الحق
كلمة (الحَقِّ) في اللغة تعني: الشيءَ الموجود حقيقةً.و(الحَقُّ)...
العربية
المؤلف | عبداللطيف بن عبدالله التويجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | السيرة النبوية |
والوصيةُ الأخيرةُ لي ولكَ -أيُّها المباركُ- أن نعرضَ مهامَّنا اليوميةَ على ساحلِ حياتِه -صلى الله عليه وسلم-، فننهلَ من معينِه، ونستسقي من أخلاقِه، ونحاكي تعامُلَه، وننشرَ سُنَّتَهُ، ونكونَ نعمَ مَن يحملُ رسالته -صلى الله عليه وسلم- لجميع البشر...
الخطبة الأولى:
أمَّا بعدُ: أحبَّهُ الجبلُ قبلَ السهل، ورفعَ اللهُ ذِكْرَه، وباركَ اللهُ لهُ ولأهلِ بيتِه وأهلِ مدينتِه، وفي غضونِ عقدٍ منَ الزمنِ حدثَ على يديهِ النقلةُ الكبرى في مسيرةِ البشرية، فأخرجَهُمُ اللهُ بِهِ منَ الظلماتِ إلى النور، ومنَ الجَوْرِ إلى العدل، ومن الضيقِ إلى السعة، وقد كانتْ أيامُه وعاءً لهذِهِ المهمةِ الكبرى، فلمْ يكنْ يومُه مجردَ ورقةٍ تُطْوَى، أو وقتٍ يمضي فحسب.
بلْ كانتِ الإنجازاتُ تتدافعُ في ساعاتِ هذا اليومِ، فلمْ تكنْ هناكَ دقيقةٌ منْ هذا اليومِ المباركِ إلّا وهيَ مغتنَمَة، فالاغتنامُ والبركةُ هيَ شعارُ اليوم في حياةِ هذا النبيِّ العظيمِ -صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّم-.
ولكَ أنْ تتخيلَ -أخي المبارك- لحظات هذا اليومِ ومحطاتِه في سيرتِه -عَلَيْهِ الصلاةُ والسلامُ-، فمعَ خيوطِ الفجرِ كانَ أذانُ بلالٍ يصدحُ في أرجاءِ معقلِ الإيمان، فيستيقظُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيصلّي بالناسِ صلاةَ الفجر.
وما أجملَ نورَ الصباحِ في طَيْبَةَ، حينَ يلتقي بنورِ وجهِه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ليتَ شعري كيفَ شعورُ الصحابةِ وهيَ تشاهدُ هذه الأنوار الزاكية وهي تجتمع؟! يصفُه شاعرُهم فيقول:
إِنَّ الرَسولَ لَنورٌ يُستَضاءُ بِهِ | مُهَنَّدٌ مِن سُيوفِ اللَهِ مَسلولُ! |
هذا الصباحُ كالبستانِ المثمر الغَنَّاءِ بأقواتِ الروحِ وغذاءِ القلب، فتارةً يُتحفُهم بوعظِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كمَا في حديثِ العرباضِ بنْ ساريةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- المشهور: "صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَاةَ الْفَجْرِ، ثُمَّ وَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ...".
وتارةً يغرفُ لهمْ مِنْ بحرِ أُبُوَّتِهِ متفقدًا لأحوالِهم ولكروبِهم: "هلْ فيكمْ مريضٌ أعودُه؟ هلْ فيكمْ جنازةٌ أتبعُها؟ مَنْ رأى منكمْ رؤيا يقصُّها علينا؟".
وربّمَا كانَ هذا الصباحُ بلونِ المرحِ يضحكونَ فيهِ منْ جهلِهم في الجاهليةِ فيضحكون ويتبسمُ لهمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
ثمَّ بعدَها يقومُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى حجراتِ نسائِه يطوفُ عليهن، فيفيضُ على أهلِ بيتِه منْ عبقِ الحنانِ والاهتمامِ كما أفاضَ على أهلِ مسجدِه:
يـا مَن لَهُ الأَخلاقُ ما تَهوى العُلا | مِـنـهـا وَمـا يَـتَعَشَّقُ الكُبَراءُ |
زانَـتـكَ في الخُلُقِ العَظيمِ شَمائِلٌ | يُـغـرى بِـهِـنَّ وَيـولَعُ الكُرَماءُ |
في شرقيِّ المسجدِ في الروضةِ الشريفة، كانَ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعقدُ مجلسَه، فكانَ مفتوحًا لكلِّ الناس، لمْ يعرفْ حرسًا ولا عسكرًا، وفي هذا المجلسِ سطرُوا كثيرًا منْ ذكرياتِهم -رضوانُ اللهِ عَلَيْهِمْ- معه، ورَوَوا عنهُ العلمَ وما كانَ هذَا المجلسُ مقيدًا بسجلاتِ الحضورِ والغياب، بلْ كانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقدِّرًا لهُمْ ظروفَ حياتِهم وأعمالِهم وحرفِهم.
في دقائقِ اليومِ النبويِّ ليسَ للتكلفِ والتصنعِ والرتابةِ مكان، فالوعظُ ممزوجٌ بالعلم، والعلمُ ممزوجٌ بالمرح، فلا يكلُّ الجالسُ ولا يملُّ الصاحب:
إمامٌ لهمْ يهديهمُ الحقَّ جاهداً | معلمُ صدقٍ، إنْ يطيعوهُ يسعدوا |
عَفُوٌّ عن الزّلاّتِ، يَقبلُ عُذْرَهمْ | وَإِنْ يُحسنوا، فاللهُ بالخيرِ أجودُ |
نعم! كانَ هذا المجلسُ علميًّا مِنَ الطرازِ الرفيعِ الذي لا يسمحُ الزمانُ بمثلِه، فالتعليمُ لمْ يكنْ تلقينًا مُمِلًّا، بلْ تَرَى فيهِ السبقَ النبويَّ لجميعِ نظرياتِ التربيةِ والتعليم، فتنوعُ وسائلِ التعليمِ هوَ استراتيجيةُ هذا المجلسِ شَحْذًا لذهنِ المتعلم، وأساليب تشويقة: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلاَثَةِ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ" (رواه البخاري).
ومنْ عجائبِ هذا المجلسِ العلميِّ تفاوتُ أعمارِ المتلقِّين، وقدْ كانَ لبُّ هذا المجلسِ: الحوارَ المؤدبَ، ومكانُه المسجدُ، ويكادُ أن يكون شطرُ اليومِ النبويِّ كلُّه في رحابِ المسجدِ النبويِّ الجميل.
وفي هذهِ الجامعةِ النبويةِ لمْ يكنْ شأنُ الأخلاقِ أقلَّ حظًّا منْ شأنِ المعرفة، فالأخلاقُ مقررٌ يستوفي كلَّ الساعات، فقدْ كانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجلسُ معَ أصحابِه ولمْ يتميزْ عنهُمْ بشعار، يأتي الغريبُ فلا يميزُه كعادةِ الزعماءِ والملوك، فيسأل: أيُّكمْ ابنُ عبد المطلب؟ فيجيبونه: هذا الأبيضُ المتكئ! جالسٌ بينهمْ بكلِّ تواضعٍ وهيبةٍ وخشوعٍ.
وقدْ كانتْ هذهِ الجامعةُ مفتوحةً لكلِّ الناسِ، فكانَ يُؤتَى بصبيانِ المدينةِ فيدعُو لهمْ ويحنّكُهُمْ ويبرِّكُ عليهِم، وفيهِ إشارةٌ نبويةٌ عظيمةٌ بحقوقِ الأطفال.
ولمْ يكنْ يومُ نبيِّكم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَلِيًّا مِنْ زياراتٍ وصلةٍ للأرحام، ولا صفرًا منْ عياداتِ المرضى من أصحابِه -رضوانُ اللهِ عليهم-، بلْ ولَا منَ المشيِ في الأسواقِ والطرقاتِ كعادةِ البشر.
بل يزورُ مريضًا، ويسعَى في قضاءِ حاجة، ويمشي في السوق، ويصلُ الأرحام، ويُكرمُ الأضيافَ.
وَحُقَّ لهذا الجسدِ المباركِ بعدَ هذه المهامِّ الكبرى والوظائفِ العظمى أنْ يرتاح في المنزل، وكانتْ هذهِ الساعةُ هيَ حظُّ أهلِه فيه، وربَّمَا انقلبَ مجلسًا خاصًّا فكانَ في بعضِ الأحايينِ يُفتي بالمسائلِ الخاصةِ؛ كمسائلِ النساءِ بمحضرٍ منْ أمهاتِ المؤمنين، وكانَ أيضًا وقتًا خاصًّا لخاصةِ أصحابِه في الأمورِ العارضةِ لهم، وربما كانَ يقيلُ -صلى الله عليه وسلم- في بيتِ خالتِه أُمِّ سُلَيْمٍ، فلمَّا قِيل له: قال: "إني أرحمُها؛ قُتِل أخوها معي".
وَإِذا رَحِــمـتَ فَـأَنـتَ أُمٌّ أَو أَبٌ | هَـذانِ فـي الـدُنيا هُما الرُحَماءُ! |
عبادَ الرحمن: وكانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستفتحُ مساءَه بصلاةِ الظهر؛ ولأنّ هذا الوقتَ هو محلُّ اجتماعِ الناسِ بعدَ قيلولتِهم وراحتِهم، وصفاءِ أذهانِهم كانَ -صلى الله عليه وسلم- يخصصُها للخطبِ والتذكيرِ في الأمورِ العارضة، كما في خطبتِه عندمَا تمعَّرَ وجهُه حينَ رأى وفدَ مُضر ومَا بهمْ من فاقةٍ وجوعٍ، فخطبَ ونادى الناسَ لمساعدتِهم والوقوفِ معهم.
وربَّما قضاها في قضاءِ حوائجِ المسلمين؛ كما في قسمتِه لميراثِ بناتِ سعدِ بنِ الربيعِ وهنَّ أولُ نسوةٍ ورثنَ من أبيهنَّ في الإسلام.
وكانَ صلى الله عليه وسلم يراعي حالَ الناسِ بعدَ صلاةِ العصر؛ وذلك لحاجتهم للانصراف لإكمال أعمالِهِم وإعداد عشاءِهم، ثم ينقلبُ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم إلى بيوتِ نسائِه فيطوفُ عليهنَّ جميعًا، ثم يبيتُ عندَ التي تكونُ نوبتُها.
وهنا كانَ صلى الله عليه وسلم يصنعُ القدوةَ لبيوتِ المسلمينَ في عهدِه ومنْ بعدِه منْ خلالِ تلكَ المجالسِ الأسريةِ العلميةِ؛ فكانَ يمزجُ لهنَّ العلمَ بالحُبّ، وهذهِ المجالسُ هي التي تخرجتْ منها عائشةُ -رضيَ اللهُ عنها- وسائرُ أمهاتِ المؤمنين؛ إذْ كانتْ هيَ ساعتهنّ للمذاكرةِ معَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وفيهَا سألتْه عائشةَ -رضيَ اللهُ عنها-: "هلْ أتى عليكَ يومٌ كانَ أشدُّ من أُحُد؟!".
معاشرَ الأحبة: ولا زلنا في ساعاتِ هذا اليومِ المبارك؛ إِذْ كانت الصلاةُ هيَ مفاصل هذا اليومِ وحياته، فإذا غربت الشمسُ خرجَ صلى الله عليه وسلم إلى صلاةِ المغرب، ولا يتحدثُ بعدَها للناسِ كسائرِ الصلواتِ لحاجةِ الناسِ للانصرافِ، وقدْ كانَ هذا الوقتُ هو وقتَ عَشائِهم، وكانَ يأمرُ أصحابَه أنْ يأخذُوا معهم فقراءَ المسلمين، ويبدأُ بنفسِه فربّما أخذَ عشرةً فذهبَ بهم إلى بيتِه إنْ كانَ عندَه طعامٌ، ولئنْ كانتْ حجراتُه -صلى الله عليه وسلم- لا تتجاوزُ غرفةً في بيوتِنا، فلقدْ كانَ صدرُه أوسعَ وأرحبَ من جميعِ قصورنا!
وهكذا تتزاحمُ الشمائلُ المحمديةُ وتأخذُ بعناقِ بعضِها بعضًا، فمَا أن تتبدى لكَ حسنى حتى تدلُّك على أختِها ثم يختمُ صلى الله عليه وسلم يومَه بالصلاةِ لوقتِ العِشَاءِ كما استفتح يومَه -صلى الله عليه وسلم- بالصلاةِ مُتَّبِعًا تعاليمَ القرآن وتوجيهاتِه: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا)[الْإِسْرَاءِ: 79].
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
أما بعد: أما الليلُ النبويُّ -يا أحبة- فله شأنٌ آخرَ في يومه -صلى الله عليه وسلم-، كيف وربُّه -تعالى- يقولُ له: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)[الشَّرْحِ: 7-8].
وصلاتُه -صلى الله عليه وسلم- في الليلِ لمْ تكنْ كأيِّ صلاة، تصفُها زوجُه أُمُّ المؤمنين عائشةُ -رضيَ اللهُ عنها- فتقول: "مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلاَ فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلاَ تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلاَ تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلاَثًا". (رواه البخاري ومسلم).
وَحَلِّقْ بقلبِك في قولِها -رضيَ اللهُ عنها-: "فلا تسلْ عن حسنِهن وطولِهن" إنّها الذائقةُ الإيمانيةُ التي اكتسبتْها -رضيَ اللهُ عنها- من عشرتِه -صلى الله عليه وسلم-.
"فلا تَسَلْ عن حسنِهن وطولِهِن" إنها صلاةٌ حسناء، وحسبُك أنْ تصفَها أُمُّ المؤمنينَ عائشةُ -رضيَ اللهُ عنها- بذلك، إنّها صلاةٌ حضرَ فيهَا الروحُ والجسدُ، فكانتْ جديرةً بهذا اللقبِ الحسنوي؛ لأنها مُزَكَّاةٌ من السماء، نقيةٌ في الصفاء، فعلام لا تكونُ (حسناء)؟!
وهكذا تستغرقُ الصلاةُ ليلَه، فإذا بقيَ سدسُ الليلِ نامَ الجسدُ الطاهرُ، وارتاحَ في هذا الوقتِ اليسير.
يَبِيتُ يُجَافي جنبَه عَنْ فِرَاشِه | إذَا استثقلتِ بِالمشركينَ المضاجعُ! |
ومن عجائبِ لياليه -صلى الله عليه وسلم- أنَّه حينَ أوشكتْ أيامُه -صلى الله عليه وسلم- على الرحيل، اشتاقَ إلى صحابتِه الذين رحلُوا قبلَه، فكانَ مِنَ الوفاءِ لهم يخرجُ إلى مراقدِهم في البقيعِ ليلًا والناسُ نائمون، فيدعُو لهم ويستغفرُ لهم، إنّه الوفاءُ في أحلى صورة:
يا سيدَ الأبرارِ حبُّك في دمِي | نهرٌ على أرضِ الصبابةِ جَارِ! |
وهكذا يتصرمُ الليلُ ما بينَ صلاةٍ ودعاءٍ وَذِكْرٍ واستغفارٍ ونومٍ، وبهذا ينتهي هذا اليومُ النبويُّ المدهشُ ليبدأَ يومٌ آخرُ مع بزوغِ فجرٍ جديد، على صوتٍ شجيٍّ جديدٍ، نداءِ المؤذنِ الحبيبِ بلال بن رباح "الصلاة خير من النوم".
وبعدُ أيُّها الأحبةُ الكرام: صحيحٌ أنَّ هذه إشارةٌ سريعةٌ في يومٍ واحدٍ في حياتِه -صلى الله عليه وسلم-، ولكنّه في أعمارِ غيرِه منْ نخبةِ البشرِ بلْه عن غيرِهم من العامة شهورٌ وسنوات، وسرُ هذه البركة -والله أعلم- هوَ في الذكرِ الشموليِّ بجميعِ أنواعِه وصورِه، فقدْ كانَ صلَّى اللهُ عليه وسلم يلهجُ بذكرِ اللهِ قائمًا وقاعدًا وعلى جنبِه استغفارًا وتسبيحًا وصلاةً وقرآنًا، وهنا سرُّ العظمةِ والقوة، فَمَنْ وَجَدَ اللهَ فماذا فَقَدَ؟! وَمَنْ فَقَدَ اللهَ فماذا وَجَدَ؟!
إننَا في تدافُعِ الحياةِ وازدحامِها، وسباقِ الوقتِ وتراكُمِ المهامِّ لابدَّ أن نعرضَ أيامَنا على هذا اليومِ النبويِّ المبارك.
إنَّنَا بأمسِّ الحاجةِ أنْ نغترفَ منْ هذا البحر: الإنجازَ الهاديَ، والتعاملَ الراقي، والعطاءَ الباقي.
كذلكَ إذَا تأملتَ في يومِه -صلى الله عليه وسلم- وجدتَ أن أبرزَ طريقٍ سلكَه إلى قلوبِ الناسِ كانَ بعدَه عن التكلُّفِ وتواضُعَه.
كانت السهولةُ والعفويةُ جسرَه إلى القلوب، يضحكُ مع أصحابِه، ويداعبُ صغارَهم، ويتوثَّبُ في نشوةِ الفرحِ حتى يسقطَ رداؤه لتلقي حبيبٍ بعدَ طولِ غياب، وقدْ زادتْه هذه البساطةُ حُبًّا في القلوب، وإجلالًا في النفوس.
أيها الأحبة: هذا اليومُ النبويُّ كانَ مُرَصَّعًا بالفرحِ والبهجة، الفرحِ بكلِّ معانيه، الفرحِ باللهِ وبه، والفرحِ معَ خلقِه.
نعمْ إنّه برغمِ جسامةِ المهمة، وَعِظَمِ الوظيفة؛ إلا أن الفرحَ وانشراحَ الصدر، كانَ مُلَازِمًا له -صلى الله عليه وسلم- فأنى لمنقبضِ الصدرِ أن يقومَ بواحدةٍ من وظائفِه -صلى الله عليه وسلم-؟!
لقدْ تتابعتْ عليه -صلى الله عليه وسلم- محنُ الحياةِ ونوائبُها الشديدة، ومعَ ذلك كان رؤوفا رحيما بالمؤمنين.
والوصيةُ الأخيرةُ لي ولكَ -أيُّها المباركُ- أن نعرضَ مهامَّنا اليوميةَ على ساحلِ حياتِه -صلى الله عليه وسلم-، فننهلَ من معينِه، ونستسقي من أخلاقِه، ونحاكي تعامُلَه، وننشرَ سُنَّتَهُ، ونكونَ نعمَ مَن يحملُ رسالته -صلى الله عليه وسلم- لجميع البشر.
أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الْأَحْزَابِ: 21].