العربية
المؤلف | منصور محمد الصقعوب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات |
كن على حذَر من سهام الليل, فكم بدَّلَت من نعيم!, وجلبت من ذلّ! وأعقبت من جحيم, واعتبر بنهايات الظالمين.. وإذا دعتك قدرتك اليوم إلى ظلم غيرك, فتذكر أن من وراءك يومًا عبوسًا قمطريرًا, تمثل فيه بين يدي الحكم العدل, ويقال فيه هناك للمظلوم اقتص من ظالمك, والقصاص هناك أشق من كل شيء, إنه يكون بأخذ الحسنات التي عملتها, فإن لم يكن لديك حسنات أخذ من سيئاته وطرحت عليك, فما أسوأها من عاقبة!!..
الخطبة الأولى:
الحمد لله الغني الحميد, المتكفل بشؤون الخلائق وتدبير العبيد, وسع كل شيء رحمة ولطفًا وأحصى كل شيء خلقه ثم هدى, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في النعوت والصفات, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ومن ختمت بنبوته الرسالات, اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أولي الفضائل والكرامات.
أما بعدُ: فأي وصية أعظم من وصية أوصاها الله لأنبيائه وعباده؟!, وأي شرف يناله من أخذ بالوصية الربانية (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)[النساء: 131] فاتقوا الله أيها المؤمنون.
معشر الكرام: تذكر كتب التاريخ أن البرامكة كانوا في عهد الرشيد, وكان لهم في عهده شأنٌ رفيع يوازي قدر الخليفة, كانوا هم المتنفذين, ولهم من الحظوة والقرار, والمنزلة والأموال, ما لا يفوقهم فيه إلا الخليفة, وفي يوم من الأيام ولأسباب تكلم المؤرخون عنها حلّت النكبة بالبرامكة, فقتل الرشيد وزيره منهم, وسجن والده وإخوته, وأخذ أمواله وجعلها في بيت المال, وردّ بساتينه وغلمانه.
وبينما يحيى بن خالد وابنه الفضل جالسين في السجن تذكرا ما كان لهما من النعمة, وما حلّ بهما اليوم من الذل والنقمة, قال الولد لأبيه: يا أبتِ! بعد العز والنعيم ما الذي أوصلنا إلى هذا المكان؟!, فقال الأب: "يا بني دعوة مظلوم سرت بليل غفلنا عنها ولم يغفل الله عنها" ثم أنشأ يقول:
رب قومٍ قد غدوا في نعمة | زمنًا والدهر ريانُ غدِق |
سكت الدهر زمانًا عنهم | ثم أبكاهمُ دمًا حين نطق |
مكث الأب في السجن حتى مات, وحينها وُجِدَ في جيبه رقعة مكتوب فيها بخطه مخاطبًا الرشيد: قد تقدم الخصم والمدعى عليه بالأثر، والحاكم الحكم العدل الذي لا يجور ولا يحتاج إلى بينة.
وذكر الزجاجي في أماليه أن رجلاً غصب ذهبًا من امرأة وأخذه ظلمًا فلما نظر فيه وجد أنه قد كتب عليه:
إذا جار الأمير وصاحباه | وقاضِ الحكم داهن في القضاء |
فويل ثم ويل ثم ويل | لقاضي الأرض من قاضي السماء |
إنه الظلمُ يا كرام, ذلكم المرتع الوخيم والخلق اللئيم, الذي متى فشا الظلم في أمة وشاع أهلكها ومتى حلّ في قرية دمَّرها.
الظلمُ الذي توعد الله أهله في كتابه فقال: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ)[الزخرف: 65]، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)[الشعراء: 227]، (فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[المؤمنون: 41]، بل واستبعد فلاحهم, فقال: (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)[الأنعام: 21]، ونفى محبته لهم فقال: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)[آل عمران: 57]، ولعنهم فقال (أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)[هود: 18], ونزَّه نفسه عنه فقال: (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ)[غافر: 31]، وحرّمه على نفسه, وجعله محرَّمًا على عباده.
بالظلم قصمت قرى حين ظلمت, فبدل الله نعيمها جحيمًا وعزها ذلاً (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً)[الأنبياء: 11].
إنه الظلم, تنأى عنه البهائم, في حين أن فئامًا من بني آدم لا يبالون في الوقوع فيه.
ولعظيم جُرْمه, وأكيد ضرره؛ ورد ذمُّه في أكثر من مائتين من الآيات, أما المصطفى الكريم فحذر منه في نصوص كثيرات, فمن منا يغيب عنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته"، ومن منا يعزب عن خاطره "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا"، أو يغفل عن قوله: "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة".
يا مسلمون: ويشاء الله بحكمته أن تتفاوت مراتب الناس في دنياهم, ليبتلي الرفيعَ بمن دونه, ويبتلي المرءَ بمن تحت يده, هل يعدلُ فيهم أم يظلم, وبطبيعة الحال فإن الظلم لن يكون من الأسفل للأعلى بل بالعكس.
ودين الإسلام يا كرام هو دين العدل والإنصاف, دينٌ حثَّ أتباعه على العدل وحذّرهم من الظلم حتى مع البهائم, فلقد دخلت امرأةٌ النار بسبب ظلم هرّة, فكيف بظلم بني آدم, وعمر –رضي الله عنه- وهو من قامات العدل قال: "لو عثرت دابة في دجلة لخشيت أن يسألني الله عنها: لِمَ لَمْ تُصلح لها الطريق"؟!
يا كرام: ولئن كانت الحياة الدنيا هي ميدان العمل ولا جزاء, فالجزاء في الآخرة, إلا أن الله قد يعجل عقوبة بعض الذنوب, وأكثر ما يتجلى هذا في الظلم, وفي الحديث "ما من ذنب أجدر أن يعجّل الله له العقوبة في الدنيا مع ما يدّخره له في الآخرة مثل البغي وقطيعة الرحم".
كم رأى الناس ظالمًا يتجبر, ومظلومًا يئن ويشكو, ولا تدوم الأمور, بل يغير الله الحال, وشواهد التاريخ من ذلك أكثر من أن تُحْصَر, فاطمئن أيها المظلوم, واحذر أيها الظالم, وقد خاب من حمل ظلمًا.
فما من يدٍ إلا يد الله فوقها | ولا ظالمٍ إلا سيبلى بأظلم |
فإلى كل ظالمٍ آذى عباد الله, وظلم من تحت يده, من زوجة أو موظف أو عامل أو غير ذلك, ضع نصب عينيك هذه الكلمة: إذا دعتك قدرتك اليوم إلى ظلم غيرك, فتذكر أن من وراءك يومًا عبوسًا قمطريرًا, تمثل فيه بين يدي الحكم العدل, ويقال فيه هناك للمظلوم اقتص من ظالمك, والقصاص هناك أشق من كل شيء, إنه يكون بأخذ الحسنات التي عملتها, فإن لم يكن لديك حسنات أخذ من سيئاته وطرحت عليك, فما أسوأها من عاقبة, قال رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: "من كانت عنده مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن يكون دينار ولا درهم؛ إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته, وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه".
يا من ظَلم غيره! كيف تنامُ قرير العين ووراءك من ظلمته يدعو عليك, ويتحرى أوقات الإجابة ليرفع شكواه إلى الذي لا يرد دعوة مظلوم, بل يقول لها "وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين"؛ فكن على حذَر من سهام الليل, فكم بدَّلَت من نعيم, وجلبت من ذلّ, وأعقبت من جحيم, واعتبر بنهايات الظالمين.
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرًا | فالظلم مرتعه يفضي إلى الندم |
تنام عيناك والمظلوم منتبه | يدعو عليك وعين الله لم تنم |
كم من مظلومٍ بات ظالمه غافلاً نائمًا, وبات هو ليلَة قائمًا من شدة ظِلامته يدعو على من ظلمه, فكيف يرجو سعادة وتوفيقًا وفلاحًا من ظلم غيره.
لقد حبس الحجاج رجلاً ظلمًا, فكتب إليه رقعة مكتوب فيها: قد مضى من بؤسنا أيام, ومن نعيمك أيام, والموعد القيامة, والسجن هناك جهنم, والحاكم -وهو الله- لا يحتاج لبينة, وكتب في آخرها:
ستعلم يا نؤوم إذا التقينا | غدًا عند الإله من الظلوم |
أما والله إن الظلم لؤم | وما زال الظلوم هو الملوم |
سينقطع التلذذ عن أناسٍ | أداموه وينقطع النعيم |
إلى ديان يوم الدين نمضي | وعند الله تجتمع الخصوم |
ومع كل هذا: فإلى كل من ظلم غيره: إن رحمة الله واسعة, وباب الرجاء قد فتحه الله لعباده حين قال (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة: 39]، فما أجمل أن نعود كي نرضي من أغضبنا, ونتحلل ممن ظلمنا, قبل أن يكون الأمر بالحسنات وهناك يكون الإفلاس حقًّا, يوم أن يرى المرء أعماله الصالحة تُهدَى لمن ظلمه، ومن شتمه ومن أكل ماله, فهناك الإفلاس حقًّا, وهناك تتجلى عقوبة الظالم صدقًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله العزيز الجبار, المنتقم من الظلمة والفجار, والصلاة على النبي المختار, وسلم تسليما.
أما بعد: فإلى كل مظلوم أضناه الظلم, وأقضَّ مضجعه الضيم, إلى كل مظلوم لم يجد من يرفع ظلامته ويكشف بلاءه, إلى كل مظلوم أُغلِقَت أمامه أبواب الخلق, وعجز عن أخذ حقه ورفع كربه, أبشر فإن الله يملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته.
لا تحسبن الله يخفى عليه ظلم الظالمين فهو يسمع ويرى ولا تخفى عليه خافية.
ولن يقدّر عليك ربك إلا ما فيه خيرك, فاطمئن لتدبيره.
وأيقن أيها المظلوم أنك ستوقف أنت والظالم إن في الدنيا وإلا ففي الآخرة, فإن عفوت, فلمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور, وهو أعظم لأجرك وأرفع لقدرك عند ربك, وإن لم تعفُ فالله مغيث كل مظلوم, ولو تخاذل الناس عن نصرته.
أيها المظلوم: أيقن بقرب الفرج, وأنه مهما اشتد الأذى وطال ليل الظالم إلا أن الفجر قريب, لكنه لا يطلع الفجر إلا بعد أشد الأوقات ظلمة.
لقد عاش في الأرض أقوامٌ منهم الظالم ومنهم المظلوم, ومضى الظالم والمظلوم, كلاهما قد عاش فقل لي بربك أيهما أربح تجارة؟!
إن المظلوم وإن تكدر يومه, وذاق الأمرّين, وإن ضيق عليه رزقه أو ظلمه من فوقه, فإنه يوقن أن الدنيا دار بلاء, وأن من وراءه آخرة يسعد فيها وينال أجره, وبغمسة في الجنة سينسى كل مرارة ذاقها, وليلة من الظلم سهرها, ودمعت من الضيم أسبلها, ويقول حينها: لا والله يا رب ما مر بي شدة قط ولا رأيت بؤسًا قط.
فاطمئن فما الدنيا بأكدارها وبأفراحها, وبأحزانها وسرورها إلا كلمح بصر, ما أسرع ما تزول, فاحمد الله أن كنت مظلومًا ولم تكن ظالمًا.
عبد الله: إن رأيت ظالمًا أو مظلومًا فإن حقهما عليك النصر, أما المظلوم فتسعى لرد ظلامته, وأما الظالم فتحجزه عن الظلم, فذاك نصرُه, وليس بكريم من تخلى عن نصرة إخوانه, وفي الحديث "ما من امرئ يخذل امرأ مسلمًا في موضع تُنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه؛ إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلمًا في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته؛ إلا نصره الله في موطن يحب نصرته".
وإذا كان ربنا يعاقبُ من باشر الظلم, ومن أعانه, حيث قال (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ)[هود: 113]؛ فإن من رأى ظلامة فما سعى في كشفها فيخشى عليه العقوبة (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[الأنفال: 25]، وفي الحديث "إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب".
وبعد أيها المسلمون: فبالعدل قامت السماوات والأرض, وبالظلم والجور تخرب الديار وتحل المصائب ويتفكك المجتمع, فكن عدلاً في تعاملاتك، وتفقّد نفسك مع نفسك, ومع أهلك وأبنائك ومن هم تحت يدك, وتحلل ممن ظلمت وردَّ مظلمة من قدرت, وانج اليوم بنفسك.
وستمضي الأيام وستُدَوَّن الأعمال، وسيلقى الظالم والمظلوم جزاءهم، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.