الباطن
هو اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (الباطنيَّةِ)؛ أي إنه...
العربية
المؤلف | أحمد بن عبدالله بن أحمد الحزيمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الحياة الآخرة |
هَذِهِ هِيَ الْجَنَّةُ، فَهَلْ رَأَيْتُم أَشَدَّ غَبْنًا مِمَّنْ يَبِيعُ الْجِنَانَ الْعَالِيَةَ بِحَيَاةٍ أَشْبَهَ بِأَضْغَاثِ أحْلاَمٍ؟! يَبِيعُ الْفِرْدَوْسَ بدُنيَا قَصِيرَةٍ وَأَحْوالٍ زَهِيدَةٍ مَشُوبَةٍ بِالنَّقْصِ مَمْزُوجَةٍ بِالْغُصَصِ؟! بحَيَاةٍ حَقِيرَةٍ؛ إِنْ أَضْحَكَتْ قَلِيلًا أَبْكَتْ كَثِيرًا، وَإِنْ سَرَّتْ أيَّامًا أَحْزَنَتْ دُهُورًا!! فَيَا مَعْشَرَ الْمُشْتَاقِينَ إِلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ!! جَاهِدُوا أَنْفُسَكُمْ بِتَرْكِ الشَّهَوَاتِ، وَتَنَافَسُوا فِي فِعْلِ الْخَيْرَاتِ: يُسْكِنْكُمْ مَوْلَاكُمُ الْجَنَّاتِ وَيَرْفَعُ لَكُمُ الدَّرَجَاتِ.
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ للَهِ الَّذِي جَعَلَ جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ نُزُلاً، وَيَسَّرَهُمْ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمُوصِلَةِ إِلَيهَا فَلَمْ يَتَّخِذُوا سِوَاهَا شُغُلاً، وَسَهَّلَ لَهُمْ طُرُقَهَا وَجعَلَهَا ذُلُلاً، وَكَمَّلَ لَهُمُ الْبُشْرَى بِكَوْنِهِمْ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً.. وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ محمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أمَّا بَعْدُ: اسْمَعُوا -أَيُّهَا المتقونَ- إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الْوَارِثُونَ، نَعَمْ الْوَارِثُونَ لِلْجَنَّةِ وَهَذَا الْوَعْدُ حَقٌّ لَا مِرْيَةَ فِيهِ, قَالَ الْعَزِيزُ جَلَّ شَأْنُهُ: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[الدخان: 51- 57].
الْحَديثُ عَنِ الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا -عِبَادَ اللَّهِ- لَا تَفِي حَقَّهُ السَّاعَةُ والسَّاعَتانِ، وَلَا الْخُطْبَةُ وَالْخُطْبَتَانِ؛ فَالْمُتَحَدِّثُ لَا يَكَلُّ, وَالسَّامِعُ لَا يَمَلُّ, إِذْ هِيَ دَارُ الْكَرِيمِ الْمَنَّانِ، وَجَزَاءُ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ، وَهَبَهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِرَحْمَتِهِ، وَجَعَلَ الإيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ سَبَبًا يُوصِلُ إِلَيهَا، وَالْيَوْمَ نُكْمِلُ مَا بَدَأْنَاهُ فِي الْخُطْبَةِ الْمَاضِيَةِ.
عِبَادَ اللَّهِ: قَلُوبُ أهْلِ الْجَنَّةِ صَافِيَةٌ، وَأَقْوَالُهُمْ طَيِّبَةٌ، وَأَعْمَالُهُمْ صَالِحَةٌ، فَلَا تَسْمَعُ فِي الْجَنَّةِ كَلِمَةً نَابِيَةً تُكَدِّرُ الْخَاطِرَ، أَوْ تُعَكِّرُ الْمِزَاجَ، أَوْ تَسْتَثِيرُ الأَعْصَابَ، وَلَنْ تَجِدَ خِلاَفًا بَيْنَ أحَدٍ أَوْ حِقْدًا أَوْ ضَغِينَةً أَوْ غَيْرَةً, كَمَا قَالَ سُبْحَانَه: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذابًا)، وَقَالَ سُبْحَانَه: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاَّ سَلامًا)، وَقَالَ جَلَّ اسْمُهُ: (لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً)[الغاشية: 11].
لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ أَمْرًا مَمْنُوعًا أَوْ مُحَرَّمًا, بَلْ كُلُّ مَا فِيهَا مُبَاحٌ، نَعَمْ كُلُّ مَا فِيهَا مُبَاحٌ، مُبَاحٌ أَكْلُهُ، مُبَاحٌ شُرْبُهُ، مُبَاحٌ لِبْسُهُ، مُبَاحٌ النَّظَرُ إِلَيهِ.
وَلَيْسَ فِيهَا ثَمَّةَ خَوْفٌ أَبَدًا؛ فَلَنْ تَخَافَ مِنْ عِصَابَةِ تَتَرَبَّصُ بِكَ قَتْلًا أَوْ سَرِقَةً أَوِ اغْتِصَابًا، وَلَيْسَ هُنَاكَ خَوْفٌ أَبَدًا مِنْ سِيادَةِ الْفَوْضَى أَوِ انْعِدَامِ الأَمْنِ أَوْ كَثْرَةِ الْقَتْلِ وَالْهَرْجِ.
وَلَيْسَ فِي الْجَنَّةِ -يا عِبَادَ اللَّهِ- نَوْمٌ أَبَدًا؛ فَالنَّوْمُ أَخُ الْمَوْتِ، وَالنَّوْمُ وتَبِعَاتُهُ مِنَ الأحْلاَمِ الْمُزْعِجَةِ أَوْ الْأَرَقِ وَالسَّهَرِ لَا يَأْتِي إلَّا بَعْدَ التَّعَبِ وَالْجَهْدِ والإِنهَاكِ، وَالْجَنَّةُ حَاشَاهَا ذَلِكَ.
أهْلُ الْجَنَّةِ لَا يَخَافُونَ الْمَوْتَ وَفُجَاءَتَهُ، وَكَمْ أَقْلَقَ أهْلَ الدُّنْيا ذَلِكَ، فَلَا يَخَافُونَ عَلَى قَرِيبٍ أَوْ حَبيبٍ مِنْ ذَلِكَ، لِماذَا؟ لِأَنَّ بَعْدَ قَرَارِهِمْ فِي الْجَنَّةِ وَتَمَتُّعِهِمْ بِهَا يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَالْكَبْشِ الْأَمْلَحِ فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيُذْبَحُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، ثُمَّ يُقالُ لَهمْ: "خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ؛ فَلَوْ أَنَّ أحَدًا مَاتَ فَرَحًا لَمَاتَ أهْلُ الْجَنَّةِ، وَلَوْ أَنَّ أحَدًا مَاتَ حُزْنًا لَمَاتَ أهْلُ النَّارِ". الحديثُ بطُولِهِ عندَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ والتِّرمِذِيِّ.
أَيُّهَا الأَحِبَّةُ.. مَا رَأْيُكُمْ لوَ أَنَّ امْرَأَةً وَاحِدَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ أَطَلَّتْ عَلَينَا فِي سَمَائِنَا؟! مَاذَا يَحْدُثُ فِي هَذَا الْكَوْنِ؟! اسْتَمِعْ إِلَى الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَصِفُ هَذَا الْمَشْهَدَ وَيَقُولُ: "لَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا -لَيْسَ لِأَنْوَارِ الأرْضِ مَكَانٌ، لَيْسَ لِلشَّمْسِ مَكَانٌ عِنْدَ نُورِهَا-، وَلَمَلَأَتْهُ رِيحًا -أَيْ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ يَعُجُّ بِرِيحِهَا الطَّيِّبِ-، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا -أَيْ: خِمَارُهَا- خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا" (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).
وَمَعَ هَذَا فَنِسَاءُ الدُّنيَا الْمُؤْمِنَاتِ الْلَاتِي يُدْخِلُهُنَّ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ هُنَّ مَلِكَاتُ الْجَنَّةِ وَهُنَّ أَشْرَفُ وَأَفْضَلُ وَأَكْمَلُ وَأَجْمَلُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِعِبَادَتِهِنَّ رَبَّهُمْ فِي الدُّنْيا؛ قَالَ تَعَالَى: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ)[الزخرف: 70].
وَقَدْ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُنَّ قُصُورًا وَنَعِيمًا مَمْدُودًا أَعْطَاهُنَّ اللهُ شَبَابًا دَائِمًا وَجَمَالاً لَمْ تَرَهُ عَيْنٌ مِنْ قَبْل. وَعَنْ أَنَسٍ رضي اللهُ عَنهُ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "يُعْطَى المُؤْمِنُ فِي الجَنَّةِ قُوَّةَ كَذَا وَكَذَا مِنَ الجِمَاعِ"، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ يُطِيقُ ذَلِكَ؟ قَالَ: "يُعْطَى قُوَّةَ مِائَةٍ" (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ والأَلبانِيُّ).
وَلَا بُدَّ أَنْ نَعْلَمَ -أَيُّهَا الْإِخْوَةُ- أَنَّ الْجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا لَيْسَتْ خَاصَّةً بِالرِّجَالِ دُونَ النِّساءِ، إِنَّمَا هِيَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)، مِنَ الْجِنْسَيْنِ كَمَا أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ تَعَالَى فقَالَ سُبْحَانَه: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا)[النساء: 124]، وَعِنْدَ ذِكْرِ اللهِ لِلْمُغْرِيَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْجَنَّةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَنَاظِرِ الْجَمِيلَةِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَلاَبِسِ وغيرها فَإِنَّه يُعَمِّمُ ذَلِكَ لِلْجِنْسَيْنِ -الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى-؛ فَالْجَمِيعُ يَسْتَمْتِعُ بِمَا سَبَقَ. فَعَنْ أُمِّ عُمَارَةَ الأَنْصَارِيَّةِ، أَنَّهَا أَتَتِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: "مَا أَرَى كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا لِلرِّجَالِ وَمَا أَرَى النِّسَاءَ يُذْكَرْنَ بِشَيْءٍ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةَ (إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ وَالمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ)، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ، وَصَحَّحَهُ الأَلبَانِيُّ. وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ مَا يُذْكَرُ مِنْ نَعِيمٍ فِي الْجَنَّةِ فَهُوَ عَامٌّ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَلَى حَدٍّ سَواءٍ.
اللهُمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللهمَّ بَارِكْ لَنَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَانْفَعْنَا بِمَا فِيهِمَا مِنَ الآياتِ وَالْحِكْمَةِ، أَقَوْلُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ تَعَالَى لِي وَلَكُمْ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرَا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ... أَمَّا بَعْدُ:
أيهَا المؤمنونَ: أَلَا وَإِنَّ أَعْظَمَ وَأَجْمَلَ وَأَحْسَنَ مَا فِي الْجَنَّةِ: التَّمَتُّعُ بِرُؤْيَةِ وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ؛ فَهُوَ أَنْعَمُ النَّعِيمِ.. وما أحسن ما ساقه ابن القيم -رحمه الله- من الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في فضل هذه المنزلة؛ إذ يقول رحمه الله: ورؤيةُ وَجهِهِ المُنَزَّهِ عَنِ التَّمثِيلِ والتَّشبِيهِ كمَا تُرَى الشَّمسُ في الظَّهيرةِ والقَمرُ ليلةَ البدرِ كمَا تَواترَ عنِ الصَّادقِ المصدوقِ النَّقلُ فيهِ، وذلك موجودٌ في الصِّحَاحِ والسُّننِ والمسَانيدِ مِن رِوايةِ جَريرٍ وصُهَيبٍ وأَنسٍ وأَبي هُريرةَ وأَبي مُوسَى وأَبي سَعيدٍ..
فاسْتَمِعْ يَومَ يُنادِي المنَادِي: يَا أهْلَ الْجَنَّةِ إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَستَزِيرُكُمْ فَحَيَّ عَلَى زِيارَتِهِ، فَيَقُولُونَ: سَمْعًا وَطَاعَةً، وَيَنْهَضُونَ إِلَى الزِّيارَةِ مُبَادِرِينَ، فَإِذَا بِالنّجَائِبِ قَدْ أُعِدَّتْ لَهُمْ، فَيَسْتَوُونَ عَلَى ظُهُورِهَا مُسْرِعِينَ، حَتَّى إِذَا انْتَهَوْا إِلَى الْوَادِي الأَفْيَحِ الَّذِي جُعِلَ لَهُمْ مَوْعِدًا وَجُمِعُوا هُنَالِكَ فَلَمْ يُغَادِرِ الدَّاعِي مِنْهُمْ أحَدًا؛ أَمَرَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِكُرْسِيِّهِ فَنُصِبَ هُنَاكَ.
ثُمَّ نَصِبَتْ لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَمَنَابِرُ مِنْ نُورٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ زَبَرْجَدٍ وَمَنَابِرُ مِنْ ذَهَبٍ وَمَنَابِرُ مِنْ فِضَّةٍ، وَجَلَسَ أَدْنَاهُمْ -وَحَاشَاهُمْ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ دَنِيٌّ- عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ، مَا يَرَوْنَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَرَاسِي فَوْقَهُمْ فِي الْعَطَايَا، حَتَّى إِذَا اسْتَقَرُّوا فِي مَجَالِسِهِمْ وَاطْمَأَنَّتْ بِهِمْ أَمَاكِنُهُمْ نَادَى مُنَادٍ: يَا أهْلَ الْجَنَّةِ إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنَّ يُنْجِزُكُمُوهُ فَيَقُولُونَ: مَا هُوَ؟! أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وَيُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا، وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَيُزَحْزِحْنَا عَنِ النَّارِ؟!
فَبَيْنَما هُمْ كَذَلِكَ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ أَشَرَقَتْ لَهُ الْجَنَّةُ فَرَفَعُوا رُؤُوسَهُمْ فَإِذَا الْجَبَّارُ جَلَّ جَلاَلُهُ قَدْ أَشْرَفَ عَلَيهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَقَالَ: يا أهْلَ الْجَنَّةِ سلامٌ عَلَيكُمْ. فَلَا تُرَدُّ هَذِهِ التَّحِيَّةُ بِأَحْسَنَ مِنْ قَوْلِهِمْ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلامُ وَمِنْكَ السَّلامُ تَبَارَكْتَ يا ذَا الْجَلاَلِ وَالْإكْرَامِ، فَيَتَجَلَّى لَهُمُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَضْحَكُ إِلَيهِمْ وَيَقُولُ: يا أهْلَ الْجَنَّةِ. فَيَكُونُ أَوَّلُ مَا يَسْمَعُونَ مِنْه تَعَالَى: أَيْنَ عِبَادِي الَّذِينَ أَطَاعُونِي بِالْغَيْبِ وَلَمْ يَرَوْنِي؟ فَهَذَا يَوْمُ الْمَزِيدِ، فَيَجْتَمِعُونَ عَلَى كَلِمَةِ وَاحِدَةٍ، أَنْ قَدْ رَضِينَا فَارْضَ عَنَّا، فَيَقُولُ: يا أهْلَ الْجَنَّةِ إِنَِّي لَوْ لَمْ أَرْضَ عَنْكُمْ لَمَا أَسْكَنْتُكُمْ جَنَّتِي.
هَذَا يَوْمُ الْمَزِيدُ فَاسْأَلُونِي، فَيَجْتَمِعُونَ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ: أَرِنَا وَجْهَكَ نَنْظُرُ إِلَيكَ، فَيَكْشِفُ لَهُمُ الرَّبُّ جَلَّ جَلاَلُهُ عَنْهُ الْحُجُبَ وَيَتَبَدَّى لَهُمْ فيَغشَاهُمْ مِنْ نُورِهِ مَا لَوْلاَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَضَى أَلاَّ يَحْتَرِقُوا لاحْتَرَقُوا. وَلَا يَبْقَى فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسُ أحَدٌ إلاَّ حَاضَرَهُ رَبُّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُحَاضَرَةً حَتَّى إِنَّه لَيَقُولُ: يا فُلاَن، أَتَذْكُرُ يَوْمَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا، يُذَكِّرُهُ بِبَعْضِ غَدَرَاتِهِ فِي الدُّنْيا، فَيَقُولُ: يا رَبِّ، أَلَمْ تَغْفِرْ لِي؟ فَيَقُولُ: بَلَى، بِمَغْفِرَتِي بَلَغْتَ مَنْزِلَتَكَ هَذِه. اهـ.
وَالْحَديثُ عَنِ الْجَنَّةِ حَدِيثٌ طَوِيلٌ لَا يَنْتَهِي؛ لِأَنَّهَا دَارُ الرَّحْمَنِ، وَخَزَائِنُ الرَّحْمَنِ لَا تَنْفَدُ، وَعَطَايَاُهُ لَا تَنْقَطِعُ.
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ: هَذِهِ هِيَ الْجَنَّةُ، فَهَلْ رَأَيْتُم أَشَدَّ غَبْنًا مِمَّنْ يَبِيعُ الْجِنَانَ الْعَالِيَةَ بِحَيَاةٍ أَشْبَهَ بِأَضْغَاثِ أحْلاَمٍ؟! يَبِيعُ الْفِرْدَوْسَ بدُنيَا قَصِيرَةٍ وَأَحْوالٍ زَهِيدَةٍ مَشُوبَةٍ بِالنَّقْصِ مَمْزُوجَةٍ بِالْغُصَصِ؟! بحَيَاةٍ حَقِيرَةٍ؛ إِنْ أَضْحَكَتْ قَلِيلًا أَبْكَتْ كَثِيرًا، وَإِنْ سَرَّتْ أيَّامًا أَحْزَنَتْ دُهُورًا!!
فَيَا مَعْشَرَ الْمُشْتَاقِينَ إِلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ!! جَاهِدُوا أَنْفُسَكُمْ بِتَرْكِ الشَّهَوَاتِ، وَتَنَافَسُوا فِي فِعْلِ الْخَيْرَاتِ: يُسْكِنْكُمْ مَوْلَاكُمُ الْجَنَّاتِ وَيَرْفَعُ لَكُمُ الدَّرَجَاتِ.
اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا يُقَرِّبُ إِلَيهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا يُقَرِّبُ إِلَيهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ.
صَلُّوا يا عِبَادَ اللَّهِ وَسَلِّمُوا |