البحث
كلمة (عظيم) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وتعني اتصاف الشيء...
العربية
المؤلف | سامي بن خالد الحمود |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | السيرة النبوية |
إنَّها رحلة مباركة طيبة، بدأت بأقدس بقاع الأرض، وانتهت بأعلى طبقات السماء، قال سبحانه: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى? بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الإسراء:1]. إنها رحلة الإسراء والمعراج. فكيف كانت هذه الرحلة؟ وما الدروس المستفادة منها؟.
أما بعد: ها هو الداعية الأول -صلى الله عليه وسلم- في مكة، يدعو قومه إلى الله تعالى، سنوات مأساوية، مليئة بالعواصف العاتية من التعذيب والإيذاء، والبغضاء والافتراء، مزّق شمل أتباعه، وسامهم أهل مكة سوء العذاب.
ثم كان العام العاشر من البعثة العام الحزين الذي فقد فيه -صلى الله عليه وسلم- عمه أبا طالب الذي كان ينافح عنه ويدفع عنه أذى قريش، وبعد وفاة أبي طالب بثلاثة أيام أو شهرين يُفجَع النبي -صلى الله عليه وسلم- بموت رفيقة دربه السيدة خديجة -رضي الله عنها-، وهي من في مؤازرتها له وقوفها إلى جانبه في أشد المواقف على مدى خمسة وعشرين عاماً.
يتلفت -عليه الصلاة والسلام- في مكة فلا يجد مَن ينصره ليبلغ رسالة ربه، فيخرج إلى الطائف، ويعرض دعوته على ثقيف، فيردون عليه بأقبح رد، وآذوه ونالوا منه ما لم ينل منه قومه، وأغروا به سفهاءهم يرمونه بالحجارة حتى دميت قدماه الشريفتان.
وينصرف -صلى الله عليه وسلم- من الطائف محزوناً مهموماً، يمشي ولا يشعر بنفسه، حتى استفاق في قرن الثعالب فأخذ يناجي ربه بالدعاء المشهور: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملَّكْتَه أمري؟ إنْ لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي غير، أن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الكريم الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل عليَّ غضبك، أو ينزل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك".
ثم يعود -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة، فلم يستطع دخولها إلا تحت جوار المطعم بن عدي، وهو رجل مشرك.
في ظل هذه الأجواء الكالحة، والظروف الحرجة، وبعد مضي ثنتي عشرة سنة من البعثة، يشاء الله، اللطيف بعباده أن يسلي رسوله، ويثبته على الحق، فيمُنّ عليه برحلة تاريخية لم ينل شرفها قبله نبي مرسل، ولا ملَكٌ مقرَّبٌ.
إنَّها رحلة مباركة طيبة، بدأت بأقدس بقاع الأرض، وانتهت بأعلى طبقات السماء، قال سبحانه: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الإسراء:1]. إنها رحلة الإسراء والمعراج. فكيف كانت هذه الرحلة؟ وما الدروس المستفادة منها؟.
أما الإسراء: فهي الرحلة أرضية من مكة إلى بيت المقدس. وأما المعراج: فهي الرحلة السماوية من بيت المقدس إلى السماوات العلا، ثم إلى سدرة المنتهى، ثم اللقاء بجبار السماوات والأرض سبحانه.
وكانت أولى محطات هذه الرحلة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان نائماً في الحِجْر في الكعبة، إذ أتاه آتٍ فشقّ ما بين نحره إلى أسفل بطنه، ثم استخرج قلبه فملأه حكمة وإيمانًا، ثم أتي بدابة بيضاء، يقال لها: البراق، يضع خطوه عند منتهى طرفه، فركب هو وجبريل حتى أتيا بيت المقدس، فدخل المسجد فلقي الأنبياءَ جميعًا، فصلى بهم ركعتين، كلهم يصلي خلف محمد -صلى الله عليه وسلم-، ثم خرج رسول من المسجد الأقصى، فجاءه جبريل بإناء فيه خمر وإناء من لبن، فاختار اللبن فقال له جبريل: اخترتَ الفطرة.
ثم عرج به جبريل إلى السماء الدنيا فاستفتح جبريل، فقيل: مَن أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به! فنِعم المجيء جاء! ففتح له فوجد آدم فسلم عليه فرد عليه السلام، وقال: مرحبًا بالابن الصالح ،والنبي الصالح.
ثم عرج به إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل ففتح له، فرأى فيها النبي عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا صلوات الله عليهم، فرحَّبا به فدعوا له بالخير، ثم عرج به إلى السماء الثالثة فإذا هو بيوسف وقد أعطي شطر الحسن، فرحب به ودعا له بخير، ثم عرج به إلى السماء الرابعة فإذا هو بإدريس عليه السلام.
ثم عرج به إلى السماء الخامسة فإذا هو بهارون فرحب به ودعا له، ثم عرج به إلى السماء السادسة فإذا هو بموسى فرحب به ودعا له بالخير، ثم عرج به إلى السماء السابعة فإذا هو بإبراهيم عليه السلام مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، وهو بيت يدخله كلَّ يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه.
ثم ذُهب به إلى سدرة المنتهى، فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها، فأوحى إليه الله تعالى ما أوحى، وفرض عليه خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فنـزل إلى موسى فقال له: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أُمتك لا يطيقون ذلك، فرجع فوضع الله تعالى عنه خمساً، وما زال يراجعه حتى استقرت على خمس فرائض في اليوم والليلة، قال الله: "يا محمد! إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة، لكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة". فنزل -صلى الله عليه وسلم- حتى انتهى إلى موسى فأخبره فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه"، ثم نادى مناد: قد أمضيت فريضتي، وخفَّفْتُ عن عبادي.
ثم عاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى فراشه قبل الصبح، أصبح النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة، وجلس كما كان يجلس في الحجر، فمر عليه أبو جهل فقال: ما عندك يا محمد؟ فقال: "لقد أسري بي الليلة إلى المسجد الأقصى"، قال: وأصبحت بيننا؟! قال: "نعم"، قال: لو دعوت لك قريشا تخبرهم بما أخبرتني به؟ قال: نعم، فنادى أبو جهل في الناس فاجتمعوا، فقال: "لقد أسرى بي الليلة إلى المسجد الأقصى"، قالوا: وأصبحتَ بيننا؟ قال: "نعم"، فارتد أناس، وأخذوا يضربون على رؤوسهم تعجبا.
ثم قالوا: يا محمد! لقد جئنا بيت المقدس وخبرناه، فهل تستطيع إذا سألناك عنه أن تجيبنا؟ قال: "نعم"، فجعلوا يسألونه فيجيبهم، فسألوه عن أشياء لم يثبتها، فكرب كربة شديدة، ما كرب مثلها قط، وإذا برب العزة -سبحانه- الذي يقول للشيء كن فيكون، يرفع المسجد الأقصى، ويجعل النبي ينظر إليه، فجعل ينظر إلى المسجد الأقصى بعينيه، ويسألونه فيجيبهم، فقالوا: أما الوصف فقد صدق، وأما الخبر فقد كذب.
هكذا كانت رحلة الإسراء والمعراج؛ وفي هذه الرحلة العظيمة دروسٌ وعِبَرٌ، لعلنا نقف على شيء منها:
أولا: إن الإيمان برحلة الإسراء والمعراج جزء من عقيدة المسلم، ذلكم أنه إحدى المعجزات التي أيد الله بها نبيه -عليه الصلاة والسلام-، والإيمان بالمعجزة جزء من العقيدة الإسلامية، وهو امتحان لإيمان المؤمنين وارتياب المنافقين؛ ولهذا ارتد من ارتد عن الدين لضعف إيمانهم وقلة يقينهم، وفاز بالصدق والصدِّيقية أبو بكر -رضي الله عنه- فسُمِّيَ صِدِّيقَاً، لإيمانه وتصديقه الجازم بمعجزة الإسراء والمعراج، وهكذا الصحابة الكرام ممن امتحن الله قلوبهم بالتقوى، ففازوا بالإيمان الراسخ، والعقيدة الثابتة.
ثانيا: لطف الله تعالى بعباده، ونصرته لأوليائه والدعاة إلى سبيله، فقد جاءت رحلة الإسراء والمعراج بعد أن اشتد برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الأذى ؛ تكريماً من الله تعالى لهم، وتجديداً لعزيمتهم وثباتهم على الدين، وثقتهم بالله رب العالمين.
ثالثا: إن الإسراء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي كان بيد بني إسرائيل فيه إشارة إلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سيرث قيادة الأمة، وسترث أمته هذه البلاد، وفي عروج الله بالنبي -صلى الله عليه وسلم- إلى السماوات العلى، ورفعه مكانا عليا فوق جميع البشر، بشارة بأن الله سيرفع كلمته ويظهر دينه على الدين كله.
رابعاً: إنَّ في صلاته -صلى الله عليه وسلم- بالأنبياء جميعا، واقتدائهم به وهم في عالم البرزخ، إشارة إلى أنهم لو كانوا أحياء في الدنيا لم يكن في وسعهم إلا اتباعه، وكأن الأنبياء عليهم السلام بصلاتهم خلفه يقولون لمن لم يتبعه من اليهود والنصارى وغيرهم: إننا لو كنا أحياءً لاتبعناه؛ فما بالكم لا تتبعونه وهو بين أظهركم؟!.
خامساً: إن في هذه الحادثة دلالة على عِظَمِ شأن الصلاة، فقد اختصها الله من بين العبادات بأن تفرض في السماء عندما كلم رسوله -صلى الله عليه وسلم- بدون واسطة.
لقد شرعت الصلاة -عباد الله- لتكون معراجا ترقى بالناس كلما تدنت بهم شهوات النفوس وأعراض الدنيا، وأكثر الناس اليوم لا يصلُّون الصلوات التي شرعها الله، فصلاتهم لا حياة فيها ولا روح، إنما هي مجرد حركات جوفاء، لأن علامة صدق الصلاة أن تعصم صاحبها من الوقوع في الخطايا، وأن تخجله من الاستمرار والبقاء عليها إن هو ألمَّ بشيء منها.
وإن من لطف الله تعالى بعباده أن خفف عنهم الخمسين صلاة على يد محمد -صلى الله عليه وسلم- وبمشورة موسى -عليه السلام- حتى بلغت خمس صلوات في اليوم والليلة، فلله الحمد لله والمنة أن خفف عنا، وأثبت لنا أجر الخمسين، والويل لمن نقص من هذه الخمس! فلم يأت بها كاملة في أوقاتها، وفي بيوت الله، كما أمر الله.
نسأل الله أن يعيننا على أداء الصلوات، والمحافظة عليها.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي خلق فسوى.
أما بعد: فالدرس السادس والأخير من دروس الإسراء والمعراج أن في هذه الرحلة تذكير للمسلمين بالأمانة العظيمة، أعني ديار الإسراء والمعراج أرض الأقصى المباركة التي ربطها الله برباط العقيدة، فهي أمانة في أعناق المسلمين جميعاً، نسأل الله أن يطهرها من اليهود الغاصبين.
فقد غدا المسجد الأقصى المبارك مستباحاً -يا مسلمين- من قبل عصابات المتطرفين والمستوطنين اليهود، الذين سمحت لهم سلطات الاحتلال بالدخول إليه بالقوة وفي ظل حماية الشرطة الإسرائيلية، التي حولت المسجد الأقصى المبارك إلى ثكنة عسكرية، في الوقت الذي تمنع فيه سلطات الاحتلال أبناء المسلمين من الوصول إلى المسجد الأقصى، وتعرقل الإعمار ومواد الصيانة اللازمة، مما يؤدي إلى إمكانية الانهيار في مرافق المسجد كما حصل قبل فترة بجدار المتحف الإسلامي الغربي الواقع في المسجد الأقصى.
عباد الله: كانت حادثة الإسراء والمعراج قبل هجرة النبي إلى المدينة، وقد اختلف المؤرخون في تحديد السنة والشهر الذي وقعت فيه هذه المعجزة العظيمة، فقيل سنة خمس من البعثة، وقيل في رجب من السنة العاشرة، وقيل في رمضان من السنة الثانية عشرة، وقيل في محرم أو ربيع الأول من السنة الثالثة عشرة، وليس على واحد من هذه الأقوال دليل صحيح يعتمد عليه .
كما أنه يجب أن تعلموا عباد الله أنه ليس في ليلة الإسراء فضل خاص، فلا تخص بقيام ولا احتفال، ولا بغير ذلك؛ فإن هذا كله من البدع، وكل بدعة ضلالة.
وبهذا يتبين خطأ الذين يحتفلون في ليلة السابع والعشرين من هذا الشهر، فوالله! لو كان ذلك خيرًا لسبقَنا إليه الصحابةُ الكرامُ، ومن تبعهم بإحسان.
فاتقوا الله عباد الله، فإن خير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن الله مع الجماعة.
ألا وصَلُّوا وسلِّمُوا -رحمكم الله- على خير البرية.