الكبير
كلمة (كبير) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، وهي من الكِبَر الذي...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالرحمن الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
هذا القرآن العظيم إنما ينتفع به مَن أراد الله به الخير، ومَن وفَّقه لسلوك صراطه المستقيم، وبحسب ما يكون لدى العبد من العناية بالقرآن الكريم وتعظيمه يكون له من الهدى والخير، وهذا يوجب على المؤمن أن يراجع نفسه في طبيعة علاقته بالقرآن الكريم، فهذه الأمة إنما عزَّت وعَظُمَ شأنُها لَمَّا...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن اتَّبع سنَّته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ:
فيا أيها الإخوة المؤمنون: إن الله -جل وعلا- قد جعل لنا في هذا القرآن العظيم من الهدى والبيِّنات، ومما يقود إلى حُسن العقبى في الآخرة والأولى ما هو واضح وبيِّنٌ، وتتابعت نصوص القرآن والسنة على تأكيده وإلزام الخلق أجمعين أن يَقتفوا هذا الأثر العظيم، وأن يكونوا على صراط الله المستقيم؛ فإن الله -جل وعلا- قد تكفَّل لمن اتَّبع هذا القرآن بألا يضلَّ ولا يشقى: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى)[طه: 123]، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة".
وجاء الوعيد لمن تنكَّب الصراط المستقيم، ولم يتَّبع هدى القرآن العظيم، فقال جل وعلا: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى)[طه: 124 - 126].
والمتأمل في نصوص القرآن يجد فيها الخير والهدى علاوة على ما يكون لمن تلا القرآن وتدبَّره، واتَّبع هداه، واقتفى أثره من تلك الطمأنينة العظيمة التي يُودعها الله -جل وعلا- في قلوب أهل القرآن -أهل تلاوته، أهل تدبُّره، أهل العمل به-.
ومما جاء في هذا الباب ما لفت الله فيه أنظار الخلائق جميعًا إلى ما في هذا القرآن العظيم من الخير والهدى، ومن الرحمة والشفاء، فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)[يونس: 57 - 58].
فقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ)[يونس: 57] امتنان من الله -جل وعلا- على خلقه لما أنزله من القرآن العظيم على رسوله الكريم -صلى الله عليه وآله وسلم-.
وتأمل أن الله نادى الناس جميعًا: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)[يونس: 57]، فهو خطاب لكل المكلفين من الإنس والجن؛ ليتدبَّروا هذا القرآن، وليعظِّموه، وليعلموا أنه هو جسرهم وطريقهم إلى رضا ربهم وجنته جل وعلا.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ)[يونس: 57]؛ فهو خطاب لكل المكلفين منذ العهد الزاهر الأول وقت تنزُّل القرآن على سيد الخلق محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.
ولذلك قال الله -تعالى- في الآية الأخرى مخاطبًا سيد الخلق محمدًا -صلى الله عليه وآله وسلم-، ومبينًا أن ما جاء به من القرآن من ربه هو للخلائق جميعًا: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ)[الأنعام: 19]؛ فهذا القرآن تكفَّل الله -جل وعلا- بتبليغه وبيان ما فيه للمكلفين جميعًا، وهيَّأ الله -جل وعلا- مَن يبلغه باللسان العربي، وبما يُوضِّحه ويُبينه بما يكون من ترجمة معانيه، وتوضيح ما فيه من الهدى لكل أحد ممن ينطق بكل لسان وكل لغة، ومَن لم يصله -ممن يقدره الله جل وعلا- هذا القرآن، ولم تقم الحجة عليه، فإن الله لا يظلم أحدًا، فمثل هؤلاء كما جاء في الحديث أنهم ممن يُختبرون يوم القيامة، إذا لم تبلغهم دعوة الإسلام والقرآن في الدنيا؛ إما لأجل بُعْدهم عن مواطن الهدى وبيان الإسلام، أو لغير ذلك من العوارض، فإن هؤلاء لا يُجازون على جهلهم، فإن من المقرر في الشريعة أن مَن جهِل شيئًا لا يؤاخذ على جهله، ولا يُقتص منه على عدم علمه، فالله -جل وعلا- هو الحكم العدل، فجاء في الحديث أنهم يُمتحنون يوم القيامة، والمقصود أن هذا القرآن بلغ مشارق الأرض ومغاربها، فهو خطاب للخلق كافة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)[يونس: 57].
ثم بيَّن الله -جل وعلا- ما فيه من هذه المواعظ العظيمة والخير والهدى، فقال: (قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ)[يونس: 57] أي زاجر عن الفواحش ومانع من اقتراف الآثام من الشرك، وما دونه من البدع والكبائر وصغائر الآثام، فهو متضمن ما يجب على الخلق من طاعة ربهم، والاستقامة على شرعه.
وبيَّن الله -جل وعلا- واعظًا عباده فيه ما لهم إن هم استقاموا وأطاعوا من حُسن العقبى في الآخرة، والعيش الكريم في الدنيا، فهو مشتمل على كل ما فيه الخير والهدى، وإنما يكون ذلك لمن أقبل عليه وحفل به، وعظَّمه حقَّ تعظيمه، وقال الله -جل وعلا- بعد هذا -مُبينًا ما في هذا القرآن من الخير-: (قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)[يونس: 57] يعني أنه يُزيل الشُّبَه والشكوك، وما في القلوب من رجس ودنسٍ، مما يكون من وساوس الشيطان، أو مما يوحي به شياطين الإنس بعضهم إلى بعض غرورًا، فهو كاشف لكل هذه الشُّبَه، مبينٌ ما يجب على الخلق من اتِّباع الهدى والاستقامة على صراط الله المستقيم.
(قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ)[يونس: 57]، والله -جل وعلا- عظَّم هذه الموعظة وما في هذا القرآن من الشفاء للصدور بأنه من لدنه جل وعلا، فهذا القرآن هو كلام الله، ومن إحسان الله ورحمته بخلقه أنه أنزله إليهم، وتكلَّم به جل وعلا، وإلا فمَنْ هؤلاء الخليقة الضعفاء، حتى يكلِّمهم الله، ويجعل لهم هذا الهدى، لولا فضله ورحمته، ولولا إحسانه جل وعلا؟!
فإنه ليس لأحد على الله حق يُلزمه، ولكنه عدلُه جل وعلا وفضله، ورحمته وإحسانه، ثم قال الله -تعالى- مبينًا ما في هذا القرآن أيضًا من الخير: (وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)[يونس: 57]، وصفه أولًا بأنه موعظة، وهذا لجميع الناس، ووصفه بأنه هدى، ووصفه بأنه شفاء، وهذا لجميع الناس، فهو يَعِظ الخلق جميعًا ليهتدوا، وهو أيضًا شفاء لهم جميعًا مما حصل في قلوبهم من الزيغ ومن البُعْد عن الهدى.
ثم قال: (وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)[يونس: 57] يعني أنه يحصل بهذا القرآن الكريم من الهداية والرحمة لأهل الإيمان الذين صدَّقوا به وعظَّموه، واتَّبعوا ما فيه من أوامر الله، وانتهوا عما نهى، فهو شفاء للخليقة جميعًا، باعتبار ما يكون من إزالة رجس الشرك، ودنس البدع، وهنالك شفاء له خصوصية لأهل الإيمان، وهو ما يكون لهم من الخير، وما يكون لهم من الانتفاع به في أمور دنياهم، هذا الانتفاع الذي يؤدي بهم إلى جنة ربهم -جل وعلا-؛ كما قال سبحانه: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا)[الإسراء: 82]، وقال سبحانه: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ)[فصلت: 44].
فهذا القرآن العظيم إنما ينتفع به مَن أراد الله به الخير، ومَن وفَّقه لسلوك صراطه المستقيم، وبحسب ما يكون لدى العبد من العناية بالقرآن الكريم وتعظيمه، يكون له من الهدى والخير، وهذا يوجب على المؤمن أن يراجع نفسه في طبيعة علاقته بالقرآن الكريم، فهذه الأمة إنما عزَّت وعَظُمَ شأنُها لَمَّا استقامت على القرآن، وهكذا في شأن الأفراد إنما يَعظُم شأن المسلم ويستقيم حاله إذا كان مُعظِّمًا للقرآن الكريم.
وقد تكاثرت نصوص القرآن والسنة ببيان ما في اتِّباع القرآن والعناية به من الخير والفضل للإنسان؛ يقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: "إن الله يرفع بهذا القرآن أقوامًا ويضع به آخرين" يرفعهم به إذا عظَّموه تلاوة وتدبرًا وعملًا به، وبما جاء فيه، ويضع به آخرين، يُنزل قدرهم، ويجعل لهم التحقير والإذلال إن هم عامَلوا القرآن معاملة الانصراف والزهد فيه.
ومن تأمَّل أحوالنا نحن على صفة الأفراد فإن انصراف كثير منا عن القرآن واضح بيِّنٌ، ولذلك جاء في القرآن ما يُبيِّن أن هاجِرَ القرآن مذموم فعلُه، مُستقبَحٌ صنيعُه، ولذا قال الله -تعالى- في كتابه الكريم: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا)[الفرقان: 30].
وهجْرُ القرآن كما بيَّنه العلماء يكون على عدة صفات: يكون هجرًا لتلاوته فيمن استقلَّها، وقد قال العلماء: إنه لا يَحسُن بالمسلم أبدًا أن ينصرم شهر أو أربعون يومًا على الأكثر، ولم يختم كتاب ربه، فإن فعل فإنه قد فاته من الخير ما فاته، ويخشى أن يكون ممن وُصِفوا بهجر القرآن. ومِن هجْرِ القرآن هجرُ حفظه، أو حفظ كثير منه.
وقد يُستغرب من كثير من الناس أنه ربما حفِظ الأشعار وغير ذلك من أقوال الناس، ثم لا يحفل بكلام ربه، ولا يحفظ منه إلا قليلًا.
ومن أنواع هجر القرآن: هجرُ تدبُّرِه، وهجر العمل به، وهجر الاستشفاء به، كل ذلك من أنواع الهجر، فمن عظَّم القرآن كلام الله عظَّمه الله -جل وعلا-.
ومَن تأمَّل أيضًا أحوالنا على صفة الأفراد -وبخاصة مع ما وُجِد من الثورة المعلوماتية، ووجود هذه الأجهزة الكفِّيَّة من هواتف وغيرها في أيدي الناس- فيوشك أن تجد أن مطالعة كثير من الناس لشاشات هذه الأجهزة، أكثر من عدد مشاهدتهم ومطالعتهم لصفحات كتاب ربهم، ولو أجرى الإنسان مقارنة يسيرة، وحسب ما يقضي من أوقات في مطالعة هذه الأجهزة، وتقليب ما فيها -لوجد أن هذا الوقت الذي يَقضيه في هذه المطالعة والمتابعة، كفيل بأن يجعله خاتمًا للقرآن لا أقول: في شهر، بل في نصفه أو أقل من ذلك، لو حسب الوقت الذي يُقضى في مطالعة هذه الأجهزة- ليس في الأمور الضرورية، ولكن في الأمور التي هي من قبيل الفضول- فإنه سيجد لو أنه أمضى هذا الوقت في تلاوة كتاب ربه، لأمسى وأصبح خاتمًا له، ووجد من البركات في استثمار الأوقات ما لا يوصَف ولا يُحصى.
فنسأل الله أن يهدي قلوبنا للإيمان، وأن يُثبتها بحب القرآن؛ أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومَن تَبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ:
فهذا قول ربنا -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)[يونس: 57]، ثم قال جل وعلا: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)[يونس: 58]، فهذا تعليم من الله -جل وعلا- لعباده بأن يتبيَّنوا ويتبصَّروا ما هو الأحق بالفرح؟ ما هي الأمور التي ينبغي أن يحفل بها الناس، وأن يفرحوا بها؟ فإن من عادة أكثر الخلق فرحهم بمتاع الدنيا، وما يُؤْتَون من أموالها ومُتعها، وهذا فرح طبيعي، فإذا كان في حدوده المباحة، فإنه لا ملامة على الإنسان فيه، ولكن الملامة كل الملامة أن يظن ظانٌّ أن حصوله على مُتعِ الدنيا من أموال أو مناصب ورُتب، وغير ذلك، هو غاية المنى، ومنتهى المقاصد، فهذه أمور زائلة ومتاع متحول، والمحاسبة عليه عسيرة، وسيُوقَف مسؤولاً عن كل ذلك.
لكن الذي ينبغي أن تتجه له الهِمم للحصول عليه والفرح به، هو ما منَّ الله به على الإنسان من الهدى والإسلام.
(قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ)[يونس: 58] قل يا رسولنا يا محمد مبينًا للخلق ما هو الذي ينبغي أن يكون محل الفرح والحفاوة، وهو فضل الله ورحمته؛ رُوِيَ عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا)[يونس: 58]، قال: فضل الله: الإسلام، ورحمته: القرآن".
ورُوِي غير ذلك، ومهما يكن من أمرٍ، فالمعنى في هذا المقام ومتابعةً وصلةً بالآية التي قبلها أن الذي يجب أن يفرح به الناس هو ما جاءهم من الله من الهدى من دين الحق، فليفرحوا بالثبات عليه، فكثير من الخلائق صُرِف عن الإسلام وعن الهداية والقرآن، ولذا قال الله -جل وعلا- مبينًا حال هؤلاء الذين صرفهم الشيطان: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)[الأنعام: 116]، وقال سبحانه: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَه)[سبأ: 20 - 21].
فينبغي للمؤمن أن يفرح بالإسلام والهداية للإيمان، وما أنزل الله من القرآن، وأن جعله من أتباع خير الأنام محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-، فهذا الذي ينبغي أن يفرح به المؤمن، وأن يبذل الأسباب في الثبات عليه إلى أن يَلقى الله -جل وعلا-، ولذا أخبر سبحانه عن حال عباده الراسخين أنهم يدعون الله -جل وعلا- أن يُثبتهم، وألا يجعل لهم ما يُزيغهم عن هذا الهدى وهذه النعمة العظمى؛ قال سبحانه مبينًا دعاء هؤلاء الراسخين: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)[آل عمران: 8].
وهذا عمل منهم بوصية الله -جل وعل- أن يثبتوا على هذا الدين، على الإيمان بالله وعلى طاعته، والاستقامة على شرعه، فقال سبحانه وتعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)[آل عمران: 103].
قال الله -جل وعلا- في هذا المقام حاثًّا عباده على أن يثبتوا على دينه حتى يَلقوه: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
(قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)[يونس: 58] هو خير مما يُفرح به عادة من مُتَعِ هذه الدنيا الزائلة، خير مما يجمعون من حطام الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية الذاهبة لا مَحالةَ، فكل هؤلاء التجار وأصحاب الرُّتَب والمراتب، مَضَوْا في أَبد التاريخ، ولم يُذكر ولم يُخلَّد إلا مَن كان له من الخير وسوابق الفضل في نصرة دين الله، بأن يُثنى عليه، ويُعظَّم شأنُه، أو أولئك الذين حاربوا دين الله، واستغلوا ما آتاهم من الأموال، وما آتاهم من الرتب والمناصب، فحاربوا دين الله، فَخُلِّد ذِكرهم بذكر سيِّئ صنيعهم، ولَعْن الله لهم، وبيان عقوبته جل وعلا لهم، كما أخبر عن فرعون وعن هامان، وعن قارون وعن غيرهم.
وبعد -أيها الإخوة الكرام- فإن من علائم التوفيق للعبد: أن يحرص على ثباته على دين الله، وأن يكون معتنيًا بأعظم ما أنزل الله وهو حبله المتين -القرآن العظيم-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)[يونس: 57].
ألا وصلُّوا وسلِّمُوا على خير خلق الله نبينا محمد، فقد أمرنا الله بذلك، فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم وارضَ عن خلفائه الراشدين والأئمة المهديين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذِل الكفر والكافرين.
اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقِنا عذاب النار.
ربَّنا لا تُزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
اللهم مقلِّب القلوب ثبِّت قلوبنا على دينك، اللهم مصرِّف القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك.
اللهم أعنَّا على ذِكرك وشكرك وحُسن عبادتك.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا وارحمهم كما ربَّوْنا صغارًا.
اللهم هبْ لنا من أزواجنا وذرياتنا قرَّةَ أعينٍ، واجعلنا للمتقين إمامًا.
اللهم بمنِّك وفضلك لا تدَع لنا في مقامنا هذا ذنبًا إلا غفرته، ولا همًّا إلا فرَّجته، ولا كربًا إلا نفَّسته، ولا دينًا إلا قضيته، ولا مريضًا إلا شفيته، ولا مذنبًا إلا إليك رَددته، ولا سائلًا إلا أعطيته برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أدم على بلادنا الأمن والطمأنينة والإيمان، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفِّقهم لما فيه خير العباد والبلاد.
اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم ولِّ عليهم خيارهم واكْفهم شرارهم.
اللهم احقن دماء المسلمين في كل مكان.
اللهم إن بأمة نبيك محمد -عليه الصلاة والسلام- من الشدة واللأواء، ومن الفرقة والضَّعف، وتسلُّط الأعداء، ما لا نشكوه إلا إليك، ولا يَقدِر على كشفه إلا أنت، فاللهم عجِّل بالفرج لكل مُبتلًى من المسلمين.
اللهم إنا نَدرأ بك في نحور أعداء أمة نبيك محمد -عليه الصلاة والسلام-، اللهم إنا نشكو إليك ضَعف قوَّتنا، وذَهاب حيلتنا يا رب العالمين.
اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين، وعجِّل بالفرج لإخواننا في الشام وفي ليبيا، وفي العراق، وفي غيرها من البلاد يا رب العالمين.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصافات: 180 - 182].