافر-، فإن الله -تعالى- يدفع بها عنه أنواعًا من البلاء، وهذا أمر معلوم عند الناس، خاصتِهم، وعامتِهم، وأهلُ الأرض كلُّهم مُقرُّون به؛ لأنهم جرَّبوه".
ومن الأسباب أيضًا: تفريج الكربات، ففي الصحيحين: "ومَن فرَّج عن مسلم كربة، فرَّج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة"، فمن فرج كربة فقد أحسن للمكروب وأسعده، والله يجازي عباده بمثل ما عملوا وأكثر و(هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ)[الرَّحمن: 60].
فاللهم إنا نسألك السعادة في الدنيا وفي الآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
من أسباب السعادة أيضًا: تَذكُّرُ نعم الله، قال -سبحانه-: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا)[إبراهيم: 34]، فنظر المسلم إلى من هو أسفلَ منه في أمور الدنيا، يورث في القلب القناعة بما أعطاه الله من نعم، فيسعد قلبه، وتنعم حاله، وتطمئن نفسه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم"(رواه مسلم).
فإذا نظر المسلم إلى أهل المصائب عرف نعمة الله عليه، وإذا رأى أحوال الزهاد والعبَّاد زادت همته، وقويت عزيمته.
ومن الأسباب: مصاحبة الأخيار، فهي من أسباب السعادة والفلاح؛ فإن الأخيار أدلاء على الخير والصلاح، وحماةٌ للمسلم من الشر والفساد، وفي صحيح مسلم ذَكَر النبي -صلى الله عليه وسلم- فضلَ حِلَقِ الذِّكر وفيه: "قال: فيقول: قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا، وأجرتُهم مما استجاروا، قال: فيقولون: رب فيهم فلانٌ عبدٌ خَطَّاء، إنما مر فجلس معهم، قال: فيقول: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم".
وضده بضده، ففي يوم القيامة (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً)[الفُرقان: 27-29].
ومن أسباب السعادة: المرأة الصالحة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة"، قال القرطبي -رحمه الله-: "فُسِّرت المرأة الصالحة في الحديث بقوله: التي إذا نظر إليها سَرّته، وإذا أمَرهَا أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله".
ومن الأسباب: ما قاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سعادة المرء: الجارُ الصالح، والمركبُ الهنيء، والمسكنُ الواسع"(رواه أحمد).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء، وأربع من الشقاء: الجار السوء، والمرأة السوء، والمركب السوء، والمسكن الضيق"(رواه الحاكم).
ومن أسباب السعادة: قِصَرُ الأمل، وعدمُ التعلق بالدنيا، قال الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-: "الحياة قصيرة، فلا تُقصّرها بالهمّ والأكدار"، ثم لا تحزن على ما فاتك من أمور الدنيا، بل اسعَ وشَمِّر فيما بقى من حياتك.
ومن الأسباب: زيارة أخ في الله، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من عاد مريضًا، أو زار أخًا له في الله، ناداه منادٍ بأَنْ طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلاً"(رواه الترمذي)، فينال طيبَ العيشِ في الدنيا وكذلك الآخرة.
والسلامة من الدَّين وغلبِة الرجال سببٌ للسعادة وزوال الهمّ وانجلاء الغم، وقد استعاذ النبي -صلى الله عليه وسلم- منها.
وكما أن للمسلم سعادةً في الدنيا، فإن له أيضًا سعادةً دائمة في الآخرة يطلبها ويدعو الله بها، قال الله -تعالى-: (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)[هُود: 108].
أسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا من أهل السعادة في الدارين.